عندما تتأمل وجوههم، تلمح تقاسيم تضرب في أعماق الزمن، تحاكي تشعب جذور النخيل، إنهم المزارعون، الفئة التي تكاد تضمحل مع توغلنا في إيقاع الحياة المعاصر... بالأمس كانت الزراعة مهنة الكثيرين، يتوارثونها من الأجداد إلى الآباء فالأبناء، ففيها تختزل حياتهم وطموحاتهم، أما اليوم فلم يعد لهذه المهنة الحيوية وجود فعلي في وجدان المجتمع، وهي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وحثنا الرسول الأمين"عليه الصلاة والسلام"عليها، لأنها تُعد قوام الحياة لكل عصر وسمة للحضارات السائدة والبائدة عبر التاريخ كله، بل إنها أصبحت شبه محتكرة على العمالة المستقدمة الموقتة التي تمتهنها على نحو محدود من دون إدراك لفلسفتها وما ينطوي عليها من أبعاد وقيم وجدانية تزكي في الإنسان شعور الارتباط بالأرض، وبمظاهر الطبيعية، وهو ما يعمق الإيمان بخالقها الله عز وجل، وأخرى وطنية وحضارية توفر له الاكتفاء والسيادة والرخاء. فالزراعة كانت ولا تزال المحور الذي تقوم عليه حياة الإنسان، ليس على مستوى القوت فحسب، بل حتى على مستوى الانتماء إلى الأرض، فهي معيار مهم للانتماء لها والارتباط بها، كما أنها الخصب والنماء، وكانت أيضا معياراً للاستقرار والتخطيط السليم وقيام الحضارات، فالدول التي استطاعت أن ترسي لها قاعدة زراعية مستقرة ووفيرة تمكنت من بناء الحضارات، لذلك كانت الكوارث الطبيعية - كالفيضانات وانهيار السدود كسيل العرم ? لا تعني فقدان القوت فحسب، بل تعني انهيار أمة بأكملها، وهكذا مثلت الزراعة نبض الحياة، حياة الإنسان وحياة الأمم. وإذا أسقطنا شيئاً من ذلك على واقعنا المعاصر، فسنكتشف أن هذا ما دفع الكيان الإسرائيلي للاهتمام بالزراعة وتطويرها على أحدث الطرق والوسائل، على رغم قلة المساحة المتوافرة لديهم، وقلة موارد المياه بالمقارنة مع بقية دول المنطقة، فاهتموا بالتعليم الزراعي جنباً إلى جنب مع فروع التعليم الأخرى، واحترموا مهنة المزارع وفعلوها، فضلاً عن إنشائهم مراكز أبحاث مختصة بالزراعة، وكل ذلك ليس لأنها توفر لهم القوت فحسب، بل لأنها تعني تعميق انتمائهم للأرض التي يقيمون عليها لإثبات حقوقهم المزعومة فيها. أما بالنسبة لنا، فنجد أن الواقع يختلف تماماً، فعلى رغم الاهتمام الحكومي بالزراعة إلا أن هذا الاهتمام لم يأخذ الحيز المفترض من اهتمامات المجتمع، خصوصاً الشباب الذين ركزوا على العمل في الوظائف والمشاريع الصغيرة في مجالات محدودة متكررة، ما قلل من فرص استفادتهم منها وزاد من نسبة البطالة، وعطل الكثير من الفرص الإنتاجية التي توفرها خصوبة الأراضي وقابليتها للزراعة. ولم تعد الزراعة مهنة يورثها الآباء لأبنائهم، الذين تتوارد في أذهانهم طموحات للكثير من المهن المستقبلية ليست الزراعة بين تلك الطموحات ولست أدري لمن يتركونها؟ وربما يعود ذلك لأن المجتمع والتعليم لا يلقنان النشء الفهم الحقيقي للنماء والاستثمار بكل أوجهه، لا سيما الزراعة كمصدر أساس للتموين ينبغي للجميع الإسهام في تحقيق الاكتفاء منه، ولا تغني عنه تجارة العقار ولا التكنولوجيا ولا المهن النظرية التي أثقلت كاهل المجتمع بالبطالة ولم تدفع به نحو إنجازات حقيقية، فالملاحظ أن توجهاتنا التعليمية والمهنية أصبحت تبتعد شيئاً فشيئاً عن حاجات الإنسان الاستراتيجية لتلبي الكمالي منها والثانوي، فتسقي الفروع وتُظمئ الجذور. وإذا نظرنا لواقع المزارعين اليوم ففيه ما ينبئ باندثار هذه المهنة، فمعظمهم من العمالة الوافدة، التي تنظر للزراعة نظرة مادية فحسب، لا تدرك أهميتها ولا أبعادها، أما المزارعون من المواطنين فإنهم لم يتلقوا التأهيل الزراعي الكافي، ويمارسها من يمارسها منهم بطرق بسيطة لا تتوافق مع التطور التكنولوجي الذي نعيشه الآن، والذي يوفر من الآليات ما يتحكم بدقة متناهية في مستوى الري وحجم الثمار ونوعيتها، ما مكّن المستفيدين منها في الدول المتقدمة من تحقيق الرواج لمنتجاتهم، وبالتالي تحكمهم في الاقتصاد العالمي، إضافة إلى أن كثيراً من المزارعين وجهوا أبناءهم لمهن أخرى علهم يندمجون في المجتمع بدل التهميش الذي يلقاه المزارع! وإذا نظرنا لأهمية الاستثمار الزراعي فنجد فيه معالجة للكثير من المشكلات التي نعانيها في واقعنا، لعل أهمها الغلاء الذي استفحل حديثاً، لأن وفرة المحاصيل الزراعية - التي تُعد الأساس في التموين - ستحول دون ازدياد الأسعار بالشكل المبالغ فيه الذي نراه اليوم، إضافة إلى علاجها مشكلة البطالة، إذ ستوفر للشباب فرص عمل منتجة بدل الوظائف التي يتسابقون إليها، ويختبئ كثير منها تحت ستار البطالة المقنعة، ويكون ذلك عبر تعزيز دور ومكانة المزارع وتشجيعه بما يمكن دخول الشباب في هذا المجال كخيار مهني لا تقل امتيازاته عن كثير من المهن الأخرى المطروحة أمامهم، وإسهاماتها في التخفيف من ازدحام المدن الأساسية والتكالب عليها أملاً في الوظائف، إذ سيتوزع السكان في مناطق أخرى، ما يعني عمارة المزيد من الأراضي القاحلة بدلاً من تركها للعدم. وأيضاً دورها الوطني هو أهم ما ينبغي الالتفات إليه وتفعيله في المجتمع والنشء تحديداً، ولعل الأزمات الغذائية والغلاء يُعدان فرصة ملائمة كونها فترة انتقاليةپتهيئ المجتمع لتبديل القناعات التي أسهمت في تهميش الزراعة من دائرة الاستثمار، خصوصاً للشباب عبر مشاريع صغيرة تناسب إمكاناتهم. ومن المؤكد أن من أهم ما يميز الزراعة عن غيرها من الاستثمارات، أنها لا تأخذ بُعداً مادياً بحتاً، لأنها تعتمد بالدرجة الأولى على البركة والعمل وليس حجم الربح، وتأصيلها في فكر النشء معزز أساسي للوطنية والانتماء لبلادهم، لما تحويه من معانٍ عميقة من حيث إحياء الأرض وإطعام الإنسان والحيوان وامتلاك القوة والسيادة. [email protected]پپپپپ