لم تتسن لي مقابلة الأمير عبدالرحمن بن الأحمد السديري- رحمه الله - أمير منطقة الجوف سابقا بشخصه، وإن قابلته بمآثره وأعماله وأبنائه، فمنذ وصولي من الولاياتالمتحدة الأميركية، وحصولي على شهادة الدكتوراه، وأنا أشاهد وأقابل، وأتحدث مع من له علاقة بالفقيد العزيز سواء مؤسسات خيرية وتعليمية أنشأها مثل مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية بالجوف، ومكتبة دار الجوف للعلوم، ومدارس الرحمانية، أو مقابلة الأبناء الذين كانوا ولازالوا خير خلف لخير سلف بدءًا من الأمير فيصل السديري، والأمير سلطان السديري أمير منطقة الجوف سابقاً، والدكتور زياد السديري عضو مجلس الشورى سابقاً، والدكتور سلمان السديري وكيل إمارة منطقة الجوف سابقا،ً الذين يعجز الشخص عن وصف دماثة خلقهم ورجولتهم، وتقديرهم للناس وفوق هذا كله كرمهم المعروف. لا يوجد شخص ليس في منطقة الجوف فقط بل في الشمال كله من حائل إلى تبوك، إلى عرعر، والقريات، إضافة إلى نجد لا يعرف عبدالرحمن الأحمد السديري سواء بحكمته أو سياسته أو كرمه، وفوق هذا كله إخلاصه لوطنه ودينه، فذهب للجوف شاباً يافعاً لا يتجاوز عمره 24 سنة في وقت كانت كل المعطيات لا تشجع على الذهاب إلى تلك المناطق، فعدم وجود مواصلات وبُعدها عن المركز والبلد في بداية تكوينها، كلها عوامل تدعو لعدم الذهاب إلى الجوف، لكنه صبر وثابر واجتهد كثيراً في عمله وفي قراراته، وبحسب ما هو متاح له في ذلك الوقت من استخدام وسائل بدائية في المواصلات في ذلك الحين مثل الإبل الركاب وغيرها، حيث عطش وجاع في كثير من جولاته على المراكز مع رفاقه أخوياه وهذا ما رواه لنا بعض أبنائه عن بعض الجولات في النفود، أو غيرها من الأماكن، وكل ما ذكر ما هو إلا تنفيذ لأمر ولي الأمر له الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وأبنائه الملوك المتوفين من بعده رحمهم الله جميعاً. إن شخصية الأمير عبدالرحمن الأحمد السديري تجمع أنماطاً عدة في شخص واحد، فهو رجل دولة، وثقافة، وإنسان وشاعر، رجل دولة لأنه جاء -رحمه الله- في وقت كانت الظروف تستدعي أسلوباً إدارياً يتوافق مع متطلبات العصر، إذ أثبت أن معرفة المنطقة بسكانها وطبيعتها وتقاطعاتها جعلته من أكثر المسؤولين إلماماً به، واستخدم الأسلوب الأمثل في الإدارة الذي يتوافق مع متطلبات الوقت، إذ إن مرحلة التأسيس مختلفة في إدارتها عن المراحل الأخرى، وقد أبلى بلاءً حسناً في هذه المرحلة البالغة الصعوبة وأدارها بكل اقتدار، مظهراً بعداً سياسياً، وإدارياً عميقاً جداً يتناسب مع متطلبات تلك المرحلة. أما كونه رجل ثقافة فقد ساعد على حركة النشر والثقافة في المنطقة وذلك بتأسيس دار الجوف للعلوم عام 1383ه، كأول مكتبة عامة في الشمال تحتوي على قسمين للرجال والنساء، إذ يعتبر قسم النساء أول مكتبة عامة للنساء في المملكة... وكذلك أنشأ مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية التي أسهمت إسهاماً بناءً في نشر الثقافة من خلال الفعاليات الثقافية التي تقيمها سواء في الندوات أو الأسابيع الثقافية، أو الإسهام في النشر حتى وصلت إلى برنامج ابتعاث للطلاب الأوائل في الثانوية من أبناء منطقة الجوف إلى خارج المملكة لدراسة الطب والحاسب والهندسة وغيرها منذ عام 1421ه. ولا ننسى أيضاً مشروعها الكبير وهو"برنامج النشر ودعم الأبحاث"الذي استفاد منه كثير من الباحثين، خصوصاً الذين تكون مواضيعهم ذات علاقة بالمنطقة... كما أنها قامت بإصدار مجلتي"الجوبة"الثقافية و"أدماتو"التخصصية المحكمة في مجال الآثار وهي أول مجلة متخصصة في هذا المجال في المملكة العربية السعودي، إضافة إلى تنظيم مؤتمر عالمي"المدينة