} لوح بعض المسؤولين الإسرائيليين الأربعاء 14/3/2001 برد عسكري ضد لبنان في حال أقدم على تحويل مياه نهر الوزاني. واستغربت قوات الطوارئ الدولية الضجة التي تفتعلها اسرائيل بشأن تركيب انبوب قطره 10 سنتميترات لجر المياه من نهر الوزاني الى قرية الوزان اللبنانية التي هي بحاجة ماسة الى مياه الشفة والري. وجاء التهديد في سياق كلام ذكره رئيس شركة المياه الإسرائيلية الجنرال أوري سافي عن صلة الماء بالأمن الاستراتيجي الإسرائيلي. وذكر ان "الموارد المائية كانت من بين أسباب حرب 1967". وعلى رغم ان التهديد الإسرائيلي يحاول ان يفتعل أزمة سياسية على الحدود الدولية اللبنانية بعد انسحاب القوات من الجنوب ومحاولة حكومة آرييل شارون عرض عضلاتها بذريعة الأمن المائي. فإن التصريحات تشير الى أهمية مسألة المياه في ترسيم خريطة الصراع على الشرق الأوسط. فالموضوع ليس نهر الوزاني فقط بل يشمل مختلف مصادر المياه في المنطقة من أنهار وبحيرات وآبار جوفية. فهل تتحول مسألة المياه الى سلاح سياسي يفجر حروب المستقبل في دائرة الشرق الأوسط؟ هذا هو السؤال. هل صحيح أن ما انطبق على النفط طوال القرن العشرين سينطبق على المياه خلال القرن الحادي والعشرين؟ هذا السؤال غير الموارب و"المشتعل" في آن، كشفته صحيفة عراقية، وأكدته حال الجفاف التي تتفاقم في سورية والعراق بسبب غياب الاتفاق حول المياه مع تركيا التي "تقبض" على منابع نهري دجلة والفرات. ومثلما كانت للولايات المتحدة الأميركية رؤيتها الاستراتيجية في ما يتصل بالسياسات النفطية، فإن الثابت ان اميركا بوصفها القوة العظمى الأولى الآن بعد الحرب الباردة، ستظل في مقدم القوى المؤثرة في رسم مخططات المستقبل. وتقع المياه في صلب هذه المخططات التي سيكون لها وزنها المؤثر في الألفية الثالثة، والتي يمكن من خلالها تحديد الأدوار والوظائف التي تناط بالدول الحليفة أو التابعة للولايات المتحدة، والتي تشكل ما يسمى بدول الجوار الجغرافي العربي وهي تركيا وإسرائيل. إن تطابق الرؤى الاستراتيجية لكل من اسرائيل وتركيا مع الرؤية الاستراتيجية الأميركية ينطلق من حدود الوظيفة المناطة بكل من هاتين القوتين الإقليميتين. فإذا كانت لإسرائيل وظيفة ثابتة في إطار استراتيجية اميركا، فإن لتركيا دوراً متغيراً في إطار هذه الاستراتيجية. إن إسرائيل، بحكم مقوماتها ووظيفتها الثابتة في الاستراتيجية الأميركية، تمارس رهاناً خاصاً على المتغير المائي في علاقاتها، بل في وجودها في المنطقة بأكمله. هذا الوجود الذي يدرك الإسرائيليون كم هو قلق وهش وشاذ على الوجدان الجماعي لأبناء المنطقة. فمهما علا ضجيج الطبول التي ترافق عملية التسوية ومحاولات التطبيع بين العرب وإسرائيل، فلا يوجد في الحقيقة اي "طحن" من وراء هذه الجعجعة. وهذا ما يدركه قادة الفكر الإسرائيليون ويتعاملون معه على أرض الواقع من منظور ما ينبغي ان يحصل، وليس مثلما هو حاصل. ففي أثناء انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، أرسل خبير المياه الإسرائيلي هلل شومال مذكرة الى الوفد الإسرائيلي المشارك في المؤتمر تصور نظرة الإسرائيليين الى جدول المفاوضات مع العرب بشأن المياه. وتضمنت المذكرة رسماً للخارطة تظهر إمكان فتح المياه من أنابيب من نهر الليطاني الى الجليل في شمال فلسطين، ومن تركيا عبر إسرائيل الى الضفة الغربية والأردن، ومن النيل الى غزة وشمالي النقب. إن بوسع المرء أن يتأمل هنا تكاملية الطرح الإسرائيلي على صعيدي الأرض والمياه. بل إن الحل ينبغي ان يتجه أولاً الى الماء قبل الأرض، ولعل مقولة شمعون بيريز الشهيرة في كتابه "الشرق الأوسط الجديد": "لو اتفقنا على الأرض ولم نتفق على المياه فقد نكتشف ان ليس لدينا اتفاق حقيقي" تلخص عمق استراتيجية إسرائيل مائياً. ولعل من المفيد هنا التنويه بأن الحدود السياسية التي رسمتها اتفاقية سايكس - بيكو في عام 1916 في الهلال الخصيب تأثرت الى حد كبير بالموارد المائية. لذلك كان طبيعياً ان تنعكس المشاريع المائية التركية سلباً على سورية والعراق