مع كل هذا الازدحام الفضائي في المنطقة العربية، إلا أن ما يمكن أن يطلق عليه قناة تلفزيونية موثوقة يظل وجوده صعباً، مع الإيمان بأحقية الجميع ضمن نطاق المجتمع في التعبير عن آرائهم وخطابهم الثقافي او الاجتماعي والسياسي على جميع المستويات، على رغم وجود معارضة شديدة في بعض الأحيان من قوى محافظة، أو نخبوية مثقفة ضد بعض تلك القنوات، واتهامها من بعض التيارات المحافظة اجتماعياً ودينياً بأنها ضد خصوصية مزعومة لثقافتنا المحلية. فمثلاً القنوات المهتمة بالشعر الشعبي والاحتفالات الخاصة بالقبائل، مثل مسابقات"مزايين الإبل"التي أصبح لها جماهيرية واسعة بين أبناء القبائل في دول الخليج العربي، ومن ضمنها المملكة، وكذلك قنوات الأغاني والترفيه التي قد يتهم الكثير منها بالإسفاف ونشر ثقافة استهلاكية غريبة عن ثقافتنا، والقنوات الدينية التي تعبر عن جميع المذاهب الدينية الإسلامية. إن هذه النوعية من القنوات تعتمد بشكل واضح على الرسائل النصية من الهواتف المحمولة، او من الدعم المالي المباشر من بعض رجال الأعمال، أما الإعلان التجاري التقليدي فهو غير موجود في تلك القنوات، الذي هو أساس الإعلام الحقيقي المستقل، فالقوى الاقتصادية هي التي تدفع الإعلام بجميع إشكاله إلى الإبداع والمنافسة للحصول على جزء من الدخل الإعلاني في أي دولة، على رغم أن تلك القوى الاقتصادية يكون لها تأثير غير مباشر على وسائل الإعلام، ولكن في ظل استقلالية تحررية في الوسيلة الإعلامية، ان هذه العلاقة بين المعلن والوسيلة الإعلامية أصبحت علاقة نفعية، لها أساس علمي صلب، وتظهر بشكل واضح في وسائل الإعلام الغربية الأكثر مهنية واستقلالية وانعدام الدعم الحكومي لوسائل الإعلام هناك، كذلك يمكن القول أن بعض وسائل الإعلام العربية، خصوصاً المطبوعة، أصبحت غنية جداً من مداخيل الإعلانات لديها، وهذا عامل ايجابي يدعم استقلالية الجانب التحريري في تلك المؤسسات الإعلامية العربية. أما صناعة التلفزيون فهي مكلفة جداً وتحتاج إلى المادة والموارد البشرية المبدعة لإيصال رسالة إعلامية قوية وناجحة في جميع المجالات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الترفيهية، خصوصاً الأخيرة فهي تحتاج قدرات مهنية لتصنع من مواضيع قد تكون بسيطة وساذجة في بعض الأحيان برامج شعبية الكل يتابعها. إن الراعين والإعلانات التي تتخلل تلك البرامج هم في الحقيقة من يصنع تلك البرامج، وتبقى مسألة الفصل بين تأثير الإعلان على تلك البرامج مسألة قد تكون معقدة في بعض الأحيان، ولكن الإعلامي الناجح هو من يستطيع أن يفصل بين الجانبين. إن ما يوجد في الفضاء العربي من قنوات تلفزيونية هي في الحقيقة بداية لمرحلة ستنضج ويكون بها فرز شرس في المستقبل الإعلامي التلفزيوني العربي، إن اقتصاديات السوق والمردود الإعلاني هما من سيدعم استمرار وتأثير تلك القنوات، لكن هذا الوضع قد يحتاج إلى بعض الوقت، خصوصاً أن تقنيات البث الفضائي من خلال كثرة الأقمار الصناعية، ورخص البث على تلك الاقمار، اضافة إلى خدمات"الانترنت"، سهل من عملية إطلاق قنوات تلفزيونية، ولكن استمرار القنوات التلفزيونية الفضائية الفردية لن تستفيد بشكل فعال من مثل تلك الخدمات التكنولوجية المتقدمة، إذ يلاحظ ظهور قنوات بشكل كثيف، ولكن تلك القنوات تختفي بالسرعة المشابهة لظهورها، وهذا بحد ذاته هدر للأموال وتشويش على أذهان المشاهدين، لأن استمرار الوسيلة الإعلامية يخلق نوعاً من العلاقة التي تنعكس على مستوى الصدقية من المشاهد أو القارئ للوسيلة الإعلامية. أعتقد أن التشريعات الحكومية لن تجدي في الحد من إغلاق القنوات التلفزيونية الفضائية في السماء العربي، لأن الدول العربية لا تملك منع تلك المحطات من البث من أقمار فضائية متعددة لا تملك معظمها، إن الإعلام الخاص المؤسساتي هو الأساس في العمل الإعلامي في جميع دول العالم، لذا سيرسخ أقدامه في المنطقة العربية، أما القنوات التي يمكن أن نطلق عليها صفة الشعبية من ناحية المحتوى والإدارة فمصيرها الزوال. [email protected]