خمسون فيلماً روائياً طويلاً للسينما خلال خمسين عاماً تقريباً، وأفلام عدة متوسطة أو قصيرة، ناهيك بدزينتين وأكثر من الأعمال التلفزيونية... ولنضف الى هذا بعض ظهور عابر في بعض الأفلام وطغيان فكاهة سوداء وحسّ ساخر على أفلام الجرائم وأفلام التشويق... سيكون من المنطقي لمن يقرأ هذه المقدمة أن يعتقد اننا نتحدث عن ألفريد هتشكوك. فتلك هي تقريباً محصلة العمل السينمائي لهذا الذي يعتبر اليوم أعظم سينمائي حقيقي مرّ في تاريخ السينما. بيد أننا لا نتحدث هنا عنه، بل عن كلود شابرول، زميله الفرنسي الذي، من دون ان يرغب حقاً في ان يكون «نسخة» فرنسية منه، شابهه في أمور كثيرة. بل أكثر من هذا: شابرول بدأ حياته السينمائية بإصدار واحد من أول الكتب الفرنسية عن هتشكوك، شراكة مع مواطنه الذي سيصبح مخرجاً طليعياً كبيراً بدوره، إريك رومر. كان ذلك في العام 1957 وحتى قبل ان يكتشف النقد الأميركي الجاد نفسه أهمية هتشكوك خارج شبّاك التذاكر، ويدرك موقعه في ما سيُسمّى لاحقاً «سياسة المؤلف» في السينما... استعادة بيروتية هذا كله جرى تداوله بوفرة قبل أعوام قليلة حين رحل كلود شابرول عن عالمنا في شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2010... كما جرى – وأكثر من اللازم أحياناً – الحديث عن «تأسيس» شابرول للموجة الجديدة الفرنسية ولا سيما عبر فيلميه الأولين «سيرج الجميل» و «أبناء العم». أما العودة إليه اليوم فتفرضها مناسبة لا بأس من التركيز على أهميتها بالنسبة الى الجمهور المتزايد في لبنان من هواة السينما الحقيقية. فالحال ان «المعهد الفرنسي» في لبنان وجمعية «متروبوليس» ينظمان بين السادس والعشرين من الشهر الجاري والخامس من الشهر المقبل، ما يمكن اعتباره أول استعادة من نوعها في لبنان لسينما كلود شابرول. وهي استعادة تتمثل في عرض أحد عشر فيلماً تم اختيارها بحيث تمثل في مجموعها مختلف المراحل والأساليب والأنواع التي بها ارتبطت سينما هذا الفنان الذي عرف بحبه للحياة ومرحه ولباقته حتى من دون أن ينعكس أيّ من هذه السمات في سينماه. والحقيقة أن الأفلام الشابرولية المعروضة في بيروت ستكشف بعض التطورات الأساسية التي مرت بها سينما شابرول منذ «سيرج الجميل» (1958) الذي بعد النجاح الذي حققه باعتباره فيلماً تأسيسياً لن يفوت صاحبه أن يعلن انه فيلم «لا يحتمل»، وحتى «الفتاة المقطّعة قسمين» الذي كان في العام 2007 واحداً من آخر أفلامه، إذ انه لم يحقق من بعده سوى «بل آمي» المقتبس من غي دي موباسان، من بطولة جيرار ديبارديو الذي كان ذلك تعاونه الوحيد معه. إذاً، بين «سيرج الجميل» و «الفتاة المقطّعة...» حقق شابرول ذلك المتن السينمائي الذي يبدو لنا اليوم في تأمل استعادي، شديد التنوع، وحتى شديد التفاوت من الناحية الفنية، حيث نرى فيه أفلاماً رائعة تترك لصاحبها مكاناً مميزاً في تاريخ السينما الفرنسية، كما نجد فيها أفلاماً سيقول شابرول بعد تحقيقه كلّ واحد منها إنه إنما حققها لأسباب تجارية / معيشية لا أكثر. ولعل المشاهد الحصيف لن يفوته أن يلاحظ أن «الاستعادة» البيروتية لا تتضمن أي واحد من أفلام النوع الثاني التي تحمل عناوين مثل «دكتور بوبول» و «النمر يحب اللحم الطازج» و «النمر يتعطر باليناميت» أو «ماري شانتال ضد الدكتور خا»... مثل هذه الأفلام حققها شابرول في الستينات من القرن الماضي يوم سادت موضة أفلام التجسس وجيمس بوند، وكان