بينما رسول الله مسترخ في بيته، قد اضطجع ليرتاح، أرهقت كاهله أعباء النبوة، وتبليغ الدعوة، والصدع بالحق المبين، استأذنت امرأة للدخول على رسول الله، فتذكر الرسول استئذان خديجة، فارتاع للصوت لما سمعه، وفزعت مشاعره، واضطربت عواطفه، وحملته الذكرى الجميلة إلى رياض خديجة، فارتاح نفسا بها، وتنفس عبير ماضيها، وصار يردد داعياً بصوت محب وافي:"اللهم هالة". وأثار ذلك زوجته الحظية عنده عائشة، فتحركت حفيظتها من امرأة ماتت، لما رأت وضع زوجها تغير لاستقبال هالة، وأقبل بوجهه عليها، وارتاح لصوتها، فبدأت الغيرة تتبين من قول عائشة حين قالت: وما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، أي: سقطت أسنانها من الكبر، فصارت كليلة عن البيان، حمشاء الساقين، أي: دقيقة العظام، هزيلة القوام، هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها. ولا يستغرب حصول الغيرة من خيار النساء وفضلياتهن، لأنها من أمور الطباع، وقد اعترفت عائشة بمعاناة الغيرة حين قالت:"فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة"وحين تبدو الغيرة بنسبة معقولة، فإنها محمودة تشحذ حرارة المحبة، وتشد أواصر العشرة، لما تهيجه من العتاب المتودد، والحديث العذب: وقد كان ذاك العتب عن فرط غيرة وياطيب عتب بالمحبة يشهد إذا ماتعاتبنا وعدنا إلى الرضى فذلك ود بيننا يتجدد إلا أنها حين تتجاوز الحد، وتخرج عن الطور، تكون مذمومة، ينكر على صاحبها، وهذا ما أثار حفيظة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وندر غضبه، حتى تغير وجه رسول الله لما سمع قول عائشة تغيراً لم تره عائشة على وجهه إلا عند نزول الوحي، أو عند تغير الجو حتى يعلم أرحمة أم عذاب، وقد جعل قولها السابق يتردد في ذاكرته عن امرأة صاحبة فضل وإحسان فارق جسدها وكيانها، ولم تغادر ذكراها مكانها، انقضى زمن محياها، وما انقضت محامدها أو درست سجاياها، فظهر ذلك في وجهه، ثم أطلق لسانه في الثناء عليها، فقال:"إني رزقت حبها". وفي هذا التعبير وصف حبها بالرزق الذي تنعم به معها، ولم يقل: رزقت حبي، فكأنه هو الذي تشرف بحبها، والقرب منها، إمعاناً في مودتها، والشوق إليها، ثم بدأ في تعداد فضائلها في رسائل نبوية لنساء العالمين كيما يتخذنها قدوة في حسن تبعل المرأة لزوجها حين قال:"ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء"ما أعظمها من امرأة، قدمت ما بوسعها لإرضاء زوجها، وما أوفاه من رجل حفظ إحسانها فكان يكثر الثناء عليها والاستغفار لها حتى بعد مماتها. إن هذا يدعوك أن تتأمل القصة الماضية مع قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"ما أجمل المودة والرحمة التي تزكي الصلة بين الجنسين، وتدفع خطاهما، وتحرك نفسيهما بما أودعت من المشاعر والعواطف، ليكونا أكثر قرباً وانسجاماً وائتلافاً، المودة الصادقة سكن للنفس، وراحة للبال، واستقرار للحياة والمعاش، واطمئنان للرجل والمرأة على السواء، تلك المودة لا تشرق من ناحية الجمال فقط مع تأثيرها. ولكن ثمة اتجاهات أخرى تشع نوراً بهيجاً، وتفوح أريجاً، ها هي خديجة -رضي الله عنها- قد تقدم بها العمر فجاوزت الستين عاماً، والنبي يرفل في سني الشباب والرجولة، لقد زحفت على زوجه آثار الكبر، واستولت على بريق جمالها وحسن صورتها، ولا يزال رباط المحبة قوياً موثقاً، لم يتصدع كيانه، أويتزعزع بنيانه، ذلك أن السعادة والهناء والرضى لا تقاس بمقدار جمال الصورة وحداثة السن فحسب، فهي سرعان ما تذبل وتضمحل، ولكنها تكمن في الإيمان، والعقل، وحسن التبعل، والخلق القويم الذي يسمو بالإنسان إلى أحسن تقويم. فهل ستفقه النساء ما وجهه إليهن رسول الله من صفات خديجة التي رزق حبها، وهل سيكون الرجل وفياً لتلك المرأة التي تتحلى بصفات فضليات النساء في حياتها بل وبعد مماتها. * داعية وأكاديمية سعودية. Nwal_al3eeed @ hotmail.com