نظراً الى انخفاض مستوى المياه في نهر الفرات بصفة خاصة، بعد بناء السدود التركية عليه، وما تعرضت له الزراعة في سورية والعراق من اضرار بسبب زيادة الملوثات التي يلقيها الأتراك في هذا النهر. وقد لقيت المشاريع التركية المعروفة باسم "الجاب" الدعم والتأييد من الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولا بد هنا من استذكار تصريح الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيسكون الذي قال: "علينا ان نشجع تركيا لاستغلال مميزاتها التاريخية والحضارية، لكي تلعب دوراً أكبر سياسياً واقتصادياً في الشرق الأوسط. وإذا ما أمكن حل مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي فإن مشكلة المياه سوف تكون اهم مشكلة في المنطقة. ونظراً الى أن تركيا دولة لديها مصادر غنية بالمياه فبإمكانها الإسهام في حل مشكلة المياه عن طريق امداد إسرائيل وسورية والدول الأخرى المحتاجة الى المياه في المنطقة بمصادر المياه عن طريق أنابيب ضخمة، وتساعدها الولاياتالمتحدة الأميركية في هذا الشأن". ولا شك في أن اكتمال مشروع "الجاب" 17 سداً على الفرات و4 على دجلة يجعل منسوب نهر الفرات بمقدار 14 بليون متر مكعب، وهذا يعني ان كمية المياه التي ستعبر الحدود التركية لن تتجاوز 13 بليون متر مكعب بإضافة عامل التبخر مقابل 28 بليون متر مكعب كانت تعبر الحدود قبل بلوغ المشروع التركي مرحلته الأخيرة. وإذا كان المنسوب المتبقى سيفي بجزء من حاجة سورية، فإن العراق سيعاني من حال الحرمان لأن تنفيذ كامل المشروع سيؤدي الى استبعاد 40 في المئة من أراضي حوض الفرات في العراق من الاستغلال الزراعي، في حين يؤثر هذا المشروع سلباً على ثلثي الأراضي السورية المروية من نهر الفرات. وبالتالي فإن المشروع التركي سيخفض نصيب سورية من مياه الفرات بنسبة 40 في المئة والعراق بنسبة 80 في المئة على وجه التقريب. وكان من نتائج التأييد الأميركي - الإسرائيلي للمشاريع المائية التركية، وحتى تمتص الحكومة التركية النقمة العربية، وتتمكن من تغطية آثاره الضارة على سورية والعراق، ان الرئيس التركي آنذاك تورغوت أوزال طرح مشروع "أنابيب السلام" لتزويد المشرق العربي وإسرائيل بالمياه التركية المتدفقة من نهري سيحان وجيحان اللذين يجريان بشكل متواز في هضبة انطاكية ويصبان في خليج لواء اسكندرونة. وإذا كان مشروع "أنابيب السلام" كلفت به شركة اميركية هي Brown and Root international لدراسة جدواه الاقتصادية، فإن مشروع "الجاب" تم تصميمه بأيدي خبراء إسرائيليين نذكر منهم خبير الري شارون لوزوروف والمهندس يشع كالي. والأخطر من كل ذلك دخول تل أبيب على خط المساعدة لبناء سد "أورفة" الذي يستطيع ان يحبس مياه دجلة والفرات لمدة 600 يوم ما يعني تجفيف النهرين تماماً، وهو ما أثار مخاوف دمشق وبغداد اللتين تعتبران التعاون المائي التركي - الإسرائيلي بداية لحرب أقسى بكثير من الحروب العسكرية، علماً بأن حرب المياه هذه ستكون بعيدة عن قرارات الأممالمتحدة، وليس لها اي صلة بالقوانين الدولية، والهدف منها هو وضع سورية والعراق بين "فكي كماشة" تمثلها إسرائيل جنوباً وتركياً شمالاً، أي أن مسألة مياه دجلة والفرات لكل من سورية والعراق دخلت في إطار الأمن القومي وأن تركيا تستخدم مسألة المياه لأغراض سياسية، وذلك تنفيذاً لسيناريو بحث بين الإدارة الأميركية وكل من أنقرة وتل أبيب ويقوم على ربط مياه دجلة والفرات بمياه الجولان المحتل على حساب الأمن المائي لسورية والعراق، ولذلك رفضت تركيا اي حوار معهما للتوصل الى اتفاق حقوقي دولي كما عرّفته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة عام 1991 بالقول "إن الفرات نهر دولي بكل المعايير والمقاييس"، إلا أن أنقرة لم تعترف حتى برأي اللجنة الدولية واعتبرت الفرات نهراً عابراً للحدود. إن مشكلة نهر الفرات لا تكمن في زيادة كمية المياه أو نقصانها بل في عدم التعاون التركي مع العراق وسورية، وعدم تجسيد التعاون باتفاق مكتوب وثابت، وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في مؤتمر صحافي عقده في اسطنبول في شباط 1994 بالقول: "إن ما يقلقنا ليس الكمية التي تتدفق الى سورية، بل عدم التوصل الى اتفاق ثابت بشأن تقاسم المياه، وأن ما تريده سورية هو طلب مشروع جداً ويتفق مع القوانين الدولية وهو يساعد على الاستقرار في المنطقة، في حين ان عدم التوصل الى اتفاق هو مصدر توتر دائم". كما أشار الى أهمية هذا السلاح الخبيران الأميركيان في شؤون التنمية ر.