كتبت هذه الرواية لأسمع نفسي، الكتابة بحد ذاتها منولوج داخلي ينمو معك، يظل يلح عليك حتى تخرجه وتراه مرصوفاً أمامك ككلمات، لذلك كان منولوج"عيون الثعالب"يؤرقني منذ دخلت عالم الكتابة ووعيت أسئلته، يقولون ان الرواية الأولى للكاتب هي الأسئلة الأولى التي تشغله، وعالم الكتابة والتباساته عالم مليء بالأسئلة، كتبت هذه الرواية لأروي دهشتي الأولى حين مارست الكتابة ووعيت أن لها زمناً مختلفاً، ومحكوماً بالساعة التي ترتديها أنت، هل هي ساعة تشير لقيمك ومبادئك ودربك أم ساعة تشير لدرب آخر لا تعرفه ولا تؤمن به؟! كتبت هذا النص لأني أريد أن أقول أشياء كثيرة، أشياء عبرتني وأردت أن أحكيها بطريقتي، أشياء كنت أراها ملتبسة وغير مفهومة ..وأشياء أخرى كنت أعبرها، وأريد أن أفهمها، النص كان محاولة مني لفهم كل تلك الأشياء. حاولت أن أكون محايدة في رسمي لشخوص النص، ومحايدة في رسم الجو العام، أردت أن أرسم المشهد بواقعية، بعيداً عن تبني وجهات نظر مؤدلجة. كتبت النص على مدار سنة كاملة، كنت أقتنص المشاهد التي كنت أراها جديرة بإغناء النص من مسارب عدة وأوثقها، مشاهد واقعية ومشاهد محتملة ومشاهد خلقها فضاء النص. - لا أستطيع أن أرسم الحدود بين الواقع والخيال في الرواية، لأن العمل الفني يخلق عالماً موازياً لهما معاً، النص كما يقال فضاء حر للتأويل، ولكن ينبغي أن يكون تأويل النص الأدبي جاداً ومعتمداً على بنية النص لا على ربط النص بشخوص من الخارج، التأويل المبني على الحدس والتخمين هو تأويل ساذج يفرغ النص من قيمته، والشخصيات في أي نص هي شخصيات متخيلة توازي شخصيات العالم الواقعي، والسارد خالق يرسم أقداراً وسيناريوهات هذه الشخصيات، هذه الشخصية التي يخلقها السارد ليست نقلاً حرفياً للواقع، السارد يغني شخصيات نصوصه بأكثر من كاركتر، الشخصية في النصوص الإبداعية تحيل إلى رمز ولا تحيل إلى شخص بعينه وإلا لتحول العمل إلى سيرة ذاتية، وهو ليس كذلك. - عندما يبدأ السارد في الكتابة تبدو الصورة أمامه كبيرة وواسعة، يعلم يقيناً أن كتابته لا تستطيع أن تستوعبها كاملة، لذلك ينتقي ويمارس ما يسمونه الحذف والإثبات، فهو في كتابته يثبت مشاهد من الصورة ويحذف مشاهد أخرى، يقتطع ويختار، ومن هذا المنطلق أقول ما أثبته في الرواية لا يلغي المحذوف منها. ما كتبته عن ثعالب الثقافة لا يلغي وجود بقية الأنواع. النص عندما يتخلق يصنع طقسه الخاص به ويطالبك كمنتج له أن تثري هذا الجانب وأن تعمق ذلك الحوار، لم يكن النص في نسخته الأولية كما يبدو الآن، وكنت أعي ذلك وأعي أنني يجب أن لا أبتره أو أغيب أجزاء منه حتى يكتمل النص، عندما أنهيته، بدأت في عملية المنتجة، حذفت مقاطع ..كانت ضرورية للنص في مقامه الأول وأصبحت في مقامه الأخير عبئاً عليه، لكنك وأنت تكتب النص لا يمكنك الاستغناء عن ترهلاته الأولى، فهذه الترهلات هي ما يهيئك للدخول لبنية النص الحقيقية، ومأزق بعض الكتاب أنهم لا يعون مرحلة الترهل ولا يعرفون كيف يقتطعونها من النص لاحقاً، فتأتي نصوصهم مترهلة ومليئة بكلام كان يمكن الاستغناء عنه. مرحلة الكتابة الأولى هي مرحلة عصف إبداعي لكتابة موقتة، لا بد منها كي تؤسس لاحقاً للكتابة الثابتة، وأزعم أنني مررت بمرحلة عصف إبداعي لذيذ استغنيت لاحقاً عن كثير منه، مرة بمشورة أصدقاء ومرات بمشورة الساردة، وأتمنى أن لا أكون فوت شيئاً من الترهل هنا أو هناك، لأن لياقة النص الأدبي هي من أسس بنائه التي تجعل له قالباً خاصاً يميزه. كرهت النص في مراحله الأخيرة، مرحلة المنتجة والحذف والتعديل والقراءة السالخة لجلد الكلمات، أسميها مرحلة الملل..لم أعد أريد أن أقرأ...أو أعيد ربط السياقات ...تخيل أن تكون في مسلخ الكلام، وأمامك عشرات المقاطع معلقة تنتظر سلخها، تقرأها مرة مجتزأة ومرة مربوطة في سياقها وثالثة متماهية مع سياقات أخرى، تقرأ ...