وقفت ذات الثماني سنوات، بعودها النحيل ولونها الشاحب وعيونها البنية الغائرة، أمام باب المركز التجاري الفخم، تنتظر دخول وخروج المتسوقات صاحبات العباءات المزركشة والعربات الفخمة لتلاحقهن وتلح عليهم للتعطف والشراء من بضاعتها التي أثقلت حمولتها يداها الضعيفتين الرقيقتين... تتعمد الوقوف أمام باب المركز ليلامس وجهها الصغير النسيم البارد المقبل من داخل المركز، كما فتح الباب ليخفف وطأة الحر الشديد والهواء اللاهب الذي أيقظ حمرة وردية على جبينها ووجنتيها، تتسمر عيناها في كل لحظة وثانية وينتابها شعور بالاندهاش والانبهار، كلما رأت طفلاً أو طفلة في مثل عمرها يدخلون ويخرجون من بوابة المركز وهم يلبسون ملابس زاهية وجميلة ويحملون الكثير من الألعاب والآيس كريم وأحيانا بالواناً جميلاً... تشعر بإحباط من قسوة الحياة، وتتمنى لو تتناثر الذكريات الصغيرة في بالها الطفولي وتنكسر وتتلاشى. ذكرى فقدان والدها في حرب أفغانستان، وانتزاعها من حضن والدتها لسبب تجهله ولكنها وعته وتعلمته بقسوة مع مجموعة الأطفال الأيتام الذين رافقوها رحلة الآلام، لتأمين لقمة العيش لوالدتها وأخوتها الصغار الذين ما زالوا في أفغانستان يعانون الحرمان والجوع وفقدان الأمان... ولكن ما ذنبها لتحمل كل هذه الآلام؟... تعب وغربة وإرهاق وقلة نوم وحرمان من الطعام وضرب إذا لم تنفد بضاعة صاحب المال، وخوف من الحاضر والمستقبل، يديره إنسان جشع يلتحي ويضع العمامة ويدعي الإسلام، لا يحمل في قلبه ذرة رحمة ولا فعلاً ينم عن الإيمان. انفتح فمها الصغير دهشة واستغراباً، أنها طفلة في سِنِي عمرها، ولكنها ليست مثلها بملابسها وشعرها المزين بشرائط ملونة، وتلك القصة ذات الألوان والرسوم الجميلة في يدها يا للهول، أشارت الصغيرة الجميلة إلى خادمتها لتحكم رباط حذائها، تساءلت بائعة المناشف هل هذه الصغيرة شخص مثلها؟ ولكن هناك من يربط حذاءها ويرتب هندامها ولا تقبل الإحسان ولا تلاحق المارة بطلب الشراء. إذن هناك سبيل آخر للوجود، لقد قالت لها أمها قبل الرحيل وهي تجفف دمعها وتهدئ من خوفها، إن الله وضع نظاماً لحياتها وحياة الأطفال المحرومين مثلها، ولكل إنسان في هذا الكون، والله رحيم لا يحمل نفساً فوق طاقتها... شعرت براحة أثلجت صدرها، لقد كررت الأم كلامها قبل فراقها لتدرك معناه وقبلتها ووعدتها بأنها ستحفظ في قلبها محبتها، فعليها الصبر والنظر للنجوم في السماء وستلاقيها بنظرها هناك. أخفت قدميها الصغيرتين المندستين في حذاء بالٍ خلف حوض زرع ومسحت شعرها بيدها المتعرقة لتسويه وتبدو في صورة أفضل أمام هذه الغريمة الجميلة، نظرت الفتاة نحو بائعة المناشف نظرة استغراب مزجتها فجأة بنظرة تباهٍ واستعراض، وبدأت تتصفح القصة وتختلس النظرات نحو غريمتها النحيلة، فالعمر واحد والمشاعر والأماني واحدة، ولكن الحال متباعد... أحست بائعة المناشف أنها داخل قشرة لا تستطيع تجاوزها لتصل إلى السعادة والفرح الذي ينعم به هؤلاء الأطفال، فمصيرها داخل القشرة وكأن العالم هكذا لم تفهمه! ولكنها شعرت به... ألم وحرمان للبعض وسعادة وفرح للبعض الآخر، لماذا... لا تدري، لقد ضيع ثقل الحمولة الذي أتعب يديها الصغيرتين أمانيها، وعادت تضرب حصى الشارع بحذائها البالي، وتخلت عن مشاعر خجلها وعادت تلاحق زبائنها. شهر زاد عبدالرزاق عبدالله - جدة