لا تزال الأحكام الشرعية التي نطق بها القضاة في جلسات حكمهم في مناطق المملكة، محور رصد هذه الصفحة، إذ لا تزال المدونتان اللتان أصدرتهما وزارة العدل السعودية هذا العام والذي قبله، تحفلان بأحكام مهمة وظريفة، ومثيرة أحياناً، سواء في دعاوى الخصوم، أم حيثيات الحكم، أم تدخل أصحاب الكلمة الأخيرة من الهيئة القضائية. وفي هذه الحلقة، تطرح"الحياة"بين أيديكم أربعة أحكام، بعضها إلى أحاديث الخيال أقرب، لكنها حدثت بالفعل كما وثقت المدونة القضائية، فها هو مواطن سعودي يماطل مصرياً يطلبه بدين، وبدلاً من أن يعتذر عن التأخير سدد إلى مؤخرته ضربة، دفعته إلى البحث عن تعويض، قد يكون أكثر من الدين الأصلي. ثم تأتي الهيئة القضائية في وزارة العدل أيام عهد الراحل محمد بن جبير - يرحمه الله - لتشرع لأحد القضاة خروجه عن المشهور من المذهب الحنبلي، وتجيز له استخلاف قاض آخر في توثيق شهادة أحد أطراف الدعوى. وفي القضية الثالثة، وعلى طريقة الجزاء من جنس العمل، انتقم قاض نبيل لامرأة مظلومة من زوجها الذي لم يكتف بضربها، ولكن قذفها أيضاً في شرفها، فجاء الحكم غرامة مالية وحكماً بالجلد، إلا أن المثير في هذا الحكم بقاء المرأة في عصمة الزوج الضارب القاذف، فلا هي طلبت الطلاق ولا الزوج بادرها به، ولا القاضي أشار إلى أن من حقها ذلك! أما أطرف حكم في حلقتنا هذه فكان من نصيب السيدة التي لفتت نظرها حركة غريبة في بيت جارتها، فأبلغت عنها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الأخيرة لم تسرع في دهم المنزل فلم تجد شيئاً مشبوهاً، فبقيت السيدة المبلغة في شبهة قذف جارتها، فأصرّ القاضي على جلدها وحبسها، لولا أن خطاباً ملكياً تم توجيهه إلى هيئة القضاء أنقذها بتأمل حيثيات الحكم التي أذهلت مبرراته لجنة القضاء. وفي ما يأتي التفاصيل. في يوم السبت 22-4-1427ه لدي أنا عبدالله بن عبدالرحمن الدويش القاضي بالمحكمة الجزئية بالرياض افتتحت الجلسة وحضر فيها..... مصري الجنسية بموجب رخصة الإقامة رقم..... وادعى على الحاضر معه في مجلس الحكم..... سعودي الجنسية بموجب السجل المدني رقم..... قائلاً في دعواه: لقد راجعت المدعى عليه في مكتبه في شركة..... لوجود مبلغ لي في ذمته وطلبت منه تسليمي المبلغ، فقام بالاعتداء عليّ وضربني بيده على رقبتي وعلى صدري وقد نتج عنه ألم في أسفل الرقبة مع عدم القدرة على الحركة وتسبب في رض على النسيج وتشنج عضلي في الرقبة، وقد حصل هذا في 4-11-1426ه وقد تم تقدير الإصابات المذكورة من قبل مقدري الشجاج في المحكمة العامة بمبلغ ثلاثة آلاف ريال أطلب الحكم على المدعى عليه بتسليمي المبلغ المذكور. وبعرضه على المدعى عليه أجاب قائلاً: لقد حضر إلى هذا الحاضر، وأشار إلى المدعي في مكتبي في شركة..... في 4-11-1426ه وطلب مني تسليمه المبلغ وحصل بيني وبينه مشادة كلامية فقمت بإمساك يده ولويتها من الخلف وأخرجته من المكتب وقمت برفسه، وهذا ما حصل ولا صحة بأني تسببت في إصابته بالإصابات المذكورة. فجرى سؤال المدعي الإثبات على تسبب المدعى عليه بالإصابات التي ذكرها أجاب قائلاً: بينتي ما جاء في أوراق المعاملة، وقد جرى الرجوع لأوراق المعاملة فوجدت إجابة للمدعى عليه من قيامه إخراج المدعي من المكتب بعد مسكه بيده، كما وجدت تقريراً طبياً صادراً من مجمع الرياض الطبي مؤرخاً في 5-11-1426ه قد جاء فيه: بناءً على الخطاب الوارد من شرطة السليمانية في 4-11-1426ه وبالكشف على المدعو..... وكان يشكو من ألم في الرقبة مع عدم القدرة على الحركة، وقد اتضح منه وجود رض على النسيج الرخوة وتشنج عضلي وتورم خفيف، كما وجدت محضراً صادراً من مقدري الشجاج بالمحكمة العامة رقم 58/1 في 7-2-1427ه، وقد جاء فيه: بالاطلاع على المعاملة الخاصة للمدعو..... ولمراجعة التقرير الطبي ومشاهدة المصاب تبين أنه أصيب بألم في أسفل الرقبة مع عدم القدرة على الحركة نتيجة تورم بسيط وأصيب بمرض على النسيج الرخوة وتشنج عضلي في الرقبة قررنا من جميع ما فيه ثلاثة آلاف ريال حكومة. والله الموفق وهو مذيل بأسماء وتواقيع لجنة الحكومات. وبعرضه على الطرفين قرر المدعي قناعته به، أما المدعى عليه فأجاب قائلاً: لا صحة لما جاء