ربما يتساءل المرء هنا عن أبرز مظاهر المقاومة التي يمكن أن يبديها الكاتب إزاء هذه السلطة المزدوجة التي اصطلح الكثير على تسميتها بالرقيب الذاتي. لا يبدو القلق والتوتر فقط هما نتاج هذه المقاومة، بل هناك ما يتصل بهما في طور لا حق. هذا الاتصال يفضي إلى سمة ملازمة للكاتب ألا وهي سمة التمرد ضد كل شكل من أشكال السلطة التي تواجهه في الحياة. أليس هذا الشكل من التمرد الذي يتلبسه، أصوله تعود إلى الشرارة الأولى للقلق ذاته؟ صحيح أننا نمتلك مفاصل الأسلوب الذي يحدد شخصيتنا وهويتنا بسبب الخبرة المتراكمة في الكتابة والحياة، إلا أن الأسلوب سلطة في حد ذاته، فنحن لا نستطيع أن نغير أسلوبنا في الكتابة بين ليلة وضحاها، مثلما يصعب علينا أن نغير نمط حياتنا اليومية فجأة ومن دون مقدمات. والغريب في الأمر هو الاتفاق الذي نعقده مع الكتابة وكأننا نبدو متواطئين ضد أنفسنا. هي تتغذى من دمائنا في حين ما نريده منها هو أشهى ما ينتجه النحل من عسل مصفى. انه اتفاق أشبه ما يكون بتلك الدودة التي تتغذى على الجسد كما يقول الروائي ماريو باراغاس يوسا."تتحد به وتنمو وتشتد على حسابه. ومن الصعب جداً طردها من ذلك الجسد الذي تنمو عليه وتستعمره". ثالثاً: في كل ما مر، كنا نتحدث عن جانبين في مسألة هذا الصراع: الجانب الأول يتعلق بكوننا لا نتحدث عن أي كاتب، بل كما قلنا سابقاً الكاتب المبدع الذي تتحول الكتابة عنده إلى ما يعادل حياته في الوجود بكل ما تشتمل عليه هذه الكلمة من معنى، وبكل ما يبتعد بها عن وظيفتها النفعية الإيديولوجية، سواء جاءت كتابته إبداعية فنية أو فكرية فلسفية. أما الجانب الآخر فيتعلق بوصف الاشتباك لحظة الكتابة وهو وصف لم يذهب إلى التفاصيل بالقدر الذي ذهب فيه إلى تبيان مفهوم الصراع بوصفه سلطة مركبة من دون أن يأخذ على عاتقه تبيان دلالته من خلال الأمثلة المعطاة. فيما سيأتي سأحاول التركيز على نقطة تتصل بهذا الجانب لم أثرها في الفقرات السابقة ألا وهي طقوس الكتابة عند الكاتب بوصفها جزءاً لا يتجزأ من تركيبة هذا المفهوم للصراع. وسأدل على ذلك من خلال منظوري الشخصي ككاتب لاعتبارات موضوعية بالدرجة الأولى، وليست لاعتبارات معيارية، وذلك بأدق التفاصيل التي ينبغي أن نعرفها عن الكاتب في مثل هذه المسألة بالخصوص. وكما تعلمون نحن نفتقد تماماً في مشهدنا المحلى هذا النوع من الدراسات والاعترافات التي تهتك حميميتنا وتمزق ستار الصمت حول ما نسميه الطقوس المقدسة حول الخصوصية بمفهومها الشامل. وإذا كان هذا الاستدلال يدخل في باب الشهادة على ما نكتب بما يتوافق والقضية التي نناقشها، فأظن أنني مقتنع تماماً بأن ما هو ذاتي في الحديث مشتبك على الأرجح بما هو موضوعي، وما يمس خصوصيتي يمس بصورة أو بأخرى ثقافة مجتمع بأكملها. المسألة برمتها تتوقف على زاوية النظر التي نريد أن ننطلق منها. وعليه سأبدأ بالقول الآتي: لا أعلم من أين تسللت إلى ذهني فكرة الارتباط العضوي بين تصوري للكتابة من جهة، وبين الملامح العامة للطقوس المصاحبة لها من جهة أخرى؟! ربما بسبب قناعتي الفكرية التي تضع مفهومي الإدراك والتصور موضع الرافعة التي تنهض عليها جميع ممارساتي الكتابية بما فيها العادات والطقوس الملازمة لهذه الممارسة. أو ربما بسبب كوني واحداً من الكتّاب الذين ينظرون إلى الكتابة بوصفها طريقة حياة يصعب على الكاتب إذا ما تلبسته من العمق أن يتخلص من الشعور أو الإحساس بهالتها القدسية التي تشبه قدسية الآلهة إذا ما استعرنا مفهوم الكتابة هذا من الفلسفة المثالية الألمانية، كلما أراد أن يقترب من لحظة الكتابة ذاتها. إنه نوع من التماهي يأخذني إلى مناطق أشبه ما تكون ضبابية، لا أتعرف فيها أين موضع حياتي من موضع الكتابة! أو ربما كان العكس. هذا الشعور يزيد من قلق الكتابة لدي كلما تورطت أكثر في عالمها الواسع، وكلما أدركت تماماً حقيقة أننا ذوات لا نملك خيارات العيش كما ينبغي في الحياة ، وكأننا مساقون إلى أقدارنا سوقاً، وكأن الريح تدفعنا إلى جهة ما في الحياة، قد تكون هاوية بانتظارنا أو نهراً ليست له ذاكرة، أو إلى العدم. فقط الشيء الوحيد الذي نحن