أخبر "صلى الله عليه وسلم" أن هذه الأمة سيكون فيها مضاهاة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك في ما ذمهم الله به وكان سبباً في سخطه وغضبه ولعنه لهم، وكان نتيجته الذلة والمسكنة والهوان والتفرق والاختلاف، وهذا الانحراف عن الهدي النبوي إلى مسالك أهل الكتاب لا يختص بطائفة من الأمة، بل هو عام في فئات من طوائفها، فيكون في طوائف من الولاة، وطوائف من أهل العلم، وطوائف من العوام، ولكلٍ من هؤلاء مشربه الذي يوافقه ويلائم حاله من حال أهل الكتابين، لكن تبقى بيضة الإسلام محفوظة ومحروسة وظاهرة في طائفة من هذه الأمة، لا يزالون متمسكين بالحق وهدي سيد المرسلين محمد"صلى الله عليه وسلم"بأنهم على الحق ظاهرين، ولا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، يتعرضون للبلاء في هذا العالم من جهتين، من جهة أعداء الإسلام الذين لا يؤمنون به، ومن جهة ثانية وهم أولئك المسلمين المنحرفين عن الصراط، وإن كانوا باقين في دائرة الإسلام لم يخرجوا عنه، فليس كل انحراف عن الصراط المستقيم يكون كفراً، بل قد يكون معصية، وقد يكون خطأً مغفوراً لصاحبه لحسن قصده ونيته. وأحسب أن شرّ انحراف يمكن أن يصيب الأمة هو انحراف أهل العلم، الذين هم ورثة الأنبياء والمبينون لشرع الله، فذلك هو البلاء الذي لا يرجى معه صلاح حال، وهو الآفة المؤذنة بفساد البلاد والعباد، وحلول النقمة وزوال النعمة، قال الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون"آل عمران: 187. وأياً كان المراد بمعنى قوله: أوتوا الكتاب هل هم أهل الكتابين قبلنا من اليهود والنصارى، أم المراد جنس الكتاب فيعم أهل العلم في كل زمان ومكان، فهي متناولة للعلماء في هذه الأمة، لأن الشارع الحكيم لا يفرق بين المتماثلات، ولا يسوي بين المتفرقات، وهذا يبين شأن الأمانة والمسؤولية التي يتحملها كل من أتاه الله علماً وفهماً في دينه، وانه مأمور بالبيان وانتهاج منهج السلف الصالح من هذه الأمة، وقد وقع في طوائف من علماء هذه الامة تشبه بأهل الكتاب، كما أخبر بذلك الرسول"صلى الله عليه وسلم". فقد ابتلي بعض المنتسبين للعلم بالحسد لمن هداه الله إلى علم نافع أو عمل صالح، إما لأنه ليس من أبناء منطقته أو ليس من بلاده، أم غير ذلك من الأسباب التي ما أنزل الله بها من سلطان، فأشبه حال اليهود الذي يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون آل عمران: 78. كما ابتلي بعض المنتسبين إلى العلم بالبخل بالعلم وكتمانه، وقد ذمَّ الله تعالى اليهود بهذه الصفة في أكثر من آية في القرآن الكريم، فهم يكتمونه إما بخلاً به وكراهة، لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وإما يكتمونه اعتياضاً عنه برئاسة أو مال، فيخافون من إظهاره أن يلحقه نقص في رئاسته أو في ماله، وإما يكتمونه خوفاً من أن يُحتج عليهم بما أظهروه منه وهو شر الأقسام. وتارة يكون السبب في كتمان العلم كونه جاء عن غير شيوخ تلك الطائفة أو تلك الجماعة، فبعض العلماء لا يقبل من الحق إلا ما جاء عن طريق طائفته ومشايخه، مع أن دين الإسلام يوجب إتباع الحق مطلقاً رواية ورأياً من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول"صلى الله عليه وسلم"، وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم بالكِبر والعجب ويزَّين له الشيطان ذلك بأن هذا من توقير العلم والدين وإظهار عزة الإسلام، وما عَلِم هذا أن ذلك حظ نفسه الأمّارة بالسوء. فخير الخلق محمد"صلى الله عليه وسلم"هو المقياس والميزان العدل للسلوك والأخلاق، فأين في سنته القولية والفعلية الكبر والعجب؟! بل دينه الذي جاء به ينهى عن ذلك ويمقت فاعله. ومما ابتلي به المسلمون في هذه الأزمنة المتأخرة، مما له صلة بالعلم والعلماء، احتكار المناصب والوظائف الدينية وحصرها في فئة معينة من دون بقية الأمة، فأشبهت حالهم حال اليهود. أصلح الله شأن المسلمين في كل مكان، وصلى الله على محمد وسلم تسليماً. عبدالله بن عبيد عباد الحافي أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بكلية الملك خالد العسكرية