ماتيو وج.مارشال بالقول: "ليس هناك اي مصدر طبيعي ثمين وفريد كالمياه يرتبط بالضرورة بالمنطقة ويكون حيوياً لها". وهكذا يبدو ان التوافق التركي - الإسرائيلي يهدد بجدية الأمن المائي - الغذائي للمنطقة، وأن القراءة الراهنة والمستقبلية لدينامية هذه الحرب الخاصة تؤكد حقائق مهمة، أبرزها ان المنطقة الواقعة بين حدود العراق مع إيران وحدود بلاد الشلام على البحر المتوسط، هي المنطقة المستهدفة، وأن أي تقصير في فهم هذه الحرب الخاصة وقوة الحلف الثلاثي الولاياتالمتحدة - تركيا - إسرائيل الذي يقودها، سيسبب ضعفاً في المجال العملي لمواجهتها. إلا أن عناصر المواجهة دونها عقبات الآن، ويمكن اختصارها بالتالي: أولاً: إن طبيعة العلاقات السورية - العراقية في الفترة الراهنة لا تسمح بالضغط على أنقرة التي استطاعت توظيف حرب الخليج الأولى ثم الثانية، وحصار العراق، في تغذية أحلامها الأمبراطورية، ودخلت على خط الصراع العربي - الإسرائيلي بموجب اتفاقات ذات بعد استراتيجي مع تل أبيب. ومن هذه الزاوية تمكن قراءة المشاركة التركية في المفاوضات المتعددة التي أخذت بعداً مهماً، نظراً الى موقع تركيا على خارطة الثروات المائية في المنطقة. والكلام الذي تردد على هامش المفاوضات المتعددة في موسكو 1992 كان أشار بالكثير من التركيز الى الدور الذي يجب ان تقوم به مائياً، اي بناء كونفيدرالية اقتصادية في الشرق الأوسط. ثانياً: ان تقاعسنا عن فهم المسألة الكردية عموماً وحزب العمال الكردستاني خصوصاً أتاح للحلف الثلاثي الأميركي والتركي والإسرائيلي حصار هذه المسألة عبر اعتقال عبدالله أوجلان ومحاكمته بعد اتهامه بالإرهاب، ومن ثم محاولة تفتيت حزب العمال الكردستاني لإنهائه تماماً. إلا أن تماسك عناصر هذا الحزب قد يتيح الفرصة من جديد لاحتضانه وجره الى عمقه الاستراتيجي المكون من العراق وسورية لتقوية عناصر مواجهة الحرب الخارجية. ومن دون فهم هذه المسألة واستيعابها باعتبارها مسألة حقوقية تمس العراق وسورية في الصميم كما تمس مسألة الجماعات عموماً، سيكون من الصعب تقوية العناصر الداخلية لكل من الدولتين الأخريين. وعندما تتغير سياسة دمشق وبغداد باتجاه اعتبار المسألة الكردية مسألة حقوقية تعني البلدين، سيتحول العنصر الكردي من عامل تفجّر داخلي الى عنصر من عناصر تقوية محور مواجهة حرب المياه الخاصة. انطلاقاً من هذه المعطيات، نرى ان التحكم في استخدام مصادر المياه الحيوية يعتبر رصيداً تركياً استراتيجياً كبيراً، وموضوعا حيوياً في المنطقة، لأنه سيؤثر بوضوح على ميزان القوة الاستراتيجية في السنين المقبلة. وبالطبع فإن تأمين مصادر مائية كافية سيصبح امراً أكثر خطورة وأهمية بمرور الوقت، وما يؤكد هذا الأمر قرار تركيا الأخير القاضي بتزويد سورية بالحد الأدنى من المياه المنصوص عليه في الاتفاق الثنائي الذي جرى بين الدولتين، وهو ما سينعكس تلقائياً على العراق أيضاً. لذلك نرى الآن القلق المزمن لدمشق وبغداد من احتمال استخدام سلاح المياه كسلاح سياسي استراتيجي ضدهما، كما أكدتها الاتفاقات التركية - الإسرائيلية التي تشير الى إمكان تصدير المياه الى إسرائيل عبر صهاريج مائية، في حين تعترض أنقرة على أي اتفاق لتقاسم المياه بين سورية والعراق بحجة ان دمشق تطالب دوماً بالمزيد من المياه "بينما تعطي العراق معظم ما تعطيهم" وذلك في محاولة لممارسة الضغط على الدولتين من خلال ربط اتفاق تقاسم مياه النهرين بالاستراتيجيات العامة للتحالف الأميركي - التركي - الإسرائيلي على حساب لبنان وسورية والعراق والأردن في آن. * كاتب سوري.