لم تكن الورقة التي طرحها أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور محمد بن سعود البشر كبقية البحوث التي قدمت في الندوة التي نظمتها مجلة البيان، بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية بعنوان"الأسرة المسلمة والتحديات المعاصرة"، إذ كانت التصورات العملية المقترحة لمواجهة تأثير الإعلام العربي في الأسرة والمجتمع صاخبة، وتنادي بالتحرك العملي للحد من أخطار الإعلام المرئي، وعدم الاكتفاء بالتضجر القولي. كما كانت المقولة التي أطلقها البشر"من يقرأ قوانين الإعلام السعودي، يظن أنها كتبت في عهد الخلفاء الراشدين"، دلالة تعبيرية عن حجم الهوة بين التنظير والتطبيق، إذ إنه أمال العدسة على القنوات الفضائية، باعتبارها الوسيلة الإعلامية الأكثر تعرضاً لها من الجمهور على اختلاف مستوياته الاجتماعية وفئاته العُمرية وتفاوت دخله الاقتصادي، والتي تشكل البناء الاجتماعي للأسرة المسلمة. ورأى البشر أن المتماسكين أسرياً مستقرون نفسياً واجتماعياً، ويبعثهم ذلك على النشاط والحيوية كما يقولون، في حين ان الأعمال والبرامج الحياتية تزاحم نسبة الجلوس مع افراد الاسرة، وأضاف"ليس في الوجود دين نظم حياة الناس الأسرية واهتم بحل مشكلاتهم كدين الإسلام الحنيف، إذ في ظله يتلقى المرء مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وينطبع بالطابع الذي يلازمه مدى الحياة". ولفت إلى أن الغرب الذي آمن ب"سوق الأفكار الحرة"هو الذي بادر بنقض هذه الفكرة، واتخذ خطوات إجرائية عملية لحماية المجتمع والجماعات والأفراد من مضامين الإعلام غير الهادف، الذي يُقوّض بنيان المجتمع ويهدد قيمه الثقافية والاجتماعية، وأشار إلى أن نظرية المسؤولية الاجتماعية في الإعلام الغربي جاءت لتعزز مفهوم الحرية الإعلامية، ولكنها حملت معها فكرة الحرية المسؤولة وليست الحرية المطلقة،"ولذلك فإن مبادئ هذه النظرية المتناثرة في كتب المتأخرين حاولت أن تجعل من وظائف وسائل الإعلام المحافظة على قيم المجتمع، وأن تكون ناقلة لهذه القيم من جيل إلى اخر، باعتبار الإعلام أداة تعليمية ووسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعية". وأوضح أن المجتمع السعودي لا يعاني من الفصام بين دستوره ومعتقده، فشريعة الإسلام هي الضابطة لعقيدة الأمة السعودية في كل مجالات حياتها، ومبادئ الإسلام هي الأصول الكلية التي قامت عليها الدولة السعودية، وتطبيق هذه الأصول تمثل في التزام المنهج الصحيح في العقيدة والفقه والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مطالباً بمبادرة عملية وخطوات إجرائية لمواجهة تأثير هذا الإعلام في المجتمع. وتابع"من العقل وفقه الواقع القول ان هذا المنهج الذي التزم به المجتمع السعودي قيادة وشعباً منذ تأسيس الدولة السعودية حتى وقتنا الحاضر يواجه تحديات خارجية كبيرة منذ ظهوره". ونوه إلى أنه كلما تداخلت الثقافات وتقاربت المسافات، وزاد انفتاح المجتمع على غيره من المجتمعات المغايرة له في الدين والمتباينة معه في القيم الثقافية والسلوكيات الاجتماعية عبر منافذ التقنية المتعددة، اشتدت الحاجة إلى الجهود التي تحمي دين الدولة وتحفظ نسيجها الاجتماعي. وشدد على أن من أهم وأعظم التحديات التي يواجهها المنهج، والتي هي من مسؤولية ولاة الأمر في المجتمع هي مضامين الإعلام الفضائي العربي، التي تهدد أمن المجتمع وسلامة بنيانه، خصوصاً تلك المضامين التي تنتهك حرمات الدين، وتهزأ بقيم المجتمع، وتنشر الفساد الأخلاقي والسلوكي بين أفراده، وهذا التحدي للمنهج الذي تأسست عليه الدولة، وتربى عليه المواطن والمقيم في هذه البلاد يحتاج إلى جهود القيادة السياسية لمواجهته، ومسؤوليتها في ذلك ناجزة