وتقرأ..وأنت ترى الشخصيات تستجديك ...لا تحذف هذا الحوار لأنه ضوء يشير إلي،...دع ذلك الحوار يتراجع للخلف حتى أكون مستعدة له، شخصيات أخرى تقول لك لم أتواجد كفاية ! لم تنصفني في الوصف ...وشخصيات تدخل لقلبك لتقول لك...لا تضعني في تلك الزاوية ...يكون للنص خلق يستجديك ويحاكمك ويتظاهر ضدك ...فتهرب من كل ضوضائهم ولا تريد أن تقرأهم مجدداً ..كأنك ببعدك عن النص تحيد السارد فيك قليلاً ليقرأ النص بعد أن هدأت ثورة شخصياته ! ندى لم تكن مرسومة بذهني بتلك الصورة التي ظهرت في النص، كانت أقل حضوراً ...لكن طقس النص أثراها وجعلها أكثر عمقاً، وعندما يحتاج السارد أن يعمق شخصية ما فلابد له أن يجمعها بأشباهها ..أن يجعلها مرآة تعكس لوناً غامقاً لما يريد قوله. تعتقد أنك تتحكم بالشخصيات وتفصل لها مقاسات الكلام وتضع لها سيناريوهات محددة مسبقاً، لكني أكتشفت أن الشخصيات تحيا عندما تكتب نصاً طويلاً كالرواية، تحيا بمعنى تقترب منك وتألفها وتتعاطف مع مصائرها التي وضعت لها، أحياناً تقول لك الشخصية هذا الحوار لا يناسبني ..ألا تذكرين أنا سعيد المتعدد وهذا الحوار لا يروقني! أنا عائشة وهذه العدالة التي ترسمين.....فيها كثير من الحياد الذي يناسبني، أصدقائي كانوا يشيرون إلى ضآلة بعض الشخصيات واختفاء ظلالها، مما جعلني أعيد الكتابة وأعمقها أكثر مثل شخصية الجدة، كانت ...مجرد ظلال عابرة، عدت وكتبتها بعمق أكبر، الحدث الثقافي لم يكن حاضراً بقوة في البداية ...فعمقته باختيار نص لغيداء المنفى وكان هذا النص نافذة مهمة لأعمق ظلال الشخصيات النسائية. بطلة النص مريم رصدت المشهد الثقافي بعين فتاة لم تغادرها دهشة البدايات ؟!..كانت الكتابة بالنسبة لبطلة الرواية درباً مليئاً بالفجاءات، سلكته وهي تدرك أنها تغادر كونها الأليف نحو كون مختلف يهز كل القناعات التي تربت عليها. النص صور جزءاً يسيراً من حكاية الكتابة، وعرض لزاوية لم تطرق من قبل حتى على المستوى العربي إلا بشكل نادر، وهي علاقة المبدع بالمبدعة، كيف ينظر لها في فضاء مفتوح، وكيف يعاملها عندما تكون زوجته وأنثاه، وعلاقة الرجل بالمرأة متن وليست هامشاً أبداً، من ينظر لهذه العلاقة على أنها هامش فهو لا يرى الكون ولا يستطيع أن يكتبه أو يعيد بناءه، علاقة أي رجل بالمرأة هي متن مهم يشير بقوة لشخصية هذا الرجل، سواء أكان مبدعاً أم إمام مسجد. الرواية لم تقدم المثقف/ الحلم ......بل تحدثت عن المثقف / الخيبة، ربما لذلك كثير من المثقفين اتخذوا موقفاً متحفظاً منها في تعليقاتهم عليها، وكأن النص هنا يدينهم بطريقة أو بأخرى ...عندما كنت اسمع هذه التعليقات المتحفظة على بطل النص علي كنت اتساءل لم لم يتحفظ هؤلاء على شخصية ندى في الرواية؟ لماذا أشقاهم علي ووجدوا له مبررات! لم لم يكن لندى مدافعون يبررون لها تصرفاتها وسلوكها، وكأنهم بذلك ارتضوا لها الكاركتر الذي صنعت!...لأنها امرأة وتستحق أن تدان؟! قراءة المضمر في النص تنحاز أيضاً للذكر في الرواية وكأنها تقر إدانة الأنثى وتتماهى مع رؤية الرواية وتساندها ...النص هنا وبهذه القراءات المتحفظة تجاهه يحيا خارج الرواية نفسها لأن قراءة النص جزء من عالمه الخارجي الذي يصنعه، يكون النص وحيداً حين يكون مخبئاً في ملف وورد، لكنه إذا نشر يمتلك أصدقاء كثر، يدافعون عن بعض شخصياته ويسخطون على البعض الآخر، هذا جزء من العالم الخارجي الذي يصنعه النص عندما ينشر ويصل للقراء، ككاتبة يهمني أن يكون للنص هذا الفضاء المفتوح من القراءات، وأن تكون شخصيات النص لها تلك الحياة التي تجعل من بعض القراء يدافعون عنها ويرونها مظلومة، أعتبر ذلك نجاحاً للقدرة التخيلية في النص. لم تكن الرواية وثيقة حية عن الحداثة في السعودية، ولم أكتبها لهذا الهدف، كتبتها لأن لدي ما أريد قوله وقد فعلت. * روائية سعودية.