تم في الأسبوع الفائت في الجوف تدشين كتاب عبدالرحمن بن أحمد السديري أمير منطقة الجوف - يرحمه الله - الذي يحمل عنوانه الأعلى"فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال"في ندوة أقامتها مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية بدار العلوم في مدينة سكاكا، تحدث فيها محرر الكتاب الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي، وأدارها الأستاذ عبدالرحمن الدرعان، رئيس النادي الأدبي بالجوف، وحظيت الندوة بحضور كبير من المسؤولين والمهتمين بالتاريخ والثقافة، ومحبي الأمير - يرحمه الله - كما شارك عدد من مثقفي المنطقة بمداخلات وتعليقات على الكتاب أثرته، وبينت مدى الأهمية التي يحظى بها الأمير عبدالرحمن - رحمه الله. لقد قرأت الكتاب أكثر من مرة واكتشفت بعد كل قراءة أنني في حاجة إلى قراءته مرات كثيرة أخرى، وذلك لغزارة المعلومات التي يحتويها وتنوعها وسلاسة تتابعها، ودقة توثيقها، وفوق هذا كله المنهجية العلمية التي حظي بها هذا الكتاب، إضافة إلى الشخصية الفريدة التي يتحدث عنها، إذ تميز كتاب عبدالرحمن السديري بعدد من المميزات التي تجعل الناقد لهذا الكتاب يبذل جهداً حثيثاً في بحثه عن السلبيات فيه، على رغم أنها الطبعة الأولى، التي تعتبر في كثير من الأحيان مقدمة لطبعة ثانية، يستفيد المؤلفون والمحررون من ردود الأفعال عليها. إن أهم ما يميز هذا الكتاب هو: الناحية المنهجية: إذ تميز هذا الكتاب بمنهجية علمية عالية، وقد احتوى على الأسس والمعايير العلمية التي تميز تركيبته لتصنيفه ككتاب ذي منهجية علمية، وذلك باحتوائه على عنوان يعبر عن مضمونه وأسماء المؤلفين، واسم الناشر، واسم المحرر، إضافة إلى فهرسة معنونة بدقة تحتوي على توطئة وتقديم وتمهيد واقتباسات وسبعة عشر فصلاً بوبت إلى عناوين مختلفة، إضافة إلى ملاحق للكتاب الذي يقع في 485 صفحة وغلاف مقوى، غطي بصورة معبرة لشخصية الكتاب. كما اعتمد المؤلفون على التوثيق الدقيق الذي أخذ أشكالاً عدة منها الرجوع إلى المصادر والمراجع الأصلية في الموضوع، مثل الكتب والوثائق والصحف عربية وأجنبية، أو المقابلات الشخصية، والحديث المسجل مع عاصر شخصية الكتاب، وكذلك إرفاقهم للصور الفوتوغرافية التي توثق الأحداث والفعاليات لشخصيته، كما يحتوي الكتاب على توثيق أسماء المراجع العربية والأجنبية، والأشخاص، وكذلك احتوى على تفسير لمعاني الكلمات في أسفل حواشي الكتاب، تكون في بعض صفحاته أكثر من المعلومات المفسرة، كما أن عناوين الأبواب والفصول جاءت معبرة عن محتوياتها. أما بالنسبة للمؤلفين فقد تضمنت القائمة أسماءً لامعة في تخصصاتها سواء كانوا أكاديميين أو غيرهم، فالمؤهلات مختلفة والتخصصات متنوعة، وهذا ما أثرى محتويات الكتاب في طريقة عرض المعلومات، إضافة إلى كون بعضهم عاصر شخصية الكتاب، سواء كانوا عاملين تحت إمرته أو أفراداً من أسرته، وهو ما يضيف صدقية كبيرة إلي عرض المعلومات عنه، خصوصاً ما يتعلق بالجانب الشخصي منها. أما بالنسبة للفائدة العلمية والتاريخية للكتاب فهي قيمة جداً، فالكتاب يتحدث عن شخصيته بتوسع وإسهاب ويتضمن معلومات عن تاريخ أسرة السديري، وأدوارهم في الدولة السعودية الأولى، والثانية، والثالثة، ما يصحح اعتقاد كثيرين بأن العلاقة بين أسرة السديري وآل سعود بدأت بالمصاهرة مع الإمام عبدالرحمن والد الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمهما الله - ليكشف لنا هذا الكتاب أن هذه العلاقة موجودة منذ الدولة السعودية الأولى، عندما تولى سليمان السديري جد