"اللعبة التركية" نفسها تتكرر مع سورية، عند كل جولة جديدة من جولات المحادثات التي تتناول قضايا مختلفة تهم البلدين: مسؤول تركي كبير يهدد سورية، سورية تغضب وترد وتنتقد هذا المسؤول، تجري المحادثات السورية - التركية، يعلن الطرفان انهما اتفقا على كل الامور او معظمها. "اللعبة التركية" بدأت، هذه المرة، بتصريح ادلى به سليمان ديميريل رئيس الوزراء التركي يوم 24 تموز يوليو الماضي اعلن فيه: "ان تركيا سيدة على مياه الانهار التي تنبع من اراضيها، وليس لسورية او العراق اي حق فيها... مصادر المياه لتركيا ومصادر النفط لهما. نحن لا نقول اننا نشاركهما مصادرهما النفطية ولا يمكنهما القول انهما يشاركاننا مصادرنا المائية". غضب المسؤولون السوريون من هذا التصريح "الاستفزازي" واعتبرت مصادر وزارة الخارجية السورية ان موقف ديميريل "سابقة خطرة اذ انه لو طبقت نظريته على كل الانهار الدولية لعمت الفوضى دول العالم". واكد المسؤولون السوريون ان سورية "لن تفرط بحقها في الافادة من مياه دجلة والفرات، استناداً الى القوانين الدولية والاتفاقات المعقودة مع تركيا". ما الهدف الحقيقي من تصريح ديميريل؟ "التمهيد" لزيارة وزير الخارجية التركي حكمت تشيتين لدمشق ومحاولة "الضغط" على السلطات السورية لتحقيق "مكاسب امنية". فقد رافقت تصريحات ديميريل هذه معلومات سربتها مصادر تركية رسمية تفيد ان عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الذي يشن حرباً على الحكومة المركزية التركية منذ 1984 من اجل اقامة دولة كردية مستقلة يقيم حالياً في دمشق، وان حزبه لا يزال لديه مخيم تدريب في البقاع اللبناني على رغم الاتفاق الذي تم التوصل اليه بين البلدين وتعهدت فيه دمشق بعدم ايواء مقاتلي هذا الحزب واغلاق المخيم. وفي هذه الاجواء زار تشيتين دمشق في الفترة بين 1 و3 آب اغسطس الجاري واجرى محادثات مع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع كما اجتمع الى الرئيس حافظ الاسد، وأعلن بعدها "ان التوتر تبدد والاجواء ايجابية والمحادثات بناءة". ما الذي حدث؟ برز خلال الزيارة التزام تركي - سوري متبادل باتفاقات المياه والامن، اذ اكد تشيتين التزام بلاده باتفاق عام 1987 مع سورية الذي ينص على مرور اكثر من 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات الى الاراضي السورية، بينما اكد الجانب السوري التزامه بالاتفاقات الامنية مع تركيا المتعلقة بالامن الحدودي، وخصوصاً منع عمليات تسلل عناصر حزب العمال الكردستاني الى الاراضي التركية. اوساط دمشق اعتبرت ان لتصريحات ديميريل الاخيرة جانباً سياسياً اقليمياً يتعلق بعملية السلام الجارية، وخصوصاً الموقف السوري من المفاوضات المتعددة الاطراف. واعتبرت ان هذه الضغوطات تتماشى مع التوجهات الجديدة للحكومة الاسرائيلية العمالية المتعلقة بدمج اسرائيل اقتصادياً في المنطقة، بما في ذلك مجال المياه. ومن المعروف ان سورية ترفض المشاركة في المفاوضات المتعددة الاطراف لبحث قضايا المياه ونزع السلاح والبيئة والتعاون الاقتصادي قبل تحقيق تقدم ملموس في المفاوضات الثنائية. وترى الاوساط السورية ان جزءاً كبيراً من التكتيك السياسي للحكومة الاسرائيلية الجديدة هو محاولة لدفع سورية الى المفاوضات المتعددة من دون تقديم تنازلات في المفاوضات الثنائية. وعكس الرئيس الجديد للوفد الاسرائيلي المفاوض مع سورية ايغامار رابينوفيتش التكتيك الاسرائيلي بقوله: "ان على سورية تمرير رسالة سلام وان الكرة ستوجد من الآن فصاعداً في الملعب السوري". هذا الموقف الاسرائيلي لقي دعماً تركياً ظهر في اشارة المصادر التركية الرسمية الى ان الموقف التركي من حقوق سورية والعراق في مياه الفرات ودجلة يعود الى "رفض سورية لمحاولات التعاون الاقليمي" في اشارة الى احباط سورية لقمة مياه الشرق الاوسط التي كان من المقرر ان تجري في اسطنبول في تشرين الثاني نوفمبر الماضي بمشاركة اسرائيل. وعلى رغم التزام انقرة باتفاق المياه لعام 1987 فان قضية المياه لم تحل نهائياً، اذ ان تركيا لم توافق بعد على المطلب السوري والعراقي بالتوصل الى اتفاق ثلاثي لتقاسم نسب استخدام مياه الفرات. وترى المصادر السورية ان اتفاقاً كهذا هو السبيل الوحيد لوضع حد نهائي للادعاءات المتناقضة حول حقوق المياه وتجاوز الخلاف الرئيسي بين الموقف التركي الذي يعتبر الفرات نهراً تركياً يمر باراضي الغير وموقف سورية والعراق الذي يعتبر الفرات نهراً دولياً لمروره باراضي اكثر من دولة تنطبق عليه القواعد الدولية في مجال تقاسم مصادر المياه المشتركة. كذلك فان تركيا لم تحدد موقفها من تقاسم مياه نهر دجلة الذي يمكن ان يكون مصدراً لنحو خمسة بلايين متر مكعب من المياه سنوياً لسورية التي تبلغ مجموع مصادرها المائية السطحية والجوفية نحو 20 بليون متر مكعب، اضافة الى كونه مصدر المياه الاول للعراق. ويمكن القول ان زيارة تشيتين الى دمشق استطاعت نزع فتيل آخر ازمة بين الجانبين لكن رفض تركيا التوصل الى اتفاق ثلاثي يبقي الازمة حية بحيث يمكن لاطراف دولية او اقليمية استخدامها ضد سورية ضمن ظروف معينة، بينما تؤكد دمشق ان مثل هذه السياسة ستفشل. اضافة الى ذلك ذكرت مصادر تركية مطلعة ل "الوسط" ان الجانب التركي طالب المسؤولين السوريين بعدم الاكتفاء باغلاق معسكر اوجلان في البقاع بل بطرد جميع عناصر حزب العمال الكردستاني من لبنان وسورية ووضع حد نهائي لتسلل اعضائه الى الاراضي التركية عبر الحدود المشتركة الممتدة 900 كيلومتر. ووعد المسؤولون السوريون الوزير التركي بعدم السماح "لأحد" بالاساءة الى تركيا انطلاقاً من الاراضي السورية. وقد قبل الرئيس حافظ الاسد دعوة من الرئيس التركي تورغوت اوزال لزيارة تركيا في موعد يحدد لاحقاً.