صورة شاب ينظر بألم إلى الهزيمة وهو يعض على العلم بحسرة، لم يستطع إخفاء دموع الرجال التي لا تسكبها إلا الحوادث العظام والكوارث الجسام، فالحدث الجلل الذي دهم صاحبنا كان خسارة الفريق الذي يشجعه، وكانت هذه إحدى الصور التي التقطت في المناسبة الكروية الماضية. كرة القدم لعبة جميلة وصحية، ولكن أن تتحول من"لعبة"إلى"قضية قومية"لمعظم الشباب وتصبح مقياساً للحضارة والانتماء الوطني عندهم، وتتحول الخسارة والهزيمة فيها إلى مسألة حياة أو موت فهذا ما يدق ناقوس الخطر... والأمر لا يقتصر على الرياضة فحسب بل ينسحب على كل ما هو حدث عادى يحل محل قضية قومية، مثل قضية التنمية ومستقبل الوطن التي يفترض بها أن تحرك الجماهير باعتبارها قضية حضارة، وليست تلك التي تدفع الشباب للبكاء والعويل حزناً أو للتفحيط جذلاً، وتكون جل هدفهم وسر حياتهم، كالتعصب لبرامج الواقع، وقنوات الدجل والشعوذة والتعصب المذهبي والإقليمي والفكر الإرهابي. كل هذه الأمور ما هي إلا بدائل استعان بها شباب اليوم ? بوعي أو من دون وعي ? للهروب من واقعهم الذي ينتظر منهم صناعة الحضارة، إلا أن ما قاموا به هو الإسهام في صناعة واقع ممسوخ لا يمت للرقي بصلة بل يجر إلى الهاوية! أين القضية الحقيقية في فكر الشباب اليوم، هل ضاعت بين القنوات الفضائية، والأندية الرياضية والفتاوى التكفيرية؟ لماذا لا يفكر هؤلاء الجالسون على كراسي التشجيع في الملاعب في حل مشكلة البطالة عبر زراعة الأراضي، وما أكثرها في وطننا، وتطوير هذا المجال وضمان لقمة عزيزة لهم ولأبنائهم وأحفادهم، أما تستحق أزمة البطالة أن يُبكى عليها أكثر من خسارة هذه المباراة أو تلك؟ لماذا لم يفكروا في اجتثاث الفكر التكفيري، عبر التوعية بأهمية الإنسان ودوره في صناعة الحضارة، ونترك المضللين يكثرون يوماً بعد الآخر؟ لماذا لم يبكوا عندما رأوا الرسوم المنتهكة لشخصية قدوتنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعاهدوا أنفسهم بعد ذلك أن يتبعوا سنته وهديه ويفعِّلوا شخصيته وسيرتها في سلوكهم وحياتهم؟ أعتقد أن السبب في ذلك أنهم يدركون معنى إنسانيتهم، ولم يدركوا ذواتهم ككيان بشري مقدس، يأخذ هذه القداسة من النفخة الإلهية المقدسة التي كونت أرواحهم، هذه القداسة تتناقض والعبثية ولا تلتقي معها بحال، وتستلزم هدفاً سامياً من وراء الوجود البشري، ودوراً مقدساً يقوم به الإنسان، يشتق من هذه النفخة المقدسة، وهو أن الإنسان خليفة الله على هذا الكوكب الأرض، التي خلقها الله سبحانه لتكون ميدان هذه الحضارة التي سيبنيها الإنسان بإنجازاته على مختلف الأصعدة التي تعزز الحياة وتنميها. ولأنهم اعتقدوا أنهم خلقوا للاشيء، أو في أحسن الأحوال لمفهوم قاصر للدين، متمثلاً فقط في العبادات التكليفية التي يتصنعها بعضهم من دون فهم لمضامينها. ولأنهم تعلموا أن يكونوا في المقاعد الخلفية في كل شيء، وتملى عليهم أدق تفاصيل حياتهم، من دون أن تتم في أذهانهم أي عملية تقويم لهذه الإملاءات، ومن دون إخضاعهم لأي