{ تمضي الدعاوى التي نظرت في المحاكم السعودية، وتعامل الجهات القضائية معها، تسير في اتجاهاتها المتناقضة مثل كل الحياة، فما ان تعتقد أن قضية تحتل المرتبة الأولى في بابها غرابة أو ظرفاً، حتى تفجئك أخرى تقصيها، وتقيم مكانها. فهاهو قاض جليل يصدر حكماً بإطلاق سراح موظف بنك، اتهم وزميله بسرقة أكثر من مليون ريال، على رغم أن كلا الموظفين يملك مفتاح"الخزانة"! لكن"التمييز"التي أثبتت تدخلاتها في أحكام"المدونة القضائية"أنها ضرورية، أنقذت الموظف من تحمل سداد مبلغ كبير وحده، فأقنعت الشيخ بمراجعة حكمه، ومطالبة الموظفين بسداد المبلغ مناصفة. ويتلو ذلك أطرف حكم في عدد اليوم، إذ يدعي مواطن على آخرين أنهم سرقوا"بلحاً/ تمراً"من نخلته، فيذهب إلى القضاء طالباً مجازاتهم. لكن المدعي الذي فشل في إثبات دعواه، وقع في فخ القضاء إذ أصدر القاضي حكماً بتعزيره، لولا أن هيئة القضاء، تتدخل مجدداً وتكتفي برد دعواه! أما أعجب حكم، فكان الذي استمر النظر فيه أكثر من عامين، بسبب الاستشكالات التي أثارها القاضي مرة بعد أخرى، الأمر الذي دفع الهيئة القضائية إلى وضع حد للمسلسل بتوبيخ شديد اللهجة وقعه ابن جبير قائلاً:"انظر في القضية وإذا لم تجد نفسك أهلاً فاعتذر عنها وأحلها إلى غيرك"! لكن القاضي وقع في مأزق، فهو بصدد نظر قضية أصلها"كسر فخذ"، إلا أن المكسور مات بعد الكسر بأيام جراء"السرطان"، فهل يحكم بدية كاملة أم بما يعادل كسر فخذ؟ وحظه العاثر جعل الجهات المعنية في الفترة نفسها ترفع الدية من ستة عشر ألف ريال إلى مبلغ أعلى، فهل يقدر بالدية القديمة أم الجديدة؟ وفي ما يأتي التفاصيل. اطلع مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة على الأوراق المتعلقة بالسجين..... والمعادة رفق كتاب فضيلة رئيس المحكمة الكبرى بخميس مشيط رقم 890/4 في 24/1/1417ه وسبق للمجلس أن درس صك الحكم الصادر فيها برقم 198/4 في 16/7/1417ه من فضيلة القاضي بمحكمة خميس مشيط الشيخ عبدالواحد القحطاني، فوجده يتضمن دعوى وكيل رئيس مجلس إدارة البنك..... ضد..... و..... قائلاً إن المذكورين كانا يعملان في البنك قسم الحوالات السريعة، وقاما باختلاس مبلغ وقدره مليون وسبعمئة وخمسة وستون ألفاً وتسعمئة ريال من صندوق البنك الذي مفاتيحه معهما وطلب الحكم عليهما بإعادة ما اختلساه. وقد أجاب..... بأن ما ذكره المدعي وكالة في دعواه صحيح من حيث عملي في البنك كما صادق بأن المبلغ المذكور بدعوى المدعي وكالة كان في خزانة البنك ومفاتيحها أحدهما معه والآخر مع..... وقال عندما يرسل مبلغاً لمؤسسة النقد أسلم المفتاح الذي معي بصفته مدير الفرع والمفتاح الذي معي ومعه لا تفتح الخزانة إلا بهما جميعاً، فإذا كان هو الذي سحب من الخزانة فأنا لا أعلم عنه شيئاً ولم أختلس شيئاً وأجاب المدعى عليه..... بمصادقته على وجود المبلغ في صندوق البنك الذي يفتح بمفتاحين أحدهما معه والآخر مع زميله..... وقال عندما