العربية"عام 2005 في مدينة سكاكا، ليكون المؤتمر الأول في المملكة الذي يناقش تاريخ المدن العربية. أما بالنسبة لشاعريته فالجميع يعرف حسه الشعري، إذ صدر له ديوان في الشعر، وأكثر ما يركز عليه شعره هو الرجولة والطيب، وتقوى الله، والدعوة إلى التمسك بالفضائل، والمآثر، إضافة إلى بعض الوصف للبيئة سواء طبيعية أو اجتماعية، ووصف لمواقف إنسانية. كما ركز في شعره على تنمية الولاء والاعتزاز الوطني. أما بالنسبة لإنسانيته فالمواقف الإنسانية التي تروى عنه كثيرة، إذ ذكر الدكتور أحمد بن محمد العيسى في مجلة"الجوبة"العدد"15"، أنه أصر على إقامة حفلة زواج بنات أحد أصدقائه والتي طلب يدها الدكتور أحمد على نفقته وفي قصره، وهو أكبر دليل على وفاء الرجل وإنسانيته تجاه أصدقائه أو من عملوا معه. أما بالنسبة لاهتماماته فقد تركزت على ما تحتاجه المنطقة من تنمية، فقام بالاهتمام بالزراعة وتشجيعه لها من خلال إنشاء مسابقة للمزارعين المبتدئين الذين شملهم مشروع توطين البادية عام 1385 ما لبث أن شمل جميع المزارعين في ما بعد، وكذلك تنظيم المهرجانات الزراعية، إضافة إلى مواقفه السياسية بإعطاء الأولوية لأهالي منطقة الجوف بالمشاريع الزراعية في مشاريع بسيطة. أما من ناحية التراث فقد شجع على إقامة معارض السجاد والمنسوجات اليدوية السدو، والتي تتم بأيدي نساء منطقة الجوف، وذلك للحفاظ على هذا الموروث التراثي وتنميته والتشجيع على استمراره كأحد معالم المنطقة. أما بالنسبة لمشروع توطين البادية فقد أسهم في إنجاح هذا المشروع بشكل كبير في الشمال من خلال توطينهم في وادي السرحان، الذي أصبح اليوم من أكبر روافد الزراعة في المملكة بعد أن كان ممراً للبوادي خلال تعاقب فصول السنة، وتحول إلى وادٍ منتج لأنواع مختلفة من المحاصيل الزراعية، على رأسها الزيتون الذي أصبحت منطقة الجوف تشتهر به وبإنتاج زيت الزيتون الذي يعصر في المنطقة بعد أن كان يستورد من الخارج. كما كانت الرياضة أيضاً أحد اهتماماته، إذ أقام سباقاً للهجن عام 1385 لتنمية روح المنافسة بين مواطني المنطقة، إضافة إلى تشجيعهم على المحافظة على هذه الثروة الحيوانية والسلالات الجيدة منها، ويعتبر ذلك السباق أول سباق منظم للهجن في المملكة. لقد تميّز الأمير عبدالرحمن السديري بميزات كثيرة لا يتسع المقال لذكرها، ولكن يتفق كل من عرفه أو قابله على أن الحكمة والتواضع والصبر والصفح من أشهر مميزاته، إضافة إلى مواقف ومميزات تروى عنه من خلال حديث الناس... ويا حبذا لو قامت مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية برصدها في كتاب ليُعطى هذا الرجل حقه. أعود وأقول إنني لم أحظ بشرف مقابلته ? رحمه الله - ولكن منذ عام 1415 وعودتي للقريات من الولاياتالمتحدة الأميركية قابلت الدكتور سلمان السديري للمرة الأولى في القريات وشعرت بالقرب منه، وبعده قابلت الأمير سلطان السديري أمير منطقة الجوف سابقاً وشعرت أيضاً بقرب أكثر، وتوالت اللقاءات مع أبنائه الباقين زياد وفيصل وجميعهم يأسرونك بمحبتهم وخلقهم، وهذا ليس قولي فقط فكل من قابلهم يقول أكثر من ذلك، فالكل سواء من أبناء الجوف في الرياض أو غيرها من المدن أو الزملاء في مجلس الشورى يثمنون دعواتهم لهم في الغاط أو الجوف أو غيرها من اللقاءات الاجتماعية والفكرية التي ينظمونها. إن الخطوة الرائدة التي قام أبناؤه بعملها هي إنشاء مكتبة"الرحمانية"في الغاط لتكون منارة ثقافية في وسط صحراء نجد تخليداً لذكرى هذا الرجل العظيم. هي مقدره من كل من عرف مآثر هذا الرجل، لذلك رحم الله عبدالرحمن الأحمد السديري الذي ترك كل هذه الآثار المفيدة للمنطقة والمجتمع والوطن. * عضو مجلس الشورى.