يقع هذا الفيلم على الحدود الواهية ما بين الواقع والسينما، في تناوله تجربة مخرجة سينمائية سعت الى تعلم دروس في التانغو، الرقصة الارجنتينية الشهيرة، لتنتهي الى فكرة اخراج فيلم حول الموضوع. وكي توقع المتفرج بهذا الوهم، تركت سالي بوتر الأسماء كما هي في الواقع، وقامت باداء الدور الرئيسي في الفيلم. المخرجة البريطانية سالي بوتر معروفة كمخرجة مسرحية وسينمائية، قدمت من قبل أفلاماً وثائقية وفيلمين روائيين "حفارو الذهب" 1983 بطولة جولي كريستي، و"أورلاندو" 1992 الذي رشح للأوسكار وحصل على تقدير النقاد في أماكن عدة في العالم، وهو عن رواية لفرجينيا وولف. في هذا الفيلم تنتقل بوتر الى عوالم أخرى مختلفة، فهذا فيلم موسيقي راقص، مهووس بفكرة التانغو. لكن الى أي مدى يقدم حبكة مقنعة تبرر كل مشاهد الرقص؟ يفتتح الفيلم بمشهد جلوس مخرجة في أواخر اربعيناتها الى طاولتها لكتابة سيناريو فيلم عن قتل متسلسل لعارضات أزياء. تتقاطع مشاهد السيناريو المفترض بصرياً مع مشهد كتابته، وقد ميز الفيلم بين المستويين: الأبيض والأسود للمشاهد الواقعية، والألوان للسيناريو الذي تجري كتابته. تنتقل سالي الى باريس، هناك يتسلل الى سمعها صوت موسيقى تانغو أثناء مرورها أمام أحد المسارح، فتدخل لتتفرج على ثنائي راقص، أحدهما الراقص الارجنتيني الشهير بابلو فيرون. بعد العرض تطلب من الشاب ان يعلمها الرقص، ويبدأ من ثم تقسيم الفيلم الى دروس - تكمل عشرة مع نهاية الفيلم - تتوزع أماكنها ما بين باريس ولندن وبيونس ايرس. تنساق البطلة الى فكرة الدروس، وعندما تستدعى الى هوليوود لمناقشة السيناريو المقترح لفيلمها تتضايق من الاقتراحات الكثيرة المقدمة لتعديل الفيلم، فتقرر ان تنساه بعد ان تكتشف انها كانت تشتغل على فيلم لن تنجزه. تعود الى باريس وتخبر بابلو بقرارها، وتبدأ فكرة انجاز فيلم تكون موضوعته رقصة التانغو. تتبادل مع بابلو الاتفاق، هو يعلمها الرقص باحتراف وهي تجعله بطل فيلمها القادم. يتمتع الفيلم بالعديد من المشاهد الراقصة الجميلة التي صممها بابلو بنفسه واقعياً. لكن ذلك كان على حساب تماسك الفيلم الذي بدا ضعيفاً غير مقنع في كثير من الأحيان. وقد يعزى هذا الضعف الى ان السيناريو لم يعتمد على نص مكتوب، كما هي الحال مع فيلم المخرجة السابق "اورلاندو" الذي اعدته بنفسها، على رغم ان الرواية تبحر في التاريخ أربعة قرون. لكنها هنا تنساق خلف غواية المشاهد الراقصة، متنقلة بسهولة بين عواصم العالم، تحكي عن فيلم ستخرجه، لا تقدم سوى بروفات للرقص. لم تعد تفكر بالسيناريو كما كانت تفعل مع فيلمها الذي تخلت عنه. يحاول "دروس في التانغو" مقاربة أفلام هوليوود الموسيقية، مع فارق في النظرة، ففي هذه الأخيرة هناك دائماً حبكة تعتمد على وجود رجل، يلتقي بفتاة فيمنحها دوراً في العرض. اما هنا فالمرأة هي التي تبادر لتقديم الرجل في فيلمها المقبل، فسالي بوتر مناصرة متحمسة للحركة النسوية، لذا تمنح الشخصية النسائية دوراً ايجابياً. ان رقصة التانغو رقصة الهيمنة الذكورية، الرجل فيها هو الذي يقود المرأة، ويحدد حركتها، لذا كان النزاع دائماً يثور بين سالي وبابلو الذي يقول لها غاضباً في أعقاب حفل مشترك قدماه في باريس، انها في رقصها لا تنقاد له لذا تحد من حريته في الحركة. لكنها عندما تقرر ان تدخله في فيلمها المقبل تفرض عليه الشرط نفسه، ان تقوده في مجالها الخاص بها. الفيلم الذي يبدأ برغبة شديدة لتعلم التانغو ينتهي بتعلم أشياء كثيرة عن الحياة والعلاقة بين الرجل والمرأة والغيرة والفقدان. تقول المخرجة في مقابلة معها ان الفيلم يعتمد كثيراً على جانب من تجربتها الشخصية. ففي العام 1993 تعرفت على بالو وبدأت معه دروساً في التانغو، ثم قدما كثنائي عروضاً مشتركة في امستردام ومرسيليا. وقد أرادت من فيلمها هذا التركيز على جاذبية المتضادات: الثقافة الانغلوساكسونية في مقابل الثقافة اللاتينية، الذكورة مقابل الأنوثة، العاشق والمعشوق، القائد والمقاد، والصراع بين شخصين كل منهما اعتاد ان يكون في مجاله الابداعي هو القائد. ونضيف كذلك الفارق في العمر ايضاً، ثم الخلاف في الأديان، فالمخرجة يهودية، وعندما قررت مع بابلو ان يتزوجا اصطحبته الى كنيس يهودي بعد ان ارتدى القبعة التقليدية، واكتفى المشهد بتقديم ترتيل ديني طويل لا مبرر له. يقدم "درس في التانغو" متعة بصرية لمحبي هذا الفن، اضافة لرشاقة كاميرا مدير التصوير روبي مالر الذي أجاد تحريكها في مختلف مشاهد الرقص، لتركز على زوايا مختلفة في المكان والأشخاص. كما ان فكرة انجاز الفيلم بالأبيض والأسود تعيد الى الاذهان رومانسية الافلام الكلاسيكية، اضافة بالطبع لمتعة موسيقى التانغو بحد ذاتها، والتي قدمت كذلك كخلفية لبعض المشاهد. وأجاد مالر استغلال الحساسية الضوئية، ويمكن ملاحظة ذلك في المشاهد التي صورت في شقة المخرجة، إذ يسود الضوء الأبيض، ويبدو متسقاً مع بياض صفحات الورق، وعدم قدرة سالي على الكتابة. قامت سالي بوتر باداء الدور الرئيسي في الفيلم، للمرة الأولى في حياتها. وباستثناء تميزها في مشاهد الرقص، وهو مجالها الذي تجيده كما يبدو، لم تقدم اداء متميزاً وانما باهتاً ضعيفاً، خصوصاً في تعابير الوجه. وهي تبرر ذلك بأنها لم تجد بين الممثلات من هي كفؤ للقيام بهذا الدور، اما راقصات التانغو الشهيرات فليس بينهن من مثلت من قبل. لكن النتيجة الأخيرة ان المخرجة انجزت فيلمها الشخصي الذي كانت تحلم به، ويتماهى مع حياتها الواقعية، رقصت رقصتها المفضلة، ثم انتهى الفيلم بأغنية حب تؤديها هي بصوتها الخاص!