متيقنون منه هو أننا جميعاً مساقون إلى الجهة المجهولة ذاتها. هنا في ظني تأتي الكتابة لتفتح لنا خيارات أخرى في الحياة، لتفتح كوة نهرب منها إلى جهة أخرى مجهولة في الحياة، وما بين هذه الجهة وتلك، يتكثف هذا الشعور بالقلق ليتحول عندي إلى إحساس غامض يتحكم عميقاً في تصوري للكتابة في نهاية المطاف. لذلك لم أشعر يوماً ما بمجانية الكتابة أو سهولة جلبها إلى فضاء العقل أو المخيلة، الصعوبة تحديداً تكمن في هذا الشعور القلق لحظة الكتابة، وهو شعور لا يفرز البهجة على كل حال بقدر ما يفرز الترقب والانتظار والتأمل والأفكار المتناقضة. هذا الفرز بمثابة تدريب على استحضار الكتابة، وإذا ما كان مشروطاً بها فهو سيتحول تدريجياً إلى ما يشبه الطقس والعادة لحظة الكتابة. وهذا هو بالتحديد ما يوجه طقوسي الكتابية من العمق. وعليه وبناء على هذا التوجه كنت ولا أزال أمارس الكتابة تحت تأثير هذا الفرز، مقتنعاً تماماً بأن تفضيلي الأماكن المفتوحة للكتابة المأهولة بالبشر كالمقاهي على الأماكن المغلقة والمعزولة هو محاولة للهروب من هكذا شعور يصاحبني عادة لحظة الكتابة، هروب يجد في ضوضاء الناس وصخبهم ما يشبه العزاء من رعب الكتابة ذاتها. لكنها مجرد محاولة لا أدعي كثيراً في ممارستها لأنها حقيقة مشروطة بنوع ما أكتب، فالكتابة المتخيلة غيرها الكتابة الفكرية والفلسفية، هذا من جانب، أما الجانب الآخر فهو وثيق الصلة إلى كوني لا أملك أوقات محددة للكتابة، لا ليلاً أو نهاراً فقط حين تأتي الكتابة عارية كما هي. ربما الحياة اليومية لها قدرة احترافية على سرقة أوقات الكتابة كما يشير إلى ذلك الشاعر إيف بونفوا. لكن ما هو أكيد من جهة أخرى هو حقيقة كون الحياة اليومية ذاتها هي مصدر وقود للكتابة، ومحرك لها، كي لا تسقط في فخ الصمت والنسيان، وكي يقال أيضاً: انك انتشلت نفسك من القاع بخفة فكرة عابرة، ولم يبللك الوحل كثيراً، ولا الناس كذلك. ذات مرة سئل الروائي باولو كويلو عن مقولة وردت في احد كتبه، هي"ان الكاتب شبيه بالمرأة الحامل التي تلد طفلاً، وإنه عاجز عن الكتابة ما لم يمارس الحب مع الحياة". وقد أجاب بأن مقصوده هو أن"أعيش الحياة بكل بساطة، أعيشها بكل ما أوتيت من شغف وجنون ومتعة وعطاء. كلما عشنا حياتنا بقوة، ازدادت فرص أن نجد طريق لغتنا الخاصة". أليس على من يعيش الحياة أن يتعثر بها، كي يشعر بها من العمق، كي يتحسس أنفاسها وهي تطفو على وجهه، وتسكن رئتيه! وليس عليه عتب إذا ما تنبأ دوماً بأن الحياة قصيرة، وأن النهار طويل كما كان يقول غوته. مفارقات الحياة وتناقضاتها هي اللحظة السحرية التي تصنع قوة إرادتنا كي نكتب، ولولاها لكان على الواحد منا أن يدفع عربة رغباته إلى الهاوية، لا لكي يتخلص منها. ولكن حتى يشعر بارتطامها على أرض ذاته، كلما أحس أنه تحول إلى مجرد أيقونة لا تضيء. ربما في نهاية المطاف ينكسر فتسيل الكلمات ممزوجة بالسائل اللزج للرغبات ذاتها، أو ممزوجة بالهواء الذي يتذكر ماضيك وهو مقيد بالكتابة التي تبحث عنها في الطرقات والأمكنة القابعة في مخيلتك وطفولتك. أوليس من المفارقة أيضاً حينما نتخذ قرار الكتابة نكون بذلك تنازلنا عن ملكيتنا لأفكارنا كما يقوله الروائي بيتر هاندكه. وهو تنازل يشرع علاقتك بقارئ ما أنت تجهله. تسميه الخطابات النقدية بالقارئ المثالي، وأنا أسميه الذات المنسية في ذاتي. أبداً نحن نحاول أن نسيطر على ما نريد أن نقوله عن لحظة القول ذاتها، وعلاقتها بمسألة الكتابة. لكن النتيجة دائماً ما تأتي مخيبة للآمال. لأن الكتابة مهما اقتربنا في محاولاتنا، من رصد وتحليل الوعي بمكوناتها وبنائها وتراكيبها نكون فتحنا على أنفسنا شلالاً هادراً من الحكايات الكبرى التي تروي العالم وتسرده، وفي نفس الوقت تلقيه من الوجود. وعلى رغم الجمر الذي تقذفه حمم الكتابة، والألم الذي يصعد منه كبالون، لا بد لنا من العبور، تجرنا الكتابة خلفها، بينما نحن نقاوم كل نزعة تلصقنا بأنفاسها. إرادة الاستقلال ليست هي الدافع فقط للتحرر، إنما بناء الهويات هي الوجه الآخر الذي يجعل من سيرورة الكتابة ركناً أساسياً من بناء ذواتنا في الحياة.