لا تحتمل التسويف أو التأخير. وتطرق إلى أن على الساسة واجب الأخذ بأسباب تكثير الخير وفتح أبوابه، وتقليل الشر وسدّ منافذه، وأبان أنهم وفقوا في ذلك أيما توفيق - ولله الحمد - في التصدي للفكر المغذي للغلو في الدين، وتضييق الخناق عليه بتتبع مصادره الإعلامية عبر وسائل إعلامه ومواقعه الالكترونية. لافتاً إلى أن"الإرهاب الثقافي والإعلامي المضاد للدين، الداعي إلى الانحلال والفجور الأخلاقي لا يقل خطورة عن ذلك، وكلا الأمرين تطرف يعاني منه المنهج، ومآثره مذمومة على المجتمع". واقترح حلولاً لتقليل الشر الإعلامي وسد منافذه المساءلة الدورية لمالكي القنوات الفضائية والقائمين عليها، وتخشين القول لهم، والتلويح بالتضييق على نشاط مكاتبهم ومراسليهم في السعودية، ووضع الشروط الصارمة على نشاطهم ومعاملاتهم التجارية، واستدعاء المعلنين في هذه القنوات من رجال الأعمال، وتذكيرهم بأن إعلاناتهم في برامج معينة في هذه القنوات هي تشجيع لها على الاستمرار في بث الفساد وتوسيع دائرة انتشاره، إذ المعلن هو المغذي الحقيقي للقناة، والتلويح لهؤلاء المعلنين بتعقّبهم، والتضييق على تجارتهم، وإيقاع العقوبة عليهم باعتبارهم شركاء مؤثرين في الترويج للرذيلة والتسويق لها عبر دعمهم المادي لهذا النوع من البرامج الفضائية التي تنشر الرذيلة وتمكن لها، متوقعاً أن يقطع المدد الاقتصادي على المؤسسات الإعلامية التي تتجاوز ما اصطلح عليه ب"السمت العام للمجتمع" وطالب بتعزيز دور العلماء، إذ"لا تزال للعلماء الشرعيين مكانتهم السامية في المجتمع، فهم أهل الكلمة العليا، وهم المؤثرون في الناس، وهم قادة الإصلاح الديني والاجتماعي الذين يتصدرون للقضايا الكبرى، ويقولون فيها كلمتهم الفصل، ورأى أن هذا من واجب علماء الشريعة ومن مسؤوليتهم التضامنية مع القيادة السياسية ومؤسسات المجتمع، معتبراً الأخيرة اعتراها نوع من التردد في بيان الحكم الشرعي فيها،"وهذا تراجع لا ننتظره من العلماء ولا نأمله منهم". وأضاف:"أياً كانت مسوغات التوقف أو التردد عن الحديث فيه، فإن الظاهرة استشرت، وعمَّ بلاؤها، وظهر خطر أثرها، فلا يجوز السكوت عنها". ..."الدعاة" قادة "غير رسميين" اعتبر البشر الدعاة من قادة الرأي غير الرسمي، وذلك أن"المتتبع لمسيرة التطور الثقافي في المجتمع السعودي يلحظ الأثر الكبير لقادة الرأي غير الرسمي، وهم العلماء والدعاة في تشكيل المواقف الشعبية والتأثير على توجهات فئات المجتمع المختلفة. وأرجع ذلك إلى أن: "المجتمع السعودي مجتمع متدين ومحافظ، والتنشئة الاجتماعية والسياسية لأفراده قامت على أسس من العقيدة والشريعة في كل مجالات الحياة، ولذلك كان للدعاة القبول من الرأي العام باعتبار ما يحظون به من صدقية وثقة، فهم المؤثرون الذين يخرجون من أنساق المجتمع السعودي، المرتبطة جميعها بالعامل الديني المهيمن على ثقافة المواطن". ولفت إلى أن الثقة والقبول الاجتماعي هي سمة أساسية من سمات قادة الرأي ذكرها غير واحد من الباحثين المتخصصين في دراسات الإعلام والرأي العام وعبر عنها وايمان Wiemann، 1994 بمصطلح"الاعتراف والقبول الاجتماعي"و"الصدقية"، ووصفها روبرت وزملاؤه Robert, etal. 1991 بمكانة قائد الرأي المعتبرة في المجتمع. وأشار إلى أن من كانت هذه صفته فإن آحاد الناس يتوجهون إليه لمعرفة آرائه ووجهات نظره تجاه القضايا العامة في المجتمع، وهو بالتالي يؤدي وظيفته في محاولة صياغة الرأي العام والتأثير فيه، وأفاد أن الدعاة الذين يحظون بثقة أفراد المجتمع السعودي يُعدون مصادر مؤثرة، عندما يكون هناك توجه جماهيري لمعرفة آرائهم، متأملاً منهم تكثيف الحضور الإعلامي، ومضاعفة جهودهم الدعوية لبيان التأثير السلبي لوسائل الإعلام، وخطرها