ماتيلدا ماي عذوبة ما بعدها عذوبة، وحيوية متدفقة. منذ سبعة اعوام على الاقل ينظر اليها الجميع، على انها - الى جانب جولييت بينوش وبياتريس دال - افضل ما عرفته السينما الفرنسية بين بنات الجيل اللاحق لجيل ايزابيل آدجاني. ولأن السينما الفرنسية، التي لا تعرف سوى نجاح ورواج محدودين في السنوات الأخيرة، ليست كافية لملء طموحات ممثلة من طراز ماتيلدا ماي، كان من الطبيعي لها - اي لماتيلدا - ان تنصرف الى العمل خارج فرنسا، اكثر منها الى العمل داخلها. وهذا ما اتاح لها ان تنتقل خلال السنوات الأخيرة بين الارجنتين حيث مثلت في "التانغو العاري" لليونارد شريدر، وجنوب اميركا اللاتينية لتؤدي الدور الرئيسي في فيلم "نداء الصخر" للالماني وورنر هيرتزوغ، وصولاً الى تونس حيث لعبت دور ايزابيل ابرهاردت، الكاتبة والمغامرة الروسية التي اعتنقت الاسلام اوائل هذا القرن، في فيلم من اخراج ايان برنغل، ثم الى المانيا وبوردو للقيام بدور الكاتبة كوليت في الفيلم الذي يعرض حالياً بعنوان "ان تصبح كوليت" من اخراج داني هستون. تنقل وأدوار كبيرة وحاسمة، ومخرجون لا يشك احد في قيمة معظمهم، من كلود شابرول، الى ميشال ديغيل، ومن جاك ديمي، الى الالماني الكبير هيرتزوغ. ومع ذلك ظلت ماتيلدا ماي بعيدة عن الشاشة وعن عيون معجبيها، طوال السنوات الثلاث التي فصلت بين "ثلاثة مقاعد ليوم 26" الذي مثلته الى جانب ايف مونتان، و"كل الآلام مختلطة" من اخراج ميشال ديفيل. لماذا؟ - "ليست ثمة اسباب معينة، تقول ماتيلدا، كل ما في الامر انني عملت في الخارج ومعظم الافلام التي عملت فيها لم تجد موزعين يوزعونها حتى اليوم". سهولة السينما حكاية ماتيلدا ماي، اشبه بحكايات الجنيات السعيدات… وهي نفسها لا تصدق اليوم انها تمكنت خلال تلك السنوات القلية من ان تصبح احدى اكثر النجمات الفرنسيات الشابات شهرة في العالم. والحال ان ما من شيء في طفولة وصبا تلك التي ولدت ذات يوم خريفي من العام 1965، كان يشير بأنها سوف تسلك ذلك المصير. منذ طفولتها كانت تريد ان تصبح راقصة باليه، وهذا ما جعلها تدخل "الكونسرفاتوار" منذ كانت في الثامنة من عمرها… وهي واصلت دراستها للرقص حتى الثامنة عشرة. ولكن ذات يوم اتصلت بها صديقة للعائلة تدعى ميريام برو، كانت اصبحت مع مرور الوقت وكيلة فنانين وقالت لها: "اتحبين ان تعملي في السينما… ان هناك من يبحث عن فتاة حسناء ناعمة لدور كبير. يريدها شقراء… ولكن يمكنك ان تجربي حظك مع ذلك". وجربت ماتيلدا حظها فنالت الدور بين ليلة وضحاها. حين تتذكر هذا تغرق ماتيلدا في الضحك: "لقد تعبت عشرة اعوام من حياتي لأصبح راقصة فلم افلح. وخلال نصف ساعة من الاختبار اصبحت ممثلة. انه سحر السينما… ولكن سهولتها ايضاً". هذه السهولة لم تغر ماتيلدا ماي على الاطلاق. ولهذا، ومنذ عملت في الفيلم الاول "نيمو" من اخراج آرنو سيلينياك، آلت على نفسها ان "تدرس" فن التمثيل نظرياً وميدانياً، اي في الاكاديمية وعبر مراقبة الممثلين الكبار الذين يقيض لها ان تعمل معهم. الدور والشخصية منذ "نيمو" وحتى الآن صارت ماتيلدا ماي نجمة كبيرة، لعبت في عدد كبير من الافلام، وقامت بشخصيات عديدة. لكنها ظلت على الدوام تلك الطفلة الهادئة ذات العينين المتأملتين في البعيد. ومع هذا، رغم هدوئها، كان من المدهش ان المخرجين الكبار الذين عملت معهم اختاروا دائماً ان يعطوها ادواراً بعيدة عن ظاهر شخصيتها، ناهيك عن انها ومنذ فيلمها التالي "قوة الحياة" وجدت نفسها وقد صارت بدوية من بدويات السينما، وراحت تنتقل بين العواصملندن في "قوة الحياة" وبوينس آيرس في "التانغو العاري" والصحارى "ايزابيل ابرهاردت" والمسلسل التلفزيوني "سحر الصحراء" ومجاهل اميركا اللاتينية. وبالنسبة لادوارها تقول ماتيلدا ان من الامور التي تسرها، ان يصر المخرجون على اعطائها ادواراً تتناقض مع شخصيتها: وذلك لأن لدي انطباعاً بأنني لست شديدة الاهمية كما انا في حقيقة ذاتي. ثم ان القيام بادوار تناقض شخصيتي يمثل جزءاً من لعبة التنكر والاقنعة التي احب ان العبها. فانا احب ان ابدل من مظهري تبعاً لتبدل الادوار. وأعتقد ان السمة الخارجية التي يسبغها الدور على الممثل مسألة في غاية الاهمية". فهل معنى هذا ان ماتيلدا ماي تختبئ خلف ادوارها، ام معناه انها عبر تلك الادوار تكشف عما هو خفي في داخلها مختبئ في الاعماق خلف سماتها الخارجية؟ "حسب الظروف. انني غالباً ما يخامرني الانطباع بأنني اتجسد روحاً وجسداً عبر الادوار التي اقوم بها. يحدث الامر كما لو انني كنت بحاجة للدور لكي اوجد وجوداً حقيقياً لكي اوجد ذاتي الحقيقية". ويبدو ان هذا هو السبب الذي يجعل ماتيلدا ماي تخشى المقابلات المتلفزة لأن مثل هذه المقابلات تقدمها بصورتها الخارجية الاعتيادية دون اقنعة ودون اية امكانية لكشف الذات من داخلها. هواجس المرأة في هذا الصدد تبدو ماتيلدا ماي اليوم سعيدة. ليس فقط لأنها تزوجت من المنتج بول بويل الذي تقيم معه في لندن. بل ايضاً لأن افلامها الأخيرة قد اتاحت لها ان تختبئ حسب المعنى الذي تعبر عنه في نظريتها حول الاقنعة والتنكر خلف شخصيتين حقيقيتين على الاقل، شخصية ايزابيل ابرهاردت، وشخصية كوليت. بالنسبة لهذا الفيلم الأخير تقول ماتيلدا ان اشد ما يلفت انتباهها فيه هو تلك القدرة التي مكنت ويلي كلاوس ماريا براندور من ان يجعل من الريفية الساذجة والطيبة غابرييل، نجمة للحياة الادبية الفرنسية خلال مرحلة ما بين الحربين. "المهم في هذا الفيلم هو كيف تحولت غابرييل الى كوليت". ولكن هل كان من السهل على ماتيلدا ماي ان تمثل دور كوليت على الشاشة؟ "لست ادري. مهما يكن وبالنسبة الى دوري ايزابيل ابرهاردت وكوليت، على السواء كنت قلت لنفسي: انهما فيلمان يحملان رؤية مخرجيهما بالنسبة الى شخصيتين وجدتا حقاً. لذلك لم احاول ابداً ان ادرس حقيقة كل من الشخصيتين لكي اجعل من ادائي مجرد محاكاة للواقع. لقد تبعت السيناريو كما هو. واخترت ان اعبر عن نظرة وفضول تلك الفتاة كوليت التي سكنها وهي تستيقظ على الحياة، هاجس وألم وغضب المرأة حين تكتشف انها مستغلة من قبل نصّاب. اما بالنسبة الى شخصية ايزابيل فقد همني فيها التعبير عن ذلك التطلع الى البعيد، الى الآخر. ايزابيل ابرهاردت تمثل بالنسبة الي صفاء الروح والعلاقة مع الطبيعة ومحاولة الخروج من جلد الذات الى آفاق الاندماج بالآخر". مهما يكن، تقول ماتيلدا الآن انها تنتظر حكم الجمهور على ادائها في كل من هذين الفيلمين. شخصيات متعددة في المقابل، ترى ماتيلدا ان اداءها في الافلام الأخرى التي مثلتها حديثاً لا يقل بالنسبة اليها اهمية، حتى ولو كانت الشخصيات التي ادتها شخصيات مستمدة من الخيال. وهي تتوقف بشكل خاص عند عملها مع المخرج الالماني وورنر هيرتزوغ في فيلم "نداء الصخر". بالنسبة اليها لم يكن العمل في هذا الفيلم مجرد تصوير وحسب. كان تجربة في البقاء، ومغامرة حقيقية "هرتزوغ انسان شجاع وعنيد" تقول اليوم وهي تتذكر "اهم ما فيه انه يصل في تنفيذه لافكاره الى غايتها ولا يتراجع امام امر… بل ويصر على ان يدفع الطاقم العامل معه الى خوض المغامرة برفقته. فهل اقول انه ينوّم الذين يعملون معه تنويماً مغناطيسياً؟ ربما… فأنا مثلاً كان يدفعني الى عمل اشياء لم يكن من شأني ان امثلها لو طلبها مني اي مخرج آخر: كان يصر عليّ ان اصعد الى قمة جبل عند الفجر، مثلاً، والريح تعصف بسرعة 200 كلم في الساعة ومع هذا فأنا لا احب مثل هذه الامور. بل ولا احب السفر حتى!". بدوية في "سحر الصحراء" كاتبة مسلمة من اصل روسي في "ايزابيل ابرهاردت"، كاتبة مقدامة في "كوليت" فتاة قلقة في "صرخة البوم" من اخراج كلود شابرول، امرأة آتية من الفضاء الخارجي في "قوة الحياة"، بانك في "حياة جيرار فلوك المتدهورة"، او الام الملوعة في "السلم"… كل هذه الادوار لعبتها ماتيلدا ماي حتى الآن… وكلها ادوار تتناقض مع شخصيتها. مرة واحدة ادت دوراً شبيهاً بواقعها الحياتي… كان ذلك في "ثلاثة مقاعد ليوم 26"… لكنها لم تنجح فيه بما فيه الكفاية. فهل الخطأ منها؟ "لست ادري. لكي اتأكد من هذا سأنتظر فيلمي المقبل، حيث امثل فيه دور راقصة ومغنية تشبهني كما لو كانت اختي". راقصة ماتيلدا ماي… وأخيراً بدأت تنصرف الى الغناء. فهل يكون العام 1992 عامها؟ هذا ما تأمل فيه، شرط ان تجد موزعاً للافلام الكبيرة التي مثلتها. ويقيناً ان النجاح المحتمل لفيلم "كوليت" سيسهل هذا الامر.