شابرول حينها يرغب في الانفصال تماماً عن سمعته كواحد من مخرجي أفلام «الموجة الجديدة»، ناهيك بأنه في ذلك الحين إذ تحوّل الى الإنتاج، بات تواقاً الى تحقيق أرباح. ويذكر كاتب هذه السطور انه خلال التقائه شابرول في طائرة نيس/باريس بعد انقضاء دورة العام 1978 لمهرجان «كان» التي نالت فيها ايزابيل هوبير جائزة أفضل ممثلة عن دورها في «فيوليت نوزيير» من إخراج شابرول نفسه، قال هذا الأخير لنا ضاحكاً بعد حديث طويل عن النبيذ وقيمته الاجتماعية والغذائية في فرنسا، ولا سيما الأنواع الأبهظ كلفة من بينه، انه اضطر الى تحقيق تلك الأفلام لتوفير ثمن النبيذ الذي كان يلتهمه بوفرة، وظل كذلك حتى آخر أيام حياته هو الذي عُرف بذوقه البورجوازي الكبير في مجال تذوق الخمور الأصيلة... طبعاً كان شابرول في ذلك «التصريح» يمزح كعادته، لكن مزحته كانت تعبّر عن رأيه في تلك الأفلام التي لم تكن على اية حال كثيرة العدد.. السينما الشعبية ما كان كثيراً، في المقابل، إنما كان أفلامه التي انتمت في شكل أو في آخر الى ما يمكن تسميته «السينما الشعبية»، ونعني بها تلك السينما التي تتأرجح بين اللغة الفنية المتقدمة والمواضيع الناقدة اجتماعياً والأداء السينمائي الرفيع، ولا سيما في مجال إدارة الممثلين، الذين كان معظمهم يعودون لديه بين فيلم وآخر – على غرار ستيفان أودران التي مثلت معه حين كانت زوجته وواصلت العمل تحت إدارته بعد طلاقهما، كما على غرار ايزابيل هوبير التي تعتبره مكتشفها الحقيقي كما صرحت لنا بنفسها في تلك السفرة من نيس الى باريس حيث صادف مقعداهما الى جانب مقعد كاتب هذه السطور، فكانت دردشة مثلثة نشرت تفاصيلها يومذاك في الصحيفة التي كنت أعمل بها -... والحقيقة ان هذه العودة المتكررة للممثلين انفسهم شملت ايضاً عودة التقنيين نفسهم في اغلب الأحيان، ما خلق من حول شابرول جواً عائلياً سيصل لاحقاً الى ذروته حين تحول اثنان من ابنائه الى ممثلين وواحد الى موسيقي كتب الموسيقى لنحو عشرين من أعمال أبيه وعملت ابنة زوجته الأخيرة في ديكورات افلامه... وما الى ذلك. ولعل اللافت، انطلاقاً من هذا التأكيد العائلي، هو ان العدد الأكبر من أفلام شابرول الهامة إنما يدور في أجواء وبيوت عائلية، بما في ذلك الأفلام التي تتمحور مواضيعها من حول جرائم أو صراعات أو ما يشبه ذلك... ومع هذا، من بين الألقاب الكثيرة التي اتاحت مواضيع أفلام شابرول اطلاقها عليه – ومنها «مخرج الأفلام البورجوازية» و «سيد التشويق العائلي» و «مبدع حكايات المرأة الخائنة» و «المصوّر الدقيق للروح الإنسانية» – كان شابرول يفضل لقباً يبدو انه هو من كان قد اوحى به: «مخرج الحماقة»... أي المخرج الذي صوّر الحماقة البشرية في أفلامه بأقصى وأقسى تجلياتها هو الذي اعتاد ان يقول «لا شك في ان الحماقة أكثر فتنة من الذكاء بكثير، وهي اكثر عمقاً منه على اية حال. فللذكاء حدود يمكن التوقف عندها، أما الحماقة فلا حدود لها، لذا تسمح للمخيّلات بالاشتغال من دون هوادة». وتقول الحكاية ان هذا الكلام قاله شابرول إثر ضجة أحدثها في العام 1963 فيلم «لاندرو» الذي كتب له السيناريو بنفسه شراكة مع الكاتبة المعروفة فرانسواز ساغان، ورأى فيه نقاد كثر «نوعاً من الافتتان بالشر والحماقة في الآن معاً»، اي شر المجرم «لاندرو» الذي اقتبس السيناريو عن حكايته الحقيقية، وحماقة ضحاياه. يومها ادلى شابرول بذلك التصريح، مضيفاً