على ثقافة المجتمع وأخلاقه. وطالب بإقامة دعاوى الحسبة أمام المحاكم الشرعية على مالكي القنوات الفضائية، أو على القائمين بالاتصال الذين يتبين مدى نفوذهم المستقل في مؤسسات إعلامية أو برامج معينة تسيء إلى المجتمع، أو تنال من قيمه وأخلاقه،"وشهدنا حالات كثيرة يترافع فيها أفراد أو مؤسسات أمام المحاكم الشرعية لإساءة إعلامية لحقت بهم، وسلامة مجموع الأمة لا تقل أهمية عن سلامة حياة الفرد الشخصية أو سمعة المؤسسة الاعتبارية". واستدرك الشر أن مقاضاة الوسائل الإعلامية المتجاوزة في برامجها ومضامينها الحدود القيمية والاجتماعية تكون وفقاً لما نصَّت عليه مواثيق الشرف الإعلامية في الوطن العربي. إذ جاء في البند الخامس من وثيقة تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية التي أقرها وزراء الإعلام العرب ما نصه:"الالتزام باحترام حرية التعبير بوصفها ركيزة أساسية من ركائز الإعلام العربي، على أن تُمارس هذه الحرية بالوعي والمسؤولية والالتزام بأخلاقيات مهنة الإعلام...". ضرورة احترام ثقافة المجتمع أكّد البشر أن من أهم أخلاقيات المهنة الإعلامية احترام ثقافة المجتمع الذي تصدر منه المؤسسة الإعلامية أو تتوجه إليه برسالتها، ولذلك فإن من ضمن ما دعت إليه وثيقة الشرف الإعلامي التي أقرها وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم في القاهرة في تاريخ 12 شباط فبراير 2008 هو:"ضرورة الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية للمجتمع العربي، والامتناع عن بثّ كل ما يسيء إلى الذات الإلهية والرسل والرموز الدينية، والامتناع عن بث وبرمجة المواد التي تحتوي على مشاهد أو حوارات إباحية أو جنسية صريحة ...". وفي موضع آخر من ميثاق الشرف الإعلامي العربي جاء ما نصه:"تتحمل وسائل الإعلام العربية مسؤولية خاصة تجاه الإنسان العربي، وهي تلتزم بأن تقدم له الحقيقة الخالصة الهادفة إلى خدمة قضاياه، وأن تعمل على تكامل شخصيته وإظهار حقوقه وحرياته الأساسية وترسيخ إيمانه بالقيم الروحية والمبادئ الخلقية ...". ووصف دور الأسرة بالمقصر،"بتأمل واقع التعامل الأٍسري مع مخاطر الإعلام المحلي أو الوافد يلحظ المتابع لهذا الواقع قصور الدور الأُسري في هذه المواجهة،"فكلنا يرى الركض اللاهث للوالدين للتكسب وتحصيل المعايش على حساب تربية الناشئة وتحصينهم من موجات الإعلام غير الهادف". ونوه إلى أن كثير من الأسر جلبت التقنية الإعلامية في البيوت وتركتها مشرعة الأبواب والنوافذ من دون رقابة من الوالدين على ما ينبغي أن يشاهده أولا يشاهده أفراد الأسرة من البرامج الإعلامية، وأن الكثير من الآباء والأمهات يتذمرون من البرامج السيئة وغير الأخلاقية وهم من يتحمل مسؤولية تعرض أبنائهم لهذه البرامج، وتأثرهم بها من دون أن يكون لهم دور في المراقبة أو التوجيه، فالإعلام لم يدخل بيوتهم عنوة، ولم يقتحم غرف بيوتهم قسراً، محملاً الوالدين المسؤولية الأولى في ما يطرأ على ثقافة الأبناء وأخلاقهم من تغير غير محمود في الوعي أو المعرفة أو السلوك، أو اختلال في الفطرة النقية. وقال:"من أجل مواجهة هذا الواقع فإن على الوالدين أن يستشعرا المسؤولية الشرعية تجاه الأبناء، وأن يعيا حقيقة التوجيهات النبوية في التأكيد على أنهما مسؤولان أمام الله عن رعيتهما، وأن هذه الرعية أمانة ومسؤولية سيسألان عنها يوم القيامة، والتأكيد المستمر على توجيهات الشارع الحكيم في ذلك كفيلة بتأدية الأمانة وتحصين الناشئة من مخاطر المضامين الإعلامية غير الهادفة". وتطلع إلى تكاتف مؤسسات المجتمع المعنية بالتربية والتوجيه وتكامل جهودها مع المؤسسات السياسية والشرعية والقانونية في حماية الأسرة والناشئة من مضامين الإعلام غير الهادف.