تهبّ الحكايات والأقاويل في حارتنا كما تهب زوابع العجاج في الصيف، فتغشى الأبصار، ويتعالى السباب والشتائم لتطال كل شيء، مقدساً كان أم ملعوناً، فتختلط هذه الزوابع بدمائنا. ومع ذلك يستمر تيار الحياة في الجريان باصرار وعناد يحمل معه ركام الأيام والساعات بل والسنوات ولا يخلف سوى الأسى أو الفرح القصير. قلت "حارتنا" وأنا أعني كثيراً بهذه الكلمة المفردة، فهذه الحارة بركة فيها كل أنواع السمك، منها المقيم دائماً ومنها الطاريء الذي يعاود الهجرة والترحال بعد انتهاء مواسم القطن أو حصاد القمح طلباً لعمل جديد ورزق جديد. ومن هنا تأخذ كل حكاية فيها لوناً مغايراً ومجرى مختلفاً تبعاً للشخصية التي تلعب دور البطولة. فأمام بيتنا، افتتح عسكري متقاعد من أصل شركسي محلاً متواضعاً، معظم بضاعته حلوى وألعاب للأطفال. وكان يقف عملاقاً أشقر متين البناء، ينتعل حذاء عالياً يصل الى ما تحت الركبة من الجلد الأسود مزيناً بمهمازين من الفضة، وعلى رأسه قلبق من جلد الخروف، وله شارب مفتول وخطه الشيب، وعينان صافيتان زرقاوان بلون الفيروز القاسي تلقيان الرعب في قلب اشجع الرجال، وبيده على الدوام عصا من الخيزران يجلد بها حذاءه فتصدر عنه طرقعة عالية تزيده هيبة. كان الرجل يجلس في صدر الدكان الذي لم يجرؤ زبون على الدخول إليه أو شراء شيء منه، فالصغار فروا مذعورين كالأرانب، والكبار ينظرون إليه بحذر ودهشة. ويوماً بعد يوم يئس الرجل من بيع بضاعته، فوضع كرسياً خشبياً عالياً وكأنه عرش وجلس عليه يدخن النرجيلة، ويستعيد ذكرياته بلذة وكسل معدداً المخافر التي خدم فيها، والقرى التي مر بها، والحناشل واللصوص الذين انهاروا بين يديه أذلاء خائفين، وحصانه الادهم الذي تعرفه مناطق الجزيرة وعفرين وبادية الشام كما تعرف فارسه. وحين يداعب النوم أجفانه، يغلق المحل وينصرف في موكب صاخب يصدره حذاؤه وصوت مهمازه الفضي، أو يظل غافياً على الكرسي، وخرطوم النرجيلة بين اصابعه الثخينة، ورائحة الدخان تفوح من شواربه الكثّة. وذات يوم بينما كان خورشيد يحمل صندوق "البويه" ويمر من أمام دكانه، ناداه بصوت آمر: - أنت يا ولد... تعال! وجاء الصبي كالمصعوق ثم وقف أمام الرجل، فمد له قدمه وتابع تدخين النرجيلة. فهم الصبي ما يريد، فانحنى على الحذاء يلمعه بينما فر أخوه علو باتجاه البيت. ومع مرور الأيام بنى الرجل صداقة مع بعض المتقاعدين الذين جاءوا من الحارات الأخرى، فأحضر عدة الشاي والقهوة المرة وطاولة الزهر التي شهدت أعنف المعارك بينه وبين آكوب الارمني قبل أن يهاجر. آكوب الذي كان في اللحظات الحرجة يتمتم بصلاة قصيرة بلغته القومية فيثير غضبه لأن ربه استجاب له بسرعة ووقف الى جانبه، فيقذف ببعض الشتائم الشركسية الصغيرة التي لا يفهمها الارمني لأنها باللغة الشركسية. وهكذا قنعا ولم يختصما، فهذا يصلي بلغة لا يفهمها الآخر وذاك يشتم بلغة لا يفهمها صاحبه. وعند نهاية اللعبة كانا يتصافحان ويضحكان من القلب، يومها اكتشفت الحارة الخائفة أن الرجل الذي بث الرعب في القلوب مسالم ووديع كطفل كبير، فأصبح أحد أركانها، والمستشار القانوني لأهلها في المنازعات والخلافات. ولكن ليست حكايات حارتنا من جنس هذه الحكاية ولها هذه النهاية السعيدة. فقد تتخذ الأحداث أحياناً جانباً مأساوياً وفاجعاً الى درجة لا يمكن أن يقوم بها الا أناس من جنس أبطالها، كما جرى في حادثة أخرى، حادثة "فرحة". *** كنت أرى "فرحة" كثيراً. أراها حين أذهب في الصباح الى مدرستي. وأنا أنحدر من التلة التي يقوم عليها منزلنا، تقف أمام مأواها الذي كان يوماً طاحونة ازدهرت أحوالها وشهدت عصراً ذهبياً، بصوتها الأصم القوي الذي يتصاعد ليهزّ الحارة ورائحة البشر والحيوانات والطحين وضحكة صاحبها آكوب الارمني تتردد وهو ينحني بجسمه الربعة المتين على الأكياس ليدفعها الى جوفها الهادر، ثم يمسح العرق عن جبهته العالية. آكوب الذي لا يعرف من أين جاء؟ هكذا تواجد في الحارة، بنى الطاحونة، وكان وحيداً مع كلبه، يخرج بعد انتهاء العمل الى النزاهة أو صيد السمك في الآحاد، وفي الليل يتحول آكوب الى كائن آخر، يجلس الى الطاولة لوحده، يطعم كلبه ويشرب ثم يندفع في غناء حزين، يبكي أناساً وأياماً لا تعرف عنهم الحارة شيئاً، ثم يبدأ حكاية طويلة، يرويها بلغة أخرى للكلب فهو الوحيد الذي يفهمها. ويوم توقفت الطاحونة بسبب انتشار الأفران حزن آكوب كثيراً، وللمرة الأولى في حياته يكتشف بأنه وحيد ومهجور ومقطوع من شجرة. اختفى من حياة الحارة فجأة كما جاء اليها، وإذا كانت حارتنا تنسى أشياء كثيرة فانها بالتأكيد ما زالت تذكر اليوم الأخير قبل رحيل آكوب أو اختفائه الغامض بشيء من الحسرة والألم. فمنذ الصباح الباكر أفاق الرجل من نومه، دار طويلاً حول الحارة النائمة كأنه يرى بيوتها وحجارتها وأشجارها وأزقتها الضيقة للمرة الأولى. ولأنه كان يشعر بالاختناق، اتجه الى النهر وكلبه يتبعه. وهناك جلس على صخرة يراقب جريان الماء الهادئ تحت شمس دافئة وقلبه يخفق بشدة، لم يحضر معه عدة الصيد، بل ظل ينعم بالدفء وجمال المنظر وكأنه يقيم صلاة خاصة للماء والرمل الناعم، ثم عاد الى الطاحونة وأعد طعامه وشرابه... ونام. وعند الغروب اتجه آكوب الى دكان صديقه الشركسي، وهناك جلسا متقابلين يلعبان. وللمرة الوحيدة لم يشتم آكوب أو يرتل صلاته الغامضة، ولم يدمدم صديقه بلغته الشركسية، لعبا طويلاً بصمت ومن دون اعتبار للربح أو للخسارة. وفي الليل اشعل آكوب كل ما عنده من الشموع وكأنه يقيم قداساً أخيراً، ثم بدأ يشرب ويغني أغانيه الحزينة التي طالما سمعها الأهالي من بعيد. وفي لحظة جنون مد اصابعه الى الأزرار فانطلق هدير الطاحونة قوياً يرج الحارة، هذا الصوت الذي نسيه الناس منذ زمن بعيد. وفي الصباح اختفى آكوب وصوت الطاحونة، وقيل انه هاجر الى أميركا ومع ذلك ظل صوت أغنياته الحزينة يتردد في أماسي الآحاد. كنت أرى "فرحة" أمام الطاحونة التي آل بناؤها الى السقوط، وكانت تبتسم وفي عينيها سماوات من دفء قديم وحزن آسر تعتق على مرّ الأيام فأصبح له معنى آخر تتزود به في أيامها الباردة وليالي الشتاء الطويلة، حين يتكوّم الى جانبها ذانك الجسدان الناحلان طلباً للحماية فتدفع عنهما قسوة الوقت بالابتسامة والحكايا السعيدة التي تكثر فيها من أوصاف القصور والحلوى، ونور القنديل الهرم يساعدها في رسم جو اسطوري، فيشيع شعور حار بالحياة والأمل، بينما تقف الآلة العملاقة ككائن خرافي من الخشب والحديد تفوح منها رائحة الدخان والطحين والعثّ الذي خلفته الرطوبة. ثم أراها في المساء، بعد أن تكون قد انتهت من الخدمة في البيوت التي تحتاج الى خدماتها الصغيرة وهي تقف مثل شجرة أمام الباب تنتظر عودة الصغيرين من رحلتهما اليومية، وهما يحملان صندوقي "البويه" المزينين بالمرايا والخرز الأزرق، وقد انحنى القدان النحيلان تحت الثقل الباهظ وفي جيب كل منهما تخشخش القطع النقدية الصغيرة بفرح، وقد تلوثت اصابعهما بخليط لا يمكن تمييزه من الألوان. وإذا ما تأخر الصغيران لشأن من شؤونهما فانها تندفع كالمجنونة في أزقة الحارة، تبحث عنهما، فتسأل كل من تصادفه كبيراً كان أم صغيراً: - هل رأيت علو وخورشيد؟ ثم تضرب وجهها نادبة بحرقة: - خورشيد، علو... أوووف يا ربي. فإذا ما رأتهما قادمين، أسرعت اليهما ملهوفة، تضمهما الى صدرها الناحل، ويعود السلام الى روحها والهدوء الى وجهها الشاحب. هذه هي "فرحة"، اما بقية الاسم فلا أحد يعرفه ولم يحاول أحد ذلك، لأن الحارة تفقد ذاكرتها أحياناً. فقبل خمسة عشر عاماً جاء الى الحارة رجل شاب وفتاة سكنا عند امرأة عجوز، وعمل الرجل عتالاً في مواسم الصيف فقد كان يملك جسداً قوياً ومعافى، اما في باقي الفصول فقد كان يجلس في سوق الهال بانتظار من يحتاج إليه في افراغ حمولات الشاحنات القادمة محملة بالخضار والبضائع. وهكذا سارت حياتهما هادئة غامضة وصامتة فلم يعرف أحد عن الرجل والمرأة شيئاً. ومع الأيام نسيتهما الحارة بعد أن رزقا الولد الأول والثاني، واستمرت الحياة على وتيرتها حتى قتل الرجل في حادث فاجع وهو يعمل، فاحتلت المرأة مع ولديها مبنى الطاحونة المهجور، بحجة ان الحي ابقى من الميت، فالغائب بحكم الميت وآكوب لو عاد فلن يسكن هذا الحجر. كل ذلك تعرفه الحارة، لكن الجزء المفقود الذي لم تعرفه هو الجزء الأهم لما سيأتي من حكاية "فرحة" التي عاشت في قرية من قرى الشمال تتاخم الحدود، وكان اسمها الحقيقي "دلبرين" ولم تكن تعلم يومها ان ذلك المعلم القروي الذي اختار لها هذا الاسم يوم ولدت انما كان يرسم مصيرها الذي قادتها اليه خطاها العمياء. فقد كانت جميلة، ومن عائلة ميسورة قياساً الى أهل قريتها. لها أب شيخ وثلاث اخوات وأخ ما زال في سنته الثالثة، تقضي وقتها في تطريز الثياب وحياكة البسط التي اشتهرت بها قريتها، وكان من الممكن ان تسير الأمور بشكلها المألوف لو لم يظهر في حياتها "عارف" ذلك الراعي الوسيم الذي جاء من قرية أخرى يحمل خنجراً ومزماراً وشوقاً لانثى تشاركه رحلة حياة طائشة ومجنونة. كانت تعلم أن الزواج به مستحيل فأبوها يكره الرعاة والفقراء، وكذلك فإن العيش من دونه مستحيل، ومن هنا اختارت الهروب معه من دون تبصّر بالعواقب، ومن مكان الى آخر حتى استقرا في الحارة، حارتنا التي تفتح قلبها للجميع. كانت "فرحة" تظن بأنهم نسوها، نسوا "دلبرين" التي حملت في مساء عاصف "بقجة" ثيابها وهربت... حتى هي نفسها تظن بأنها أصبحت امرأة أخرى، باسم آخر، بقلب ودم غريبين. ومع ذلك ظل قلبها يقظاً وروحها لا تنام كالسمك، فمثل عارها لا يمكن أن يغسله سوى الدم. ومن هنا كان يمتد سهرها طويلاً في المساءات العاصفة. وذات يوم في مساء بارد وعاصف، تأخر علو وخورشيد. كانت داخل الطاحونة توقد قنديل الكاز وقد خيم عليها ظل كئيب وشعور غامض بالخوف، وإذا بحركة خلفها ظنتها في البداية صادرة عن الأخوين، فالتفتت: رأته ينزرع أمامها طويلاً رشيقاً يذكرها بأبيها في شبابه، وقد برقت عيناه بشر وشوق قديم للذبح، لم يتكلم، فتلمست رقبتها لكن الخنجر كان أسرع منها، فسقطت تغرق في دمائها وانسحب مخلفاً وراءه الصمت والدم. وذهلت الحارة، عاشت ليلة عصيبة، فما حدث لا يحدث إلا في حالات نادرة، ومع ذلك بدأ الحدث يتراجع وتتراجع معه الإثارة. وظل علو وخورشيد يحملان كل صباح صندوقي "البويه" المزينين بالمرايا والخرز الأزرق وينطلقان الى الساحة العامة والمقاهي بحثاً عن الرزق. ويوم غادر الحزن عيونهما، رحلا الى جهة مجهولة وراء الطريدة، وقد أعدا للهجرة الخنجر والعزم والشوق الى الذبح. * أديبة سورية.