ان اهم ما في حكاية ذلك السفاح إنما هو حماقة ضحاياه... «تحف صغيرة» من المؤسف ان «لاندرو» ليس معروضاً في البرنامج الاستعادي البيروتي. ولكن في المقابل ستكون هناك «تحف صغيرة» طبعت مسار شابرول وفي مقدمها فيلمه الكبير «الاحتفال» الذي اقتبسه من رواية لإحدى سيدات الأدب البوليس الإنكليزي، روث راندال... وهو فيلم ينظر اليه النقاد عادة باعتباره القمة السينمائية التي جمعت معظم «ثيمات» سينما شابرول الأساسية من علاقة السيد بالعبد الى الخيانة الزوجية وغير الزوجية، الى انحطاط البورجوازية الريفية الى القتل الطقوسي الى الصداقة الى... الحماقة نفسها، ناهيك بإبداعه الاستثنائي هنا في إدارة ممثلتيه الرئيستين ايزابيل هوبير وساندرين بونير الى جانب جاكلين بيسيه... بيد ان «الاحتفال» لن يعرض، كما كان جديراً به، في افتتاح البرنامج بل في ختامه حيث إن الافتتاح كرّس لواحد آخر من أفلام شابرول «الريفية» الجامعة للعدد الأكبر من «ثيماته» ونعني به فيلم «الجزار» من بطولة ستيفان أودران وجان يان والمحقق في العام 1970. ويدور «الجزار» من حول جريمة في بلدة ريفية تقع ضحيتها امرأتان تذبحان في شكل وحشي... ويحدث إثر هذا ان تقع معلمة مدرسة في هوى رجل غريب الأطوار سرعان ما تظنّ أنه هو القاتل فلا يكون منه بعد ان يشعر ان أمره قد افتُضح، إلا أن يدخل صف المعلمة في المدرسة لينتحر وهو يعترف لها بحبه! بين «الجزار» و «الاحتفال» هناك في البرنامج البيروتي تسعة أفلام أخرى تعطي – كما أشرنا – فكرة متنوعة عن سينما شابرول، معيدة الى الواجهة هذه السينما التي تدهشنا ارقام شباك التذاكر المسجلة على مدى عقود إذ تفيدنا بالتجاور في اعلى السلّم وأسفله بين افلام لشابرول شديدة التفاوت فنياً. فمثلاً في المرتبة الأولى يأتي «دكتور بوبول» من بطولة جان بول بلموندو، وهو فيلم جماهيري يتسم بالسذاجة وكتب خصيصاً من أجل بلموندو الذي كان في قمة شعبيته في ذلك الحين (1972) بأكثر من مليوني مشاهد، يليه مباشرة فيلم «ابناء العم» الأكثر تجريبية بين افلام الرجل بمليون وثمانمئة ألف مشاهد. أما في اسفل الترتيب فيأتي فيلمه الأكثر طموحاً «أيام هادئة في كليشي» عن العلاقة في باريس الثلاثينات بين الكاتب الأميركي هنري ميللر ومواطنته الشابة اناييس نين، الى جوار فيلم «دم الآخرين» الذي حقق عام عرضه 1984 واحداً من اكثر ضروب الفشل التجاري في مسار شابرول مع انه من بطولة الأميركية جودي فوستر التي كانت من ابرز نجوم الشبّاك على الصعيد العالمي في ذلك الحين! مهما يكن، في عودة الى عروض برنامج جمعية «متروبوليس» نشير الى ان الأفلام المعروضة تباعاً بين الافتتاح والختام هي على التوالي: «بيتّي» الذي حقق في العام 1992، و «سيرج الجميل» الذي كان الأول في سينما شابرول ولا يزال يعتبر حتى اليوم واحداً من اهم افلامه على رغم إنكاره هو له!، ثم هناك «المفتش لافادان» الذي حققه شابرول العام 1986 كنوع من التتويج السينمائي لسلسلة تلفزيونية حققها من حول مغامرات وتحقيقات المفتش نفسه (وقام بالدور جان بواريه)، ثم «الجحيم» يليه تباعاً فيلمان من انجح افلامه وأكثرها تعبيراً عن مناخاته وكون سينماه احياناً سينما نسائية خالصة: «التيوس» و «المرأة الخائنة» وهما حُقّقا تباعاً عامي 1968 و1969، ثم «الفتاة المقطّعة قسمين» الذي سبقت الإشارة اليه، يليه «فليمت الوحش» (1969) ثم «زهرة الشر» (2003).