أثارت تصريحات رئيس الوزراء التركي سليمان ديميريل اخيراً حول حق سورية والعراق في مياه نهر الفرات، ما يكفي من الغبار الساخن لابقاء ملف المياه مفتوحاً، لا بل حامياً وقابلاً للانفجار في اي وقت، بعدما كان الاعتقاد سابقاً ان الملف طوي، اقله للسنوات الخمس المقبلة، مع الاتفاق الذي تم التوصل اليه العام الماضي حول نسبة تدفق المياه الى سورية والعراق. والجديد الذي طرحته تصريحات ديميريل، وهو يدشن محطتين لتوليد الكهرباء على سد اتاتورك، ليس حجم الحصة السورية والعراقية، وانما حق هاتين الدولتين اساساً في مياه النهر، انطلاقاً من اعتبار تركي انه "حق وطني يدخل في اطار السيادة، تماماً كما هو حقوق سورية والعراق في حقولهما النفطية". وتستند انقرة في ادعائها الحق المطلق في مياه نهري دجلة والفرات الى مجموعة اعتبارات، ابرزها ان تركيا اكثر حاجة من غيرها للمياه، وهي تعاني في الوقت الحاضر من نقص حاد في مصادر المياه وبحسب التقديرات التركية فإن حصة الفرد التركي من المياه الصالحة للاستخدام لا تزيد عن 3 آلاف متر مكعب سنوياً، في حين ان النسبة العالمية المتعارف عليها هي 10 الاف متر، وترتفع في بعض البلدان الى 12 او 13 الفاً. وفي التقديرات التركية ايضاً، ان حصة المواطن التركي من المياه، هي اقل حتى من الحصة المتوافرة للفرد في كل من العراق 6500 متر مكعب وسورية 3350 متراً. وتستند الادعاءات التركية الى اعتبار آخر يتمثل في حاجة انقرة الى توفير الري لحوالي 1.7 مليون هكتار من الاراضي، مع ما يستتبع ذلك من اعادة احياء الزراعة في مناطق تركية كثيرة هجرها اهلوها بسبب ضعف المردود الزراعي نتيجة عدم توافر الري الكافي. ويقدر الاتراك فرص العمل الجديدة التي سيوفرها ري الاراضي الجديدة بحوالي 5 ملايين فرصة عمل، من شأنها ان تقضي على البطالة المقنعة الموجودة في مناطق شرق الاناضول، وقرب الحدود مع سورية، وتحد من الهجرة الريفية الى المدن. وقد انفقت انقرة على سد اتاتورك حوالي 4 مليارات دولار حتى الآن في حين ان التقديرات المتعلقة بالكلفة النهائية، تصل الى 27 مليار دولار، اضافة الى 10 مليارات دولار لاتمام تنفيذ المشاريع الملحقة به، بدءاً من العام 2005، ويربط خبراء اقتصاديون اتراك بين المستويات المرتفعة للتضخم في تركيا حوالي 70 في المئة سنوياً والعبء الذي شكلته عملية تمويل اشغال السد، في ظل غياب القروض والمساعدات الخارجية. ويقدر هؤلاء الخبراء ان عملية تمويل المشروع استهلكت ما يصل الى 10 في المئة سنوياً من الموازنات التركية في السنوات الپ11 الماضية، مع بدء التنفيذ في العام 1981. كما عمدت الحكومة التركية الى توفير مجموعة حوافز ضريبية ومساعدات مالية للشركات الخاصة التي تنتقل الى منطقة السد، في اطار سياسة تستهدف اعادة احياء المنطقة واجتذاب الاستثمارات اليها. وفي التقديرات الحكومية التركية، ان "سد اتاتورك" سيكون عند انجازه اكبر مشروع صناعي وتنموي في بلدان الشرق المتوسط. فهو سيؤمن الري لنصف الاراضي الزراعية في تركيا من خلال اقامة 22 سداً فرعياً، كما سيؤمن الطاقة الكهربائية النظيفة لتغطية ثلث احتياجات البلاد عبر اقامة 19 محطة توليد للطاقة. وحاولت انقرة طوال السنوات العشر الماضية التركيز على الطابع الاقتصادي والاجتماعي للمشروع. في محاولة لابعاد شبح الخلافات السياسية. وعمدت في العام 1989 الى تنظيم بروتوكول ثنائي مع دمشق، وضع حداً ادنى لتدفق المياه الى سورية هو 500 متر مكعب في الثانية لكنها ما لبثت ان خرقته اكثر من مرة في السنوات الثلاث الماضية بحجة حاجتها الى ملء السدود الجديدة نتيجة الشح الذي اصاب المنابع الرئيسية للمياه. الا ان هذه المحاولات غالباً ما اصطدمت بحذر دولي من المشروع وبدعوات متكررة لانقرة لتسوية ملف الخلافات السياسية مع جيرانها فقد سحبت الحكومة اليابانية عرضها بتوفير قرض بقيمة 600 مليون دولار لتمويل مشاريع الري كذلك سحب البنك الدولي اعتمادات تبلغ قيمتها حوالي المليار دولار لتغطية جزء من اكلاف المشروع. وبرر البنك انسحابه من المشروع، وكذلك فعلت طوكيو، بضرورة توصل انقرة الى تسوية نهائية مع جيرانها، خصوصاً دمشق وبغداد. من غير الاكيد ان تمثل تصريحات ديميريل الاخيرة الموقف النهائي لتركيا، على اعتبار ان نهر الفرات ليس نهراً محلياً تنطبق عليه القوانين المحلية، ويخضع للسيادة الوطنية. وهو اقرب في وضعه الى نهر النيل الذي تشارك دول عدة في الافادة منه في اطار حقوق تم التفاهم عليها. الا ان الاكيد ان انقرة ترفض حتى الآن الارتباط باتفاقيات نهائية حول تقاسم مياه النهر الذي يعتبر تدفقه في سورية، كما في العراق، اساسياً لعشرات المشاريع الزراعية والكهربائية ولملايين المواطنين السوريين والعراقيين الذين يفيدون منه. وعلى رغم تأكيد سورية حقها في حصتها المقررة، كما هو حق العراق بحصته 58 في المئة من حصة سورية، الا ان دمشق ما تزال تفضل على ما يبدو التعامل مع المشكلة بحذر. كما تفضل على ما يبدو ابقاء باب الحوار مع انقرة مفتوحاً لمعالجة اية خلافات قد تنشأ بين البلدين كما حصل اثناء الزيارة الاخيرة التي قام بها وزير الخارجية التركي الى دمشق. ولعل الاتفاق الوحيد القائم حالياً بين دمشق وبغداد هو الاتفاق على الموقف الموحد من موضوع مياه الفرات، اذ يعتبر السوريون، ان المصلحة السورية تماماً، كما المصلحة العراقية، تقوم على تنسيق موقفهما وعدم السماح لتركيا بالافادة من اي تباين بينهما.