السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    غوارديولا راضٍ عن أداء مانشستر سيتي رغم استمرار نزيف النقاط    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    "رينارد" يستبعد "الشهراني" من معسكر الأخضر في الكويت    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    وطن الأفراح    المملكة ترحب بالعالم    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"سورية ، ذاكرة وحضارة" معرضاً ضخماً في باريس : بعل "راكب السحب" في أبجدية أوغاريت وأسدا ماري يلتقيان بعد فراق طويل
نشر في الحياة يوم 11 - 10 - 1993

بعد معرضه الشهير "مصر عبر العصور"، يستضيف "معهد العالم العربي" في باريس، تظاهرة مشابهة هي الاولى من نوعها بهذه الضخامة في أوروبا. فمعرض "سورية، ذاكرة وحضارة" الذي يفتح أبوابه للجمهور حتى 28 شباط فبراير 1994، يسلط الضوء على مجموعة كبيرة من القطع الأثرية والتحف الفنية. من النسر - الاسد الازوردي الجناحين الى اسطرلاب ابن السراج، ومن الجامع الاموي الى قصر الحير الغربي، مروراً بأبجدية أوغاريت وحكايات زنوبيا، المرأة التي دخلت الاسطورة...
ليست زيارة عادية تلك التي يمكن للمرء أن يقوم بها حالياً في باريس، الى قاعات العرض في "معهد العالم العربي". فتلك المؤسسة الثقافية الفرنسية - العربية المختلطة، تستضيف حالياً معرضاً ضخماً، غنياً بالقطع الاثرية النادرة والمحطات الحضارية العريقة. إنه معرض "سورية، ذاكرة وحضارة" المفتوح للجمهور حتّى آخر شباط فبراير من العام المقبل.
بعد معرضه الشهير "مصر عبر العصور" الذي لاقى اقبالاً شعبياً واسعاً منذ أعوام، وجاء احتفالاً بدخول مصر الى "هيئته التأسيسية"، ها هو المعهد يعاود الكرة، بتكريسه تظاهرة جديدة بالضخامة نفسها، لأرض عربية عرفت بفعل موقعها الجغرافي تعاقب الثقافات والدول والشعوب. فهذه البقعة من العالم عرفت أصول الحضارة الانسانية المتمثلة في الاشكال الفنية الاولى الآلهة - الام، وكانت مهد الثورة الحضرية التي قامت على ضفاف نهر الفرات، كما شهدت نشوء الابجدية والارشفة والمكتبات... فتراكمت الكنوز الحضارية والتحف الفنية النادرة التي تعتبر اليوم شواهد ثمينة على القيم المطلقة للانسانية جمعاء.
ويضم معرض "سورية، ذاكرة وحضارة" من هذه الكنوز قرابة 400 قطعة جمعت من متاحف سورية وعالمية، ومعظمها يعرض للمرة الاولى أمام الجمهور الاوروبي. عبر هذه المجموعة البارزة، نعود الى لحظة ولوج الانسان باب التاريخ، ونكتشف تلك المدن المطلة على البحر التي أفرزت التعددية اللغوية، والنظام الابجدي. انها "المدن - الدول" التي ما زالت لغاتها سائدة في بعض القرى السورية، شاهدة على ثراء تدمر زمن الملكة زنوبيا، أو بهارج العصر البيزنطي... كما تطل علينا، من خلال القطع المعروضة في "معهد العالم العربي"، دمشق الاموية، عاصمة أول امبراطورية اسلامية التي سرعان ما استحالت مدينة الفنون والثقافة، ولعبت دوراً حيوياً كمركز تجاري حتى العصور العباسية والعثمانية اللاحقة. وكل ذلك يدعونا الى رحلة، لا مفر منها، في أرجاء الحضارة البشرية.
جاء الانسان في وقت مبكر الى سورية، على ما يبدو، آتياً على الارجح من القارة الافريقية، عن طريق المسالك الطبيعية في محاذاة السواحل، وعبر تلك الأخاديد التي تكونت في الارض منذ مليون سنة. وأقدم الآثار في تلك البقعة من العالم، هي تلك التي تم اكتشافها في وادي النهر الكبير، وعلى ضفاف نهر العاصي، حيث استقر الانسان طويلاً قبل أن ينتقل في اتجاه الشرق ليستوطن صحراء وادي الفرات.
