تقول الأحاديث الشريفة والسير: إن إبراهيم"عليه السلام"تزوج من سارة ابنة عمه، ولكنها لم تنجب له، وشاءت قدرة الله تعالى أن ينجب من جاريته هاجر ولداً سماه إسماعيل ولكن ابن الجارية في تلك العهود كان لا يعد ابناً بمفهومهم، ولهذا دعا الزوجان بأن يرزقهما ربهما ولداً يحمل اسمهما، فرزقهما الولد بعد أن أصبحا عجوزين، وبسبب طبيعة الغيرة البشرية طلبت سارة من إبراهيم"عليه السلام"أن يبعد هاجر وابنها إسماعيل"عليهماالسلام"فذهب بهما إبراهيم"عليه السلام"إلى مكةالمكرمة وتركهما هناك. عاد إبراهيم إلى الشام، ثم رجع إلى مكةمرات عدة، ليتفقد زوجه وابنه، وعن عدد مرات قدوم إبراهيم إلى مكة، فقد ذكر البخاري أن إبراهيم حضر إلى مكة أربع مرات، الأولى، عندما جاء بزوجته هاجر وابنها إسماعيل وأسكنهما بجوار البيت، والثانية عندما جاء ولم يجد ابنه، ووجد زوجته التي لم تحسن استقباله، فقال لها: أخبريه أن يغير عتبة بيته، وفهم إسماعيل قول أبيه وفارق تلك الزوجة، وفي المرة الثالثة، جاء إبراهيم ولم يجد إسماعيل ووجد زوجته ? الجديدة ? التي أحسنت استقباله، فأوصاها أن تخبره أن يحفظ عتبة بيته، فأبقى إسماعيل يبري نبلاً، فأخبره أن الله قد أمره برفع قواعد البيت الحرام وبنائه، ونقل البخاري رواية الأزرقي أن إبراهيم"عليه السلام"حج البيت ومعه ابنه إسحاق وأمه سارة"عليهما السلام"، ولكنه لم يتطرق إلى قصة الفداء ومن هو الذبيح. اتفقت الروايات والمصادر التاريخية على أن قصة الفداء كانت في أثناء رحلة حج إبراهيم"عليه السلام"أي في قدومه الرابع إلى مكة، حين أمره تعالى بذبح ابنه تقرباً إليه. وقد صور القرآن الكريم تفاصيل قصة الذبيح في آيات جسدت قمة العبودية من إبراهيم"عليه السلام"وقمة الطاعة من ابنه"عليه السلام"في قوله تعالى: فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين. قصة الذبيح انقسم فيها العلماء إلى فريقين: فريق يرى أن الذبيح هو إسماعيل"عليه السلام"وآخر يرى أنه إسحاق"عليه السلام"لأن القرآن الكريم وصريح السنة الصحيحة لم يذكرا اسم الابن الذبيح، مما ولد خلافاً قوياً بين السلف والخلف، فاختلفت الآراء حول الذبيح، نستعرضها بإيجاز، ولعل أقدم من استعرض أقوال الفريقين بالتفصيل وذكر أدلتهما هو ابن جرير الطبري ت 310ه لكنه استنصر للرأي القائل أن الذبيح هو إسحاق، ويرى الطبري أن أدلة القرآن أقوى في الترجيح انه إسحاق، ولا يوجد في السنة قول قوي يرجح للأخذ به في تأييد أي قول، قال الطبري في معرض تفسيره لهذه الحادثة في"جامع البيان":"أشارت هذه الآيات إلى قصة الذبيح ولم يسمه القرآن، لعله لئلا يثير خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيين الذبيح من ولدي إبراهيم، وكان المقصد تآلف أهل الكتاب لإقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد"صلى الله عليه وسلم"وتصديق القرآن، ولم يكن ثمة مقصد مهم يتعلق بتعيين الذبيح ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه، وأمارة ذلك أن القرآن سمى إسماعيل في مواضع غير قصة الذبيح، وسمى إسحاق في مواضع، ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة، ولم يسم أحداً في قصة الذبح قصداً للإبهام مع عدم فوات المقصود من الفضل، لأن المقصود من القصة التنويه بشأن إبراهيم، فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه، وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويه عظيم بشأن إبراهيم، قال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وقال النبي"صلى الله عليه وسلم":"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم". اعتمد الطبري في أدلته على ما أورده القرآن الكريم، فحينما ترك إبراهيم قومه وهاجر إلى الشام مع زوجته سارة، دعا الله أن يرزقه غلاماً من الصالحين، قال تعالى: وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فيرى الطبري أن إبراهيم بشر بإسحاق قبل إسماعيل، لقوله تعالى: وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب كما أن رؤيا إبراهيم انه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي، فيقصد بها إسحاق، ولا يعلم أن لإبراهيم غلاماً ذكراً غير إسحاق حينها، قال الطبري،"إن القرآن صريح في