معيار أو مقياس، لأن هذه العملية ? وكما أملي عليهم أكبر من أن تستطيع عقولهم إدراكها، فأصبحت حياتهم تسير في قوالب لا يستطيعون الفكاك منها، لأنها تأصلت في التكوين الفكري لعقولهم. وجد هذا الإنسان نفسه محصوراً في قالب يفرض عليه التعلم لنيل الشهادة، لأنها هي ما ستؤمن له الوظيفة، وبالتالي سد رمقه والتباهي بمظهره، فضاعت قيمة العلم والإنجاز فنشأت البطالة. وجد عقله خاضعاً لتصور معين للدين، يلوي أعناق النصوص لتلائم توجهات تدميرية، فنشأ الإرهاب. وجد جسده ملقى أمام فضائيات تزين الانحلال، فانتشرت الجرائم وانحرفت الأخلاق. نشأ في مجتمع يفتنه المظهر، ويجعله معيار التفاضل بين البشر، وليس التقوى، كما أمر الله، فينتشر الفساد، وهكذا قيود، فقيود، فقيود، تقيد الإنسان، فتقيد الحضارة. إن السبيل الوحيد للحضارة هو فك هذه القيود وخلق قضية قومية حقيقية تستهدف الخروج من المآزق والأزمات التي تحيط بإنسان اليوم، تكون هذه القضية هي المعبئ والمحرك لفكر الشباب، والدافع لهم نحو بناء الحضارة، قضية مدروسة بحكمة تعالج الاختلالات في الوضع الحالي للشباب وتقوّمه للوصول إلى الجادة. وبالنظر في أحوال الأمم نجد أن كثيراً منها استفاد من الأزمات ليجعل منها بوابات للنجاح وصنع الحضارة، فالحضارة الأوروبية الحديثة على سبيل المثال لم تنشأ إلا بعد أن كانت هناك أزمة تتلخص في الظلم، أسهم المثقفون آن ذاك بعد أن اطلعوا على كتب المسلمين الفكرية، مثل كتب ابن رشد، على توعية الناس بهذا الظلم ومدى فداحته وخطره، فتمكنت"القضية"من نفوسهم وأصبحت هدفاً قومياً، تحولت هذه القضية بدورها بتوجيه المثقفين أيضاً إلى تغيير وإنجاز، إذ تحرروا من ظلم الكنيسة والحاكم، فعندما اتحد العلم والقضية والإنجاز نتجت الحضارة. والتوجيه نحو هذه القضية القومية، هو صلب دور المثقفين المؤمنين بأهمية بناء الحضارة، الذين هم عصب كل حضارة قامت، ويكون عبر صناعة إنسان منتمٍ لذاته ومجتمعه، مفكر يفكر باستقلالية غير منفصلة عن الثوابت، يستطيع فهم نفسه وإدراك الدور والمسؤولية المكلف بها على هذه الأرض، وفهم واقعه وحاجاته ومشكلاته، ويستطيع أن يدرك ما تعنيه كلمة حضارة وما تحتاجه من إيمان وإنجازه وإيداع وتحدٍ، إنسان له هدف غير المأكل والمشرب والمظهر ويعتز بنفسه وبهويته لا من باب العصبية وإنما من باب الانتماء، فالإنسان لا يصنعه سوى الفكر السوي الناضج، الأمر الذي لا يستطيع سبر أغواره سوى المثقف الذي تنزه عن التوسل بثقافته أغراضاً شخصية مادية كانت أو معنوية كالشهرة والمكانة الاجتماعية. وعلى رغم أن قساوة الواقع تدفع المثقفين للاغتراب الحاصل لهم في مجتمعهم بالانعزال أو التنازل عبر مسايرة المجتمع والتغاضي عن أخطائه، إلا أن الاستسلام لذلك سيعني الحكم بنهاية المجتمع، فمهما بلغت التحديات فيجب أن تواجه بالصمود، ويسعى المثقفون مهما كانت المثبطات نحو تفعيل دورهم وثقافتهم في إنارة شموع الآخرين المطفأة حتى لا يعيش الجميع في الظلام الدامس. [email protected]