وقرية "مريبط" الواقعة على الفرات الاوسط، هي أهم المواقع التي استرعت الانتباه لتبيان ذلك التطور الذي قاد البشرية من حياة التنقل الى الاستقرار واعتماد الزراعة. فهذه القرية التي تأسست من قبل "النطوفيين" حوالي سنة 8500 قبل الميلاد، تحتل مكانة خاصة على هذا الصعيد، كونها بقيت مأهولة من دون انقطاع أكثر من ألف عام. وتمثل نموذجاً عن أفضل ما توصل اليه الانسان في ذلك الحين، لايجاد نظام معيشي يسد حاجات مجموعة بشرية، دون اللجوء الى الترحال. آثار تلك الحقبة تم العثور عليها في مواقع ك "الكوم"، "تل الرماد"، "تل كشكاشوك"، ويطالع بعضها الزائر عند مدخل المعرض الباريسي، بالاضافة الى أولى محاولات فن السيراميك في تاريخ الشرق الاوسط.
وهذه البقعة التي عرفت الزراعة وتربية الحيوانات منذ الألفيّة الثامنة، كانت مؤهلة للعب دور المركز الذي انطلق منه العصر الحجري الاخير، من شرق المتوسط الى غربه عن طريق وسط الاناضول ثم البلقان، لتبلغ ما نطلق عليه اليوم اسم أوروبا. وفي قريط مريبط، نقع على التجسيدات الاولى لرمز الالهة - الام وعلى الاستعمال الشعائري للثور الوحشي... فصورة الالهة رمز الخصوبة والانوثة، أما رأس الثور فيجسد قيم القوة والفحولة، والصورتان رافقتا الميثولوجيا وسكنتا مخيلة الحضارة الى يومنا هذا.
وكانت الثورة العمرانية في أواخر الألفيّة الرابعة قبل الميلاد، لحظة حاسمة في تاريخ البشرية. فانطلاقاً من مدينة "أم هي أوروك" في بلاد ما بين النهرين، تأسست في وادي الفرات مدن عديدة تشهد بقاياها على وجود مجتمع متجانس متماسك البنيان. وهنا ابتكرت أول أدوات القياس، وكانت عبارة عن قطع طينية صغيرة ذات أشكال بسيطة. لكن أدوات أخرى ما لبثت أن تبعتها، بينها ما يمكن الاطلاع عليه في المعرض: أشكال كروية، اسطوانات، أشكال مخروطية، وأوعية تحمل أختاماً.
أما الخدوش التي يمكن مشاهدتها على تلك الاوعية - المغلفات، فتتمتع بدلالة كبيرة جداً. إنها تعبير عن أقدم الاشارات الكتابية التي عرفها التاريخ. فتطور علم الحساب ترافق مع استعمال مختلف الوسائل المتاحة، انطلاقاً من تدوين، اتخذ شكل رموز محددة، لكميات وأنواع المواد التي يجب تسجيلها. وهذه البدايات كانت حاسمة لأنها تعتبر الخطوة الاولى نحو الكتابة، أي الخطوة الاولى لدخول الانسان الى التاريخ.
العصر الذهبي ل "المدن - الدول"
وتكشف محتويات المعرض في "معهد العالم العربي" على العصر الذهبي لما عرف ب "المدن - الدول": ماري، إيبلا، أوغاريت... كما تكشف عن ملامح الحضارة الهيلينية، اليونانية - الرومانية، والبيزنطية... وصولاً الى العصور الاسلامية. فذات يوم من العام 1933، أدت ضربة رفش لفلاح سوري يعمل في أرضه، الى كشف النقاب عن حضارة كاملة مطمورة هنا منذ عصور وعصور. والتمثال الذي اكتشف يومها في تل حريري، سرعان ما قام عالم الآثار أندريه بارو في التعرف الى صاحبه: لانجي - ماري.
هكذا بدأت الحفريات التي ستسلط الضوء على ماضي سورية، وعالم ما بين النهرين. فالكنوز المكتشفة في ماري - وبعض أبرز قطعها معروض حالياً في "معهد العالم العربي" - مكّنت الباحثين من الوقوف على مظاهر ومكونات حضارة عمرانية غنية، ومن التعرف على تاريخ الشرق القديم الذي لم يكن عُرف منه حتّى ذلك الحين الاّ الجانب المتمحور حول بابل. واذا بالحضارة التي ولدت دون شك في الثلث الاول من الألفيّة الثالثة قبل الميلاد، وقضت تحت ضربات حمورابي ملك بابل، في النصف الاول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، تتكشف لنا بالتدريج عبر ما خلّفته من أعمال فنية استثنائية.