أخذت إجازة سلمت المفتاح الآخر لزميلي، وعندما أخبرت بوجود نقص في الخزانة سافرت إلى مصر خوفاً من تشويه سمعتي ولم أختلس شيئاً من المبلغ المدعى به. وبسؤال..... هل استلم مفتاح الخزانة من زميله أثناء مغادرته عمله أجاب بأنه لا صحة لما ذكر وبطلب البينة من.... التي تثبت تسليمه مفتاح الخزانة لزميله قال ليس لدي بينة فعرض عليه يمين.... فامتنع من قبول يمينه مع استعداد.... بأداء اليمين. واطلع القاضي على إقرار.... بالملف جاء فيه أنه مكن زميله من رقمه السري الخاص به والمفروض أنه لا يعرفه حسب تعليمات البنك وزميله مكنه من رقمه السري الخاص به، وبتاريخ 23/10/1416ه ترك له الرقم السري الخاص به مفتوحاً ليتمكن من سحب المبلغ الذي سيوصله للمؤسسة، وأنه يقر بتصرفه بفتح الخزانة لوحده وإن ما حدث من اختلاس هو نتيجة إهمال منه ومن زميله، وهما المسؤولان عن ذلك ومصدق من قاضي المحكمة المستعجلة. وبعرضه على.... صادق عليه وقال صدر مني بالإكراه ولا بينة له على ذلك، كما اطلع القاضي على إقرار.... بتمكين زميله بترك رقمه السري مفتوحاً ليتمكن من فتح الخزانة بإرسال الكاش إلى مؤسسة النقد، وكذلك أقوم أنا بفتح الخزانة أثناء غيابه، لأنه ترك رقمه السري مفتوحاً والتعليمات لا تسمح بذلك، وأن ما حدث من اختلاس نتيجة إهمال ويتحمل مسؤولية إهماله ومصدق من قاضي المحكمة المستعجلة، وبعرضه على.... اعترف به، إلا أنه مكره عليه ولا بينة له على ذلك. وبناء على الدعوى وإنكار المدعى عليهما اختلاس المبلغ المدعى به من صندوق البنك الذي بعهدتهما ولأنه جاء في إقرارهما المصدقين شرعاً بأن ما حصل من اختلاس للمبلغ كان بسبب إهمالهما ولوجود قرائن تدل على إدانتهما لا سيما سفر... خارج المملكة في المدة من تاريخ 24-10 إلى 27-10-1416ه، وهي المدة التي اكتشف فيها اختلاس المبلغ ولقوله صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه فقد ألزم القاضي المدعى عليهما بدفع المبلغ المدعى به مناصفة وبهذا حكم وبرفعه لمحكمة التمييز لوحظ عليه بأن... كتب بخط يده اعترافه باختلاس المبلغ وعلى القاضي التقصي وسماع البيانات. فرصد القاضي الاعتراف، وهو يتضمن إقرار... أنه أخذ المبلغ وسافر به، وقال في آخره أرجو أن يكون هذا الاعتراف مقنعاً ومرضياً لكم لأسلم من تهديدكم وتعذيبكم لأنني تعذبت بما فيه الكفاية وأريد السجن في أسرع وقت.ا.ه وعرض القاضي الاعتراف عليه فقال اعترفت بعد التهديد والتعذيب والظلم ولا بينة له على ذلك، كما اطلع على المحضر المثبت لفتح الخزنة ووجود النقص وحضر للقاضي شاهدان شهدا بموجبه لذا ثبت لدى القاضي باعتراف... والذي ادعى التعذيب عليه ولم يثبت ذلك كما ثبت لديه بشهادة الشاهدين ممن حضرا فتح الخزنة بأن المبلغ الناقص بعد مطابقته على سجلات المدعى عليهما هو المبلغ المدعى به لذا ألزم المدعى عليه... بدفع المبلغ المذكور لصندوق البنك وعدل عن حكمه على... بمشاركته للمدعى عليه وحكم