في التقرير الطبي. فبناءً على ما تقدم من الدعوى والإجابة، وحيث إن المدعى عليه يدان بما جاء في دعوى المدعي للأدلة التالية: أولاً: في اعتراف المدعى عليه بحضور المدعي في مكتبه في التاريخ المنوة عنه في الدعوى. ثانياً: إقراره بقيامه بمسك يد المدعي ليثنيها من الخلف ودفعه للمدعي. ثالثاً: تزامن تاريخ حضور المدعي للمدعى عليه في مكتبه وتاريخ التقرير الطبي، وبموجبه فقد حكمت على المدعى عليه تسليم المدعي ثلاثة آلاف ريال بناءً على ما جاء في محضر مقدري الشجاج، وبعرضه على المدعي قرر القناعة، أما المدعى عليه فقرر عدم القناعة وطلب رفعه لمحكمة التمييز دون لائحة اعتراضية فأجيب لطلبه وعليه جرى التوقيع وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الحمد لله وحده وبعد فقد عادت المعاملة من محكمة التمييز وبرفقها قرار الدائرة الجزائية الرابعة رقم 298/ج4/ب في 5-6-1427ه والذي جاء فيه: وبدراسة القرار وصورة ضبطه وأوراق المعاملة لوحظ بأن فضيلته حكم على المدعى عليه بدفع المبلغ المذكور للمدعي رغم إنكاره أنه تسبب في إصابة المدعي، وما قدمه المدعي من أدلة غير كافية في إدانة المدعى عليه والحكم عليه بالمبلغ، ومعلوم لدى فضيلته أن الأصل البراءة فعلى فضيلته ملاحظة ما ذكر وإعادة النظر وإمعانه وتقرير ما يظهر له أخيراً وإلحاق ما يجد في الضبط وصورته وفي القرار وسجله ثم إعادة المعاملة لإكمال لازمها. وبالله التوفيق. ونقول وبالله التوفيق إن القرائن تدين المدعى عليه في إدانته بما نسب إليه في الدعوى، وقد اعترف بحدوث المشادة بينه وبين المدعي وقيامه بإخراج المدعي من مكتبه ومسك يده ولويها من الخلف، وما جاء في التقرير الطبي المتزامن تاريخ صدوره مع تاريخ حصول المشادة بينهما، وجميعها أدلة قوية تدين المدعى عليه، وقد ذكر أهل العلم بأن البينة ليست محصورة باعتراف أو شهود. بل ذكر ابن القيم ? رحمه الله - بأنها كل ما يبين الحق ويوضحه، وقد ذكر الله سبحانه عدة وقائع في القرآن جميعها م ? وعدم تمزيقه بعدم صحة دعوى أبنائه بأكل الذئب له، وكذا ما دار بين امرأة العزيز وزوجها تجاه ادعائها بأن يوسف ? عليه السلام ? كان يراودها، فاستدل بتمزق ثوب يوسف من الخلف على صدق دعواه من أن المرأة كانت تراوده، حسبما ذكر الله سبحانه عنهم بقوله إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف 26-27-28 ولو ترك هذا الجانب لضاعت حقوق كثيرة وغالب الجنايات تقع دون حضور شهود ويستدل بالأدلة والقرائن الجنائية التي توجد في مكان الحادثة ويدان الجاني بموجبها وتعتبر من البينات الدالة على الإدانة، ولو تركت لضاعت الحقوق وانتشرت الجرائم وتقوض الأمن وانتهكت المحارم والأعراض، وعليه فإنه لم يظهر لي خلاف ما أجريته وأمرت بإلحاقه إلى قرار الحكم ورفعه لمحكمة التمييز، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الحمد لله وحده وبعد، فقد عادت المعاملة من محكمة التمييز وبرفقها قرار الدائرة الجزائية الرابعة رقم 492/ج4/ب في 14-9-1427ه، وقد جاء فيه: وبدراسة المعاملة وبالاطلاع على ما أجاب به فضيلة القاضي وألحقه بذيل القرار وصورة ضبطه بناءً على قرارنا رقم 298/ج4/ب وتاريخ 5-6-1427ه وجد أن فضيلته لم يحلف المدعي مع القرائن التي أشار إليها فضيلته على أن المدعى عليه هو المتسبب بما حصل، فعلى فضيلته ملاحظة ما ذكر وإجراء ما يلزم نحوه ثم إعادة المعاملة لإكمال لازمها، والله الموفق. وحيث الحال ما ذكر فقد أمرت برفع الجلسة إلى مراجعة المدعي لاستيفاء ما ذكر حيال ما أشير إليه، وعليه جرى التوقيع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الحمد لله وحده وبعد... ففي يوم السبت الموافق 13-10-1427ه افتتحت الجلسة بحضور المدعي.... وجرى عرض اليمين على وفق دعواه فقرر استعداده بأدائه لها وبطلبها منه حلف قائلاً: والله لقد اعتدى عليَّ.... بالضرب وتسبب بإصابتي على النسيج وأصبت بتشنج عضلي بالرقبة وتورم بأسفل الرقبة من جراء الضرب، عقب ذلك أمرت بإلحاقه لقرار الحكم ورفعه لمحكمة التمييز، وعليه جرى التوقيع وصلى الله وسلم على نبينا محمد. صدق الحكم من محكمة التمييز بالقرار رقم 736/ج4/أ في 22-10-1427ه.F