فها نحن نلتقي من جديد بتماثيل الالهة - الام، وقد ازدادت انتصاباً، وأصبحت أقل ضخامة وأكثر رشاقة. أما الحركة، فبقيت على حالها: ذراعان تلتفّان تحت صدر كان في ما مضى معطاءً. وصلتنا أيضاً من ماري كنوز أخرى، أهمها تلك التي تم العثور عليها داخل جرّة كانت تحوي قطعاً نادرة يقارب عددها الخمسين. لا بد من الاشارة، في هذه المجموعة، الى قطع تعكس الموقع الوسطي لحضارة ماري بين سورية وبلاد ما بين النهرين:
تمثال نحاسي صغير لآلهة ذات نظرة غريبة، كان شكلها مجهولاً حتّى ذاك الاكتشاف، ويبدو أنها متأتية من الشرق السومري. ونسر له وجه أسد، جناحاه من اللازورد، مفرودان ليكونا كتلة واحدة تختلف عن رأس الطير وذيله المصنوعين من الذهب. وتدل مكتشفات ماري على فن راق في ميدان الفسيفساء ونحت التماثيل. لا بد أيضاً من الاشارة الى الاسدين اللذين اكتشفا سنة 1937، داخل معبد المدينة العتيقة الذي كانوا يسهرون على حراسته. والاسدان يلتقيان في معرض باريس بعد فراق طويل، اذ أن أحدهما موجود في متحف حلب في سورية. بينما أصبح الثاني من ممتلكات متحف اللوفر في فرنسا. أما "الرأس السامي" الذي يعود الى الألفيّة الثالثة قبل الميلاد، فيدعونا الى الابحار في بهاء بلا حدود. هذا الرأس جذوره ضاربة في أعماق الميثولوجيا، عيناه مفتوحتان على العالم، وملامحه منحوتة في الزمن. إنه ذاكرة الحضارة.
بعد حريق قصر ماري على يد سرجون الاكادي 2340 - 2284 ق.م.، أصيبت المدينة بقدر من الانحطاط ولكنها بقيت مع ذلك مركزاً مهمّاً حتّى الألفيّة الثانية قبل الميلاد. وماري مدينة بشهرتها الى الارشيف الذي عثر عليه في قصر آخر ملوكها زمري ليم 1775 - 1761 ق.م.. ما يزيد على العشرين ألف من الالواح الطينية التي دونت عليها لغة سامية هي البابلية القريبة من العبرية ومن العربية، بواسطة كتابة رمزية، تمثل تطويراً للنظام الكتابي السومري القديم.
أما إيبلا، فكانت تقيم علاقات وثيقة مع ماري أواسط الألفيّة الثالثة قبل الميلاد. وكانت ماري وإيبلا من أكبر ممالك المنطقة، لكن إيبلا تفوقت على جارتها بسبب اشعاعها السياسي والتجاري خارج سورية الوسطى، وكان ازدهارها قائماً على تصدير الاقمشة الصوفية حتّى أسفل بلاد ما بين النهرين. وندين بمعرفتنا هذه الدولة - المدينة، لاكتشاف بالغ الاهمية تحقق بين عامي 1974 و1976 على أيدي فريق ايطالي. فقد تم العثور على أكثر من عشرة آلاف لوحة، هي الارشيف الذي بقي رغم حريق القصر الملكي للمدينة. وتمثل تلك المجموعة المذهلة، برموزها المسمارية، أقدم أرشيف معروف في تاريخ العالم. وتعتبر اللغة السامية المعتمدة في تدوين اللوحات المشار اليها، أقدم لغة سامية استعملت في الشمال السوري.