بإخلاء سبيله. وبرفعه لمحكمة التمييز صدق بالأكثرية برقم 44-4-1 في 16-1-1419ه فتشكي المحكمة عليه فجرى إحالة المعاملة للمجلس فأصدر قراره رقم 429/3 في 9-8-1420ه المتضمن انه لوحظ ما يلي : أولاً: المدعى عليهما معترفان في الصك أن المبلغ كان في خزنة البنك ومفتاحهما لديهما وحدهما، ثانياً: الاعتراف به ليسلم من التهديد والتعذيب وأنه تعذب ما فيه الكفاية ومثل هذا الاعتراف إذا ثبت الإكراه لا يبنى عليه حكم، ثالثاً: اعترف المدعى عليهما أن المتعين انه لا يتم فتح الخزانة إلا بمفتاحين معهما وبحضورهما معاً واعترفا بأنهما فرطا في ذلك فيكون كل واحد منهما مخالفاً بفتحه الخزانة وحده ولذا فإن كل واحد منهما يتعلق به حق البنك لأن كل واحد منهما يصح أن يقال عنه إنه سلط الآخر على الصندوق فيتحملان مجتمعين ومستقلين ما نقص من مال. لذا فإن مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة يقرر إعادة المعاملة لفضيلة القاضي لمراجعة حكمه وتأمل ما ذكر وتقرير ما يلزم شرعاً على ضوء ما ذكر وباطلاع فضيلته ألحق في الصك انه تأمل فيها أجراه وأنه لوجاهة ما جاء بقرار المجلس ولأن اعتراف المدعى عليه... بأخذ المبلغ والسفر به وصرفه خلال يومين حجة قاصرة على نفسه لا تنفي التهمة عن المدعى عليه... وتواطئه معه في هذه الجريمة ولما جاء بإفادة المدعى عليه.... بأنه لم يعترف إلا بعد التهديد والتعذيب وليس لديه بينة على ذلك. لذا قرر العدول عن حكمه بإخلاء سبيل المدعى عليه... والرجوع إلى حكمه السابق بإلزام المدعى عليهما بدفع كامل المبلغ المدعى به وقدره مليون وسبعمئة وأربعة وستون ألفاً مناصفة بينهما للبنك وبهذا حكم فلم يقنع المدعى عليهما وأعاد المعاملة للمجلس فأصدر قراره رقم 111/33 في 9-2-1421ه المتضمن انه يتأمل ما تقدم وما ألحقه القاضي أخيراً بإلزام المدعى عليهما بدفع المبلغ مناصفة، ونظراً لأن البنك جعل المسؤولية عليهما وأعطى كل واحد منهما مفتاحاً لا تفتح الخزنة إلا بهما جميعاً وما حصل بعملهما جميعاً والمناصفة بالمسؤولية، كما قرره القاضي تجعل كل واحد منهما مستقلاً والأمر خلاف ذلك. وقرر المجلس إعادة المعاملة لفضيلة ناظر القضية لملاحظة ما ذكر لأنهما بمنزلة المتضامنين لا يبرأ أحدهما إلا بتسليم كامل المبلغ منهما معاً أو من أحدهما وباطلاع فضيلته ألحق في الصك رجوعه عن حكمه السابق وألزم المدعى عليهما بدفع المبلغ المذكور للبنك متضامنين لا يبرأ أحدهما إلا بتسليم كامل المبلغ معاً أو من أحدهما والحق ما ذكر بضبط الصك وسجله وإعادة المعاملة للمجلس حسبما مر في أول هذا القرار ويتأمل ما تقدم وما ألحقه القاضي أخيراً فإن مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة يقرر أنه لم يظهر له ما يعترض به على رجوعه عن حكمه السابق كما يقرر الموافقة على حكمه الاخير، والله الموفق. مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة، برئاسة الشيخ صالح اللحيدان.