تتلخص وقائع هذه الدعوى في ادعاء المدعي أنه باع على المدعى عليه مزرعة وصفها وحددها بثمن تجاوز 61 مليون ريال، وأنه أفرغ هذا البيع لدى الدائرة المختصة، لكن المدعى عليه لم يسلم له الثمن، وهو يطلب إلزامه بتسليم الثمن المذكور. وأجاب المدعى عليه بأنه لم يشتر المزرعة المذكورة من المدعي، وطلب رد الدعوى، وأضاف في دفعه:"إن المزرعة رهن له في دين على والد المدعي، وإنها أفرغت بيعاً صورياً توثيقاً لتلك الديون". فصل القاضي في هذه الواقعة بحكم مبين الأسباب، جاء فيه أنه بدرس القضية وتأملها، تبين أن صك الإفراغ آنف الذكر المذكور فيه أن الثمن 61 مليون ريال سُلمت عداً ونقداً، وأن المبيع سُِلم لموكل المدعى عليه حتى الآن، وأن الثمن لم يقبض، وبما أن المدعى عليه دفع بصورية العقد، وأنه لم يقع بيع ولا شراء حقيقةً، وأن ما حصل من إفراغ إنما هو رهن للمزرعة، وبما أن دفع المدعى عليه هذا يؤيده تصادق الطرفين على عدم قبض الثمن المذكور مع كثرته، وهذا أمر تبعده العادة، إذ يبعد عادة أن يقر شخص بتسلم مبلغ كثير جداً عداً ونقداً وهو لم يتسمله ويكون العقد حقيقة، وما أحالته العادة أو أبعدته فهو مردود، يقول ابن عبدالسلام في قواعده 2/12:"القاعدة في الأخبار والدعاوى والشهادات والأقارير وغيرها: أن ما كذّبه العقل أو جوّزه، وأحالته العادة فهو مردود، وأما ما أبعدته العادة من غير إحالة فله رتب في البعد والقرب قد يختلف فيها، فما كان أبعد وقوعاً فهو أولى بالرد، وما كان أقرب وقوعاً فهو أولى بالقبول، وبينهما رتب متفاوتة". يُضاف إلى ذلك: أن المزرعة ما زالت في يد المدعى عليه منذ الإفراغ بتاريخ 13-11-1414ه حتى الآن في 2-2-1418ه بحسب إقرارهما، وذلك بحسب ما قدم من الورقتين اللتين إحداهما: معنونة باسم"محضر اتفاق تسوية حسابات الأسهم"، والأخرى: فيها الخطاب الموجه من والد المدعي إلى المدعى عليه، وقد تضمن الخطاب ذكر رهن المزرعة موضع الدعوى للمدعى عليه، فكل ذلك مؤيد لما دفع به المدعى عليه من أن حقيقة التعاقد رهن لا بيع، وتأجلة العقود يثبت بالقرينة كما ذكره فقهاؤنا"الكشاف 3/150"، ولا يعارض هذا إفادة الغرفة التجارية، والتي قدمها المدعي متضمنة: أنه قد يحدث أحياناً أن يفرغ العقار ويقر بتسلم الثمن وهو لم يتسلم، لأن ما يحدث أحياناً لا يعتد به، ولا يخل بالقاعدة - كما سبق بيانه من كلام العز ابن عبدالسلام، كما لا يعارض ما قررته من أن صك المزرعة باسم المدعي، والديون المرهونة بها مستحقة على والده، ذلك بأن للإنسان أن يرهن ماله في دين عليه لغيره كما ذكره فقهاؤنا"الإختيارات 133"، والمدعي فعل ذلك، إذ أفرغ المزرعة لدى كاتب العدل بحسب الإفراغ المذكور آنفاً، وكان ذلك برضاه واختياره، كما لا يعارض ما قررته من أن المدعى عليه أقر بواسطة وكيله قبوله لهذا الإفراغ لدى كاتب العدل - كما في صك الإفراغ - لأن الإقرار إذا شهدت قرينة قوية برده لم يُعمَل به، برهان ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم - واللفظ به - في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك أنت، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: إيتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل - يرحمك الله - هو ابنها، فقضى به للصغرى"، قال ابن القيم في الطرق الحكمية" ص 6"بعد أن ساق الخبر-:"فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة، فاستدل برضا الكبرى بذلك، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها، وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك-على أنها هي أمه، وأن الحامل لها على الامتناع ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، فإنه حكم به لها مع قولها:"هو ابنها"، وهذا هو الحق، فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه، ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه، لانعقاد سبب التهمة، واعتماد على قرينة الحال في قصده تخصيصه". بناء على ماسلف أعلمت المدعي بأنه لا يستحق ما ادعاه على المدعى عليه من ثمن المزرعة الموصوفة في الدعوى، وأن حقيقة العقد بينهما رهن لابيع، وللمدعي على المدعى عليه اليمين الشرعية مغلظة بأن حقيقة العقد بينهما في المزرعة الموصوفة في الدعوى رهن وليس بيعاً متى طلب المدعي اليمين، فأبى طلبها، وليس له إلا ذلك متى طلبها، واستعد المدعى عليه ببذل اليمين عند طلبها منه، لذلك كله حكمت بصرف النظر عن دعوى المدعي، وأنه لا يستحق ما ادعاه من ثمن المزرعة المذكورة في الدعوى، لأن حقيقة العقد بينهما على المزرعة رهن لا بيع. وبدرس هذا الحكم ولائحته الاعتراضية من محكمة التمييز صدر قرارها بالموافقة على الحكم محمولاً على أسبابه.