محفورات رأس شمرة أول أبجدية في العالم
نصل الى أوغاريت، التي قامت في المكان الحالي لمدينة اللاذقية. فهذه البقعة التي استوطنها مزارعون وصيادون منذ الألفيّة السابعة قبل الميلاد، شهدت مطلع الألفيّة الثانية قبل الميلاد، بروز مملكة قوية، امتازت بموقعها الجغرافي وبطيب مناخها، وبالميناء الذي خلق الظروف الملائمة لازدهارها الثقافي والسياسي. هذه هي مملكة أوغاريت التي عرفت أوجها بين 1600 و1200 قبل الميلاد. وكانت أوغاريت، حسب الوثائق الأثرية والنصوص القديمة، تقع في قلب شبكة من المبادلات التي تربطها بمصر وبالحثيين، وكذلك ببلدان الفرات وجزر المتوسط قبرص، كريت...، الى أن نالها الدمار المفاجئ في بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
اكتشفت المدينة سنة 1929 في موقع رأس شمرة، حيث تم استخراج ألواح تحمل تدوينات بلغة محلية قائمة على استعمال ثلاثين اشارة ورمز تشكل أبجدية قائمة بذاتها. ولعل النصوص التي تتضمنها الالواح، هي أقدم الشهادات على نصوص أدبية فعلية، مدونة بواسطة تلك المنظومة الكتابية الجديدة والثورية المتمثلة في الابجدية. هناك أثار أخرى تدل على استعمال الابجدية في فلسطين وفي سيناء، ولكن الباحثين والمؤرخين يجمعون اليوم على أن استعمالها بشكل شامل ودائم، إنما حصل للمرة الأولى في أوغاريت. والمنظومة الادبية الاهم في أدب أوغاريت المعروف، مكرسة لبعل إله العاصفة، "راكب السحب"، ألهمت شعراء كباراً بينهم سان جون بيرس في "مداراته". وجسد بعل على شكل رأس من ذهب يمتشق الصاعقة، كما ارتبط إيل "كبار الآلهة" بتجسيدات شمسية، يمكن الاطلاع عليها في معرض "سورية، ذاكرة وحضارة".
سورية أيضاً هي مهد الآراميين، وكانوا مجموعة من القبائل التي تتكلم لغة سامية شمالية استوطنت، في حدود الألفيّة الاولى قبل الميلاد، بلاد حران وهي منطقة على قدر من الاتساع، تقع في شمال سورية. فعلى أثر هجمات "شعوب البحر" التي نهبت سورية، تمكن الآراميون بدورهم من محاصرة البلاد واحتلالها حتّى الجنوب، حيث قامت أبرز الممالك الآرامية في دمشق، في تل حلف/ غوزنا، وفي تل الاحمر/ تل برسيب. وفرضت الآرامية نفسها كلغة ثقافية، ابتداء من القرن التاسع قبل الميلاد.
بين القطع التي تنتمي الى ذلك العهد، نشير الى تمثال ملك غوزنا حداد. اكتشف التمثال عن طريق المصادفة سنة 1979 في تل فخرية، شمال شرقي سورية، وهو يعرض للمرة الاولى في أوروبا. نحت بالحجم الطبيعي 65،1 متر، وهو ينتصب واقفاً مع انحناءة خفيفة، وينظر أمامه. ويحمل نقوشاً ومدونات بالآشورية والآرامية، تمثل أقدم كتابة آرامية معروفة حتّى يومنا هذا.
ولعل تعاقب اللغات عبر القرون، داخل فضاء ثقافي مشترك، وفي منطقة كانت رحماً انطلقت منه الاشكال والرموز، يفسر انطلاق الابجدية من هذه المنطقة من العالم على يد الفينيقيين. وفيما كانت اللغة الفينيقية تتقهقر لاحقاً، أمام الموجة الهلينية في حوض المتوسط، وتجد صعوبة في الاستمرار بعد دمار قرطاج... كانت اللغة الآرامية، رغم زوال الدول الآرامية، مستمرة في تدمر والبتراء وغيرهما... كما نجدها لاحقاً على لسان عيسى الناصري وتلاميذه، ثم نجدها مع ذلك وقد حملت اسم "السريانية" في تراتيل وسجلات الكنيسة الشرقية. بل أن اللغة العربية نفسها، نهلت من المنبع الآرامي.
الاسكندر المقدوني والامبراطور فيليب العربي
وفتحت هزيمة الجيوش الفارسية في "موقعة أيسوس"، سنة 333 ق.م. أبواب سورية في وجه الاسكندر المقدوني الذي رأى هنا بداية تحقق حلمه الشرقي. وعندما توفي ذو القرنين في بابل بعد ذلك بعشر سنوات، تقاسم قادته الامبراطورية وأسس كل مملكته. وكانت سورية من نصيب امبراطورية السلوسيين. ومثل انتصار المقدونيين قطيعة واضحة في تاريخ البلاد، وما لبث ضعف سلطة السلوسيين أن حث السلطة الرومانية على التدخل بين سنتي 64 و63 ق.م.، حيث انتصر بومبيه على القراصنة واحتل سورية.
