في الخامس من آب اغسطس الماضي تم الاحتفال بوضع حجر الاساس لبناء مشروع سد"اليسو"على نهر دجلة في الجنوب التركي بالقرب من حدود تركيا مع سورية والعراق بكلفة تصل الى نحو بليون ومئتي ألف دولار أميركي. وذكرت المصادر التركية الرسمية ان المشروع يقضي ببناء مصنع لتوليد الكهرباء بطاقة تصل الى 1200 ميغاوات بدل انفاق 300 مليون دولار لاستيراد الطاقة الى المنطقة، وسيوفر فرص عمل لنحو عشرة آلاف شخص. كما ان مياه السد سيستفاد منها لأغراض الري وتغذية المياه الجوفية ايضاً. ويبلغ طول السد نحو 1820 متراً ويصل ارتفاعه الى نحو 135 متراً، ويقع على بُعد نحو 50 كيلومتراً من الحدود التركية - السورية. ومن المتوقع ان يكتمل بناؤه في العام 2013. فما أهمية هذا السد، وهل يؤثر في حال اكتمال انشائه على حصص سورية والعراق من مياه دجلة، ولماذا يتظاهر آلاف السكان في المنطقة التركية احتجاجاً ورفضاً لبناء السد؟ سد"اليسو"في الجنوب التركي يأتي استكمالاً لبناء عشرات السدود والمحطات الكهربائية ومنذ عشرات السنين على نهر الفرات من خلال مشروع الGAP أنشئ نحو 22 سداً من ضمن هذا المشروع الضخم والذي اصبح يُعرف بمشروع"الغاب"في بعض المصادر العربية. ونتجت عن الGAP مشاكل ومنازعات وصلت الى التهديد باشتباكات وحروب بين تركيا وكل من سورية والعراق بسبب إنقاص حصتيهما من المياه التي يوجبها قانون الأنهار المشتركة العابرة للبلدان، وبسبب حجز مياه النهر لمدة زادت عن الشهر لملء السدود وخزاناتها وبحيراتها، وكذلك بسبب تغير طبيعة المياه ونوعيتها وفقدان الأرض خصوبة الطمي نتيجة هذه الكثرة الكاثرة من السدود. وفي ما يتعلق بنهر دجلة فهو ينبع من هضبة الأناضول في الشرق التركي، ويبلغ طوله نحو 1900 كلم من منبعه الى مصبه. ويكوّن هذا النهر الحدود بين تركيا وسورية لمسافة 44 كلم، ويبلغ الوارد السنوي لمياهه في الجزء السوري 18.3 بليون متر مكعب. وترفده انهار في العراق عدة، اهمها: الزاب الكبير 13.8 بليون م3 والزاب الصغير 6.9 بليون م3 والعظيم 0.9 بليون م3 وديالي 5.16 بليون م3. مساحة حوض نهر دجلة نحو 470 الف كلم2، من بينها 12 في المئة في تركيا، و0.2 في سورية، و54 في المئة في العراق ونحو 34 في المئة في ايران، فللنهر روافد رئيسة تنبع من جبال زاغروس في ايران. شهد نهر دجلة وما زال يشهد محاولات ومشاريع لانشاء السدود والخزانات ومحطات الكهرباء في الماضي والحاضر، ومشاريع اخرى مستقبلية في بعض مواقعه، خصوصاً القريبة من الحدود السورية - العراقية المشتركة. وهناك برنامج تركي شامل متكافل يصل فيه عدد مشاريع السدود والخزانات الى نحو 104 مشاريع يصل مجموع طاقتها التخزينية الى 128 بليون م3 من مياه نهري دجلة والفرات وفروعهما، وبعد استكمال المشاريع كلها فإن ذلك سيوفر ري مساحات واسعة من الاراضي التركية تصل مساحتها الى ما يزيد على مليوني هكتار، وانتاج اكثر من 47 بليون كيلواط ساعة سنوياً من الطاقة الكهربائية - وإذا ما كانت حجة انجاز خطة شاملة للتنمية واحتياج المنطقة التركية الجنوبية وسكانها - اغلبهم من الاكراد - الى مشاريع تنموية للتخفيف من احتقانات الفقر والإهمال والمشاكل القومية هي من الحجج التي يرددها المسؤولون الأتراك، الا ان اغفال اعتراضات سورية والعراق وبعض سكان المنطقة الجنوبية من الاتراك واستنكاف جهات ممولة عن الاستمرار في تمويل المشاريع، وفر علامات استفهام كثيرة تتعلق بهذا الاصرار العنيد والاندفاع الدؤوب والمستمر لإنجاز المشاريع على رغم تغيير الحكومات ومرور السنين آخرها حكومة ذات توجه اسلامي! ووصل الامر الى ان تتولى الحكومات التركية المتعاقبة تمويل مشاريع السدود بنفسها ومن دون مساعدة... حتى من جهات دولية مانحة؟ لا شك في ان السياسة تتشابك مع الاقتصاد في الحال المشار اليها سابقاً. ولا يمكن اخفاء عوامل، مثل: - الحال الكردية المقلقة للحكومات التركية المتعاقبة، خصوصاً في المنطقة الجنوبيةالشرقية المحاذية لسورية والعراق - غالبيتها كردية - حيث وصل الامر الى عمليات عسكرية كردية ضد السلطة المركزية في أنقرة منذ سنين للمطالبة بتنمية عادلة وصولاً الى قيام حكم ذاتي للأكراد. لترد السلطة المركزية التركية بالحديد والنار على تلك المطالب وتعلن بأن الامر يتعدى ذلك وصولاً الى الانفصال والسعي الى اقامة دولة كردية مستقلة. هكذا يتوالى الصراع، وهو يخفت احياناً وتسوده هدنات قصيرة او طويلة، ثم يعود الى الاشتعال والى الاساليب العنيفة في أحيان أخرى. وسورية والعراق تتهمهما السلطة التركية بإذكاء نار التمرد الكردي، لذا فإن عليهما أن يتحملا أضراراً ومنغصات - بحسب وجهة النظر التركية - وان كان عنوان ذلك يتمثل بمشاريع تنموية تقوم على الماء لتوفير الطاقة الكهربائية وانشاء المصانع والري الزراعي، وذلك لسحب بساط تأييد الجماهير الكردية لأي حركة انفصالية أو ثائرة، وكذلك لقطع التواصل بين أكراد سورية والعراق مع إخوانهم في تركيا. في حفلة تدشين سد أتاتورك - أكبر السدود التركية - ذكر سليمان ديميريل الذي أصبح لاحقاً رئيساً للجمهورية"ان ما يعود لتركيا من مجاري مياه الفرات ودجلة وروافدهما هو تركي، وإن في امكان تركيا أن تتصرف بها كما تشاء داخل حدودها، لأن مصادر المياه هي تركية، كما أن آبار النفط تعود ملكيتها الى العراق وسورية، انها مسألة سيادة، ان هذه أرضنا ولنا الحق في أن نفعل ما نريد. نحن لا نقول لسورية والعراق اننا نشاركهما مواردهما النفطية، ولا يحق لهما القول انهما يشاركاننا مواردنا المائية". لكن قانون مياه الأنهار الدولية تضمن نصوصاً تناقض ما ذهب اليه ديميريل، اذ أكدت اللجنة الاقتصادية الأوروبية التابعة للأمم المتحدة، في العام 1952"ان الدول المتشاطئة وان كانت تملك حقوق السيادة على الجزء المار أو المتاخم لأراضيها من النهر الدولي، فإن هذا الحق مُقيد بحقوق الدول الأخرى على هذا النهر". كما ان لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة ذكرت في العام 1973"ان الدول المتشاطئة على النهر الدولي تستطيع استعمال المياه طبقاً لحاجاتها، شرط ألا يسبب هذا الاستعمال ضرراً للدول الأخرى المشتركة معها في هذا النهر"، وهناك مئات النصوص تؤيد النصين السابقين وتؤكدهما. فما تأثيرات انشاء سد"اليسو"على العراق وسورية؟ ذكر الدكتور رياض حامد الدباغ رئيس جامعة المستنصرية العراقية سابقاً،"ان استئثار تركيا بكميات كبيرة من مياه نهري دجلة والفرات لن يُعرِّض مشاريع الري وتوليد الطاقة الكهربائية في سورية والعراق لأضرار بالغة فحسب، بل يعرض البلدين لخطر الجفاف وحلول الكوارث أيضاً". وذكر مصدر في وزارة الموارد المائية العراقية"ان وارد نهر دجلة الطبيعي من المياه عند الحدود التركية والبالغ 20.93 بليون متر مكعب سنوياً سينخفض عند انشاء سد"اليسو"الى 9.7 بليون متر مكعب سنوياً، كما ان السد سيحرم 696 ألف هكتار من الأراضي الزراعية العراقية من المياه". وأثار مشروع بناء السد احتجاجات الأوساط المعنية بالبيئة والقضايا الإنسانية في تركيا نفسها، خصوصاً في المنطقة المعنية، من بينها عدد كبير من المنظمات غير الحكومية ومن ناشطين في مجال الحفاظ على الآثار، الذين تظاهروا ضد المشروع. ونتيجة اعتراضات سورية والعراق، أحجمت دول عدة عن تمويل المشروع، تماماً كما حصل مع مشاريع"الغاب"التي رفض البنك الدولي تمويلها مما أجبر تركيا على تمويلها بنفسها. كما أن سد"اليسو"في حال استكمال انشائه سيُغرق مساحة تزيد عن 300 كيلومتر مربع، ويُشرد نحو 5500 شخص، غالبيتهم من الأكراد في جنوب شرقي اقلي الأناضول. في حين ان الحكومة التركية الحالية أوضحت بأنها خصصت 800 مليون دولار لإعادة توطين سكان مدينة"حسان كييف أي حصن الكهف"التي يعود تاريخ بنائها الى العصور الوسطى. ويمكن الإشارة الى ان نقل سكان بلدة"حصن الكهف"الى مكان آخر غير مكان بلدتهم الحالي سيكون الثاني في التاريخ المعاصر، اذ ان السلطات التركية نقلت السكان من بلدتهم القديمة الفريدة والمتميزة والمبنية والمنحوتة في التلال الجبلية الواقعة والمشرفة على الاستدارة الحادة لمجرى نهر دجلة في وائل ثمانينات القرن الماضي لأسباب شتى، وبنت لهم بلدة بديلة بالقرب من البلدة الأصلية في مكان تقل فيه التعقيدات التضاريسية عن الموقع السابق. وكان لبعض السكان مشاكل مع السلطات تتعلق بالبيوت والتعويضات عندما زرنا المنطقة في منتصف ثمانينات القرن الماضي وعاينا بعض بيوتها الكهفية أو المنقورة في الصخور. بل ان بعض السكان تحلقوا من حولنا اعتقاداً اننا نمثل سلطة ما يمكنها أن تعيد اليهم بعض حقوق السكن والانتقال وبعض التعويضات. * كاتب فلسطيني مقيم في لبنان.