الأسرة إمارة الغاط، ثم تعمقت هذه العلاقة في عهد الدولة السعودية الثانية، أيام تولي أحمد السديري الأول لإمارة البريمي، إضافة إلى ما تضمنه من معلومات تاريخية وسياسية مهمة جداً في كل تلك الحقب الثلاث. أما بالنسبة لشخصية الكتاب فقد قسمت إلى محاور عدة هي: حياته: وتضمن معلومات دقيقة جداً وموثقة عن حياة الأمير عبدالرحمن منذ ولادته وحتى وفاته، إذ ولد في مدينة الغاط عام 1338ه 1919، وعين أميراً لمنطقة الجوف عام 1362 ه 1943 ليستمر في إمارة منطقة الجوف 48 عاماً، تخللتها كثير من المواقف الصعبة التي كاد يفقد حياته في بعضها. مميزاته: يثبت الكتاب تمتع الأمير عبدالرحمن بخصال حميدة كثيرة، منها الكرم، إذ لقب بعشير ضيفه، ومدل ضيوفه، وعشير المناعير، وكل هذه الألقاب أطلقها عليه الذين عرفوه وخالطوه، القريب منهم والبعيد، وقد عبروا عنها بشعرهم، خصوصاً في ذكرهم لدكته التي منذ توليه الإمارة جعلها مفتوحة للناس، ولا يتناول طعام الغداء أو العشاء إلا بها ومع من فيها من ضيوف... كما أن خصلة الوفاء هي الأخرى إحدى مميزاته، إذ عبّر عنها برثائه أو مخاطبته لكثير من أصدقائه، مثل ابن دغمي، واللحاوي، وابن سعران، وابن جريد، وغيرهم كثيرون، إضافة إلى موقفه مع ابن موسى في عشيرة الذي استضافه مع رفاقه أول تعيينه أميراً للجوف، ليعود ويبحث عنه بعد سنين طويلة ليجده فاقد البصر، ويبدأ بإجراءات علاجه إلا أن القدر عاجله وتوفي ابن موسى - رحمهم الله جميعاُ. كما أظهرت معلومات الكتاب أن الصبر والهدوء هما خصلتان من خصال عبدالرحمن، إذ أوصى أبناءه في شعره الموجه لهم بالتحلي بالصبر، وهناك مقولة للأمير عبدالرحمن يتداولها الناس في الشمال، ولم تذكر في الكتاب عن الصبر والحكمة، وهي"أن من يظهر غضبه زعله قبل مضي 25 عاماً ما هو برجل"، وهذه المقولة إن ثبتت فهي دليل على الصبر والحكمة اللتين يتمتع بهما. أما بالنسبة لشعره، فتضمن الكتاب العديد من قصائده التي تعكس شخصيته ومدى تعلقه بالجوف وأهلها ومدحه لهم ووصفه بدقة لطبيعة المنطقة المكانية والنباتية، كما تضمن تعامله مع أبنائه وأحفاده ومع زوجته - رحمها الله - إضافة إلى رثائه لأصدقائه، وبعض القصائد الحماسية التي عبّرت عن مساندته للقضية الفلسطينية وحرب الجزائر التحريرية. أما المحور الثاني: فقد تضمن إنجازاته في منطقة الجوف، وكان أهمها فرض الأمن والاستقرار في المنطقة في بداية تعيينه، وذلك لوقوعها على الحدود مع العراق والأردن، ووجود قبائل كانت تتناحر في ما بينها قبل الحكم السعودي، إذ تضمن الكتاب دور الأمير عبدالرحمن في مفاوضات الحدود مع العراق، وهو ما صقل شخصيته السياسية، وكذلك دليل الثقة التي حظي بها من الملك المؤسس، كما تضمن إنجازاته في التعليم، خصوصاً تشجيعه لتعليم الفتاة في المنطقة، وطلبه من الدولة أن يصرف للطلاب من خارج المدينة مكافأة تساعدهم على مصاريف تعليمهم، كما حظيت الزراعة باهتمام كبير منه، إذ تضمنت معلومات الكتاب تشجيعه للمزارعين وتحويلة مزرعته لتجارب زراعية لتحسين الزراعة، خصوصاً زراعة النخيل الذي ادخل كثيراً من الأنواع الجيدة للمنطقة. أخيراً، لا يكفي مقال واحد لاستعراض هذا الكتاب القيم جداً، ولكن من يعرف ويسمع عن شخصية الأمير عبدالرحمن السديري يرى أنها تحتاج إلى كتب، فيكفي من إنجازاته وجود مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، ودار العلوم بالجوف، وكذلك إقامته أول سباق هجن في المملكة التي عبًرت عنها صورة الغلاف أكبر تعبير. رحمه الله عشير ضيفه وأسكنه فسيح جناته. * عضو مجلس الشورى.