خلال الفترة الفاصلة بين تحويل سورية الى مقاطعة رومانية على يد بومبيه، وبين وصول أسرة فلافيوس الى الحكم سنة 69 ق.م.، طرأت على نظام الحكم في روما تغييرات حولت الجمهورية المحتضرة الى نظام امبراطوري توسعي. وبذلك عرفت سورية فترة استثنائية من الاستقرار والازدهار، وحصل سكانها الاحرار - مثل جميع سكان المقاطعات الرومانية - على حق المواطنة. هكذا برز الامبراطور فيليب العربي الذي جعل من مسقط رأسه شهبا فيليوبوليس، مركزاً ينافس المدن الرومانية ويضاهيها حضارة وازدهاراً وتقدماً.
وقبل بدء العصر البيزنطي، كانت الحضارة الاغريقية - الرومانية تجذرت في سورية، حتى أن الحكم الروماني كان استمراراً لسابقه الهيليني. وعلى الرغم من انتشار اللغة اليونانية، فان هذه الاخيرة لم تتمكن من القضاء على الآرامية، التي بقيت لغة أهل البلاد الاصليين. وكان سكان سورية الجنوبية وأهل البادية الشرقية، يتكلمون من جهتهم العربية، انما يكتبونها بالآرامية التي فرضت نفسها كأداة اتصال. ومن أبرز ميزات تلك الفترة، كما تدل الاعمال الفنية التي وصلتنا، أن الهيلينية كانت تحمل الكثير من السمات الشرقية التي بقيت آثارها حية حتّى بدايات الاسلام. لتسليط الضوء على تلك الخصوصية الحضارية، قام منظمو معرض "معهد العالم العربي" بالتركيز على أربعة مواقع أثرية هي تدمر، أباميه، دورا أوروبوس، وفيليوبوليس.
وبالمير، هذه الواحة القديمة التي كانت تحمل في الألفيّة الثانية ق.م. اسم تدمر، حافظت على خصوصيتها على الرغم من كونها مقاطعة رومانية. فقد تحولت أرض التجارة والمبادلات، الى مملكة شبه مستقلة في عهد هدينة الذي خلفته على العرش زوجته زنوبيا، فعملت على تأكيد استقلال مملكتها عن روما. فهذه المرأة التي دخلت الاسطورة، كانت تخطب في الناس على طريقة الاباطرة، على رأسها خوذة وترتدي الملابس القرمزية، ولم تتردد في تحدي الامبراطور أورليان الذي انتصر عليها في شهر آب أغسطس سنة 272.
وجاء العصر البيزنطي ليحمل جملة من المتغيرات على سورية التي باتت على مقربة من القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية الجديدة. فقد أينعت المدن، بحيث استحالت انطاكية مثلاً، بعد الاسكندرية والقسطنطينية، أكبر مدن الشطر الشرقي للامبراطورية. وخلال القرنين الرابع والخامس، مزقتها الخصومات المذهبية بين النسطوريين والكلدانيين، ما أدى الى توترات حادة، مهدت للفتح الاسلامي في القرن التالي...
الدولة الاموية ذوق هندسي رفيع
بعد مبايعته على الخلافة، اتخذ معاوية بن أبي سفيان من دمشق عاصمة له، فكان مؤسس الدولة الاموية. هكذا وجد الامويون أنفسهم أسياد امبراطورية عربية - اسلامية، امتدت من جنوب فرنسا الى جنوب المغرب وصولاً الى تخوم الهند والسند، ومن مصب نهر الفولغا الى أسوان. وفي ذلك العصر شيدت بعض أجمل الآثار الاسلامية، كقبة الصخرة في القدس، ثم المسجد الاقصى والجامع الاموي... وراج استعمال الفسيفساء على الطريقة البيزنطية في المعرض قطع تم استقدامها من جامع دمشق.
وأقام الامويون القلاع في الصحراء، بينما كانت منازلهم تعكس ذوقاً هندسياً رفيعاً، وترفاً جعلها مزدانة ببذخ. وبين تماثيل تلك الحقبة ما كان يستلهم فن بالمير كتلك الموجودة في قصر الحير الغربي. أحد هذه التماثيل يجسد على الارجح الخليفة هشام الذي أمر ببناء القصر المذكور.