أن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق قرن تلك البشارة بأنه يولد لإسحاق يعقوب، وكان ذلك بمحضر إبراهيم، فلو ابتلاه الله بذبح إسحاق لكان الابتلاء صورياً، لأنه واثق بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولما بشره بإسماعيل لم يعده بأنه سيولد له وما ذلك إلا توطئة لابتلائه بذبحه، فقد كان إبراهيم يدعو لحياة ابنه إسماعيل، ويظهر أن هذا وقع بعد الابتلاء بذبحه". يقول الطبرى في"تفسيره":"حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثناء الحسين عن يزيد عن عكرمة: فبشرناه بغلام حليم قال: هو إسحاق، حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد عن قتادة فبشرناه بغلام حليم بشر بإسحاق، قال لم يثن بالحلم على أحد غير إسحاق وإبراهيم قوله: فلما بلغ معه السعي يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم مع إبراهيم العمل، وهو السعي، وذلك حين أطلق معونته على عمله، وقول: قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، وكان في ما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشرته الملائكة بإسحاق ولداً أن يجعله إذ ولدته سارة لله ذبيحاً، فلما بلغ إسحاق مع أبيه السعي أرى إبراهيم في المنام، فقيل له: أوفِ بنذرك، ورؤيا الأنبياء يقين، فلذلك مضى لما رأى في المنام، وقال له ابنه إسحاق ما قال". وفصل الطبري حادثة الذبح بقوله:"حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمر بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال جبرائيل لسارة: أبشري بولد اسمه اسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب، فضربت جبهتها عجباً، فقال ابراهيم: هو لله ذبيح، فلما كبر اسحاق أُتي ابراهيم في النوم، فقيل له: أوفِ بنذرك الذي نذرت، إن الله رزقك غلاماً من سارة أن تذبحه، فقال لإسحاق: انطلق، نقرّ قرباناً الى الله، وأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه حتى اذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قُربانك؟ قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين فقال له اسحاق: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه سارة فتحزن، وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها مني السلام، فأقبل ابراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي واسحاق يبكي، حتى استنقع الدمع تحت خد اسحاق، ثم انه جر السكين على حلقه، فلم تحِكِ السكين، وضرب الله صفيحة من نحاس على حلق اسحاق، فلما رأى ذلك ذرب به على جبينه، وحز من قفاه، فلذلك قوله: فلما أسلما، يقول: سلما لله الأمر وتلّه للجبين فنودي إبراهيم قد صدقت الرؤيا بالحق، فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخلى عن ابنه، فأكب على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بني وُهبْت لي. فلذلك يقول الله: وفديناه بذبح عظيم، فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت: يا ابراهيم أردت أن تذبح ابني وتُعلمني". أورد ابن كثير في"قصص الأنبياء"أسماء بعض من قال بأن الذبيح هو اسحاق عليه السلام، فقال منهم:"كعب الأحبار، والعباس، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عباس، وابن مسعود، ومسروق، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومقاتل، وعبيد بن عمير، وأبو ميسرة، وزيد بن أسلم، وعبدالله بن شقيق ، والزهري، والقاسم، وابن أبي بردة، ومكحول، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبوهذيل، وابن سابط"رضي الله عنهم". أما من قال بأن الذبيح هو اسماعيل"عليه السلام"فمنهم ابن كثير وذكر بأن عمره وقتذاك ثلاث عشرة سنة، ولكن هذا يتناقض مع السياق التاريخي لقصته، وقصة أبيه ابراهيم"عليهما السلام"الذي أوردته معظم الروايات والمصادر بأن حادثة الفداء كانت بعد زواجه الثاني، وبعد بناء الكعبة، واستند معظمهم الى حديث معاوية بأن الرسول"صلى الله عليه وسلم"كان يسمي ابن الذبيحين، والذي أخرجه الحاكم وضعفه العديد من العلماء امثال ابن كثير نفسه، الذي قال بأن اسماعيل هو الذبيح والذهبي والسيوطي وفي"سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"وقال الألباني: لا أصل له. * باحث في الشؤون الإسلامية.