بعد قيام الدولة العباسية، وانتقال عاصمة الخلافة الى العراق، لم تعد دمشق الا عاصمة مقاطعة تنظر اليها السلطة المركزية بشيء من التعالي. لكن ضعف الخلافة المذكورة، عاد فوثق العلاقات بين دمشق والفسطاط، وذلك حتى وصول الفاطميين الى الحكم في مصر... غير أن دخول الصليبيين الى دمشق في تموز يوليو 1099 ما لبث أن أعاد الى دمشق، الواقعة آنذاك تحت حكم السلاجقة 1076 - 1152، أهميتها الإستراتيجية.
وفي عهد صلاح الدين الايوبي الذي قضى على الدولة الفاطمية، وانتصر على الجيوش الصليبية، عرفت سورية فترة رخاء، وشهدت ازدهاراً فنياً وعلمياً. لا بد من الاشارة مثلاً الى الاسهام البارز الذي قدمته هذه الاخيرة في علم الفلك، بين القرنين التاسع والرابع عشر. فالاسطرلاب والساعة الشمسية والبوصلة واللوح الرياضي... اختراعات تعود الى تلك الفترة. ولعب فلكيون من أمثال حبش الحاسب أو البتاني دوراً بارزاً في هذا المجال.
فهذا الاخير، كانت جداوله الرياضية معروفة في أوروبا خلال القرون الوسطى، وقد مارس تأثيراً كبيراً على كوبرنيك وغاليليو وآخرين. أما الفلكي الدمشقي ابن الشاطر، فبات من المؤكد أنه كف منذ القرن الرابع عشر، عن استعمال نموذج بطليموس القديم، معتمداً بدلاً منه نظاماً يعتمد مركزية الارض. ويضم معرض "سورية، ذاكرة وحضارة"، العديد من القطع التي لعبت دوراً أساسياً في تطوير علم الفلك. منها الاسطرلاب الكوني الذي صنعه ابن السراج الذي اعاره للمعهد "متحف بناكي" في أثينا، وهو نادراً ما عرض للجمهور.
من علم الفلك الى السجاد الدمشقي
من الاختراعات الاخرى المعروضة، جداول الخليلي لقياس الزمن بواسطة علم الفلك، والنسخة الوحيدة منها ملك "المكتبة الوطنية" في فرنسا. ويستطيع الجمهور أن يطلع أيضاً على وعاء بوصلة تعود الى القرن السادس عشر. وهذه القطعة فريدة من نوعها في العالم، لأنها أداة التأشير الوحيدة على اتجاه القبلة التي كانت إبرتها الممغنطة وهو لم تعد موجودة اليوم قادرة على أن تطفو فوق الماء. وتتمتع هذه البوصلة بجمال فني نادر، وهي كذلك على أهمية كبيرة في تاريخ فن السيراميك السوري، كونها من مجموعة نادرة يمكن القول إنها تعود الى المرحلة التي سبقت الفتوحات العثمانية.
والخصوبة العلمية التي عرفتها دمشق ذلك العهد، تمكنت من البقاء على الرغم من هجمات المغول التي توالت على سورية بين سنة 1260 و1401. واذا كان دمار دمشق على أيدي المغول سنة 1402، لم يؤدِّ الى انهاء كل النشاطات العلمية الخلاقة، الا أنه جعل حركتها تعاني من بطء واضح.
بعد السيطرة المملوكية التي استمرت قرنين، أصبحت سورية ابتداء من القرن السادس عشر، مقاطعة تابعة للامبراطورية العثمانية. وطوال العهد العثماني، تميزت سورية باتقان فن مرهف هو "السجاد الدمشقي ذو الايحاءات الفسيفسائية"، وهي تسمية مستوحاة من نصوص قديمة مصدرها مدينة البندقية.
فرصة نادرة للغوص في ذاكرة الحضارة السورية، بمختلف محطاتها، يقدمها معرض "معهد العالم العربي" الذي يقام بالاشتراك مع وزارة الثقافة السورية، و"الادارة العامة للآثار والمتاحف" في دمشق. فحبذا لو يركز المعهد جزءاً من برمجته، طوال السنة، حول مثل هذه التظاهرات والمعارض. فهي تعيد الاعتبار، في الغرب، الى ملامح منسية من الحضارة العربية العريقة التي كثيراً ما تقع - في زمن الازمات الاقتصادية وصعود العنصرية - ضحية عمليات تشويه مقصودة ومنظمة... أو ضحية سوء تفاهم ثقافي عميق بين الشرق والغرب أواخر هذه الألفيّة، في أحسن الحالات...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.