لن تحتفل أم عبد الرحمن الدوسري، مع آلاف النساء اللاتي بدأن أمس، العمل في المحال النسائية بعد تأنيثها، إذ أنها وقريناتها طبقن هذا التأنيث منذ عقود. وهو قرار لم يكن رسمياً، بل كان بسبب الظروف المعيشية «القاسية» التي ألزمتها العمل بائعة للملابس النسائية البسيطة ومواد التجميل الشعبية، التي تفترش بها بسطتها أمام المارة في سوق القيصرية القديم، قبل أن تأكله النار، ليبدأ مسلسل البحث عن مواقع بديلة، إثر «المطاردة» التي شنتها عليهن بلدية الأحساء، قبل أن تتحول إلى أمانة. وعلى رغم التنقل بين خمسة أماكن، طوال السنوات العشر الماضية، منذ حريق سوق القيصرية، إلا أن أم عبد الرحمن (63 سنة)، تحتفظ بزبوناتها القدامى، اللاتي يثقنَ في بضاعتها البسيطة، لا لكونها تلبي احتياجاتهن من تلك المعروضات، بل لكونها تمنحهن الخصوصية التي ينشدنها. وتقول: «تستطيع الزبونة التي ترغب في شراء ملابس داخلية، أن تتحدث معي بحرية، وأساعدها في الاختيار، ولا تشعر بالتوتر والخجل اللذينِ يسيطرانِ عليها حين تدخل محلاً يعمل فيه رجل، وهذه ميزة كانت تميز بائعات البسطة. ولكن يبدو أننا سنفقدها»، في إشارة إلى قرار وزارة العمل بإلزام تأنيث المحال النسائية. ولم يكن عمل بائعات سوق القيصرية غريباً، بل كان يحظى باحترام اجتماعي كبير، يظهر في ثقة الزبونات في المشغولات اليدوية، وحتى المستوردة التي تعرض بصورة «محتشمة». ويوحد البائعات القدامى تمسكهن ب «الحشمة والوقار»، إلى جانب ثقتهن في أنفسهن. كما يقمن بعرض بضائعهن بشكل يوافق الذوق العام، إذ يُخفين ملابس النوم والملابس الداخلية، في مكان غير مكشوف، ويظهرنها عند السؤال عنها. ولا يقتصر زبونات البائعات على سكان محافظة الأحساء المنطقة الشرقية، إذ اجتذبت شهرتهن مواطنات دول الخليج، اللاتي أصبحن من الزبونات المداومات على بضائع البسطات الشعبية. وتذكر البائعة أم ناصر السهلي، أن «زبوناتنا من قطر والبحرين والإمارات، والقطريات هن الأكثر تعاملاً معنا، ويَصلنَ إلينا على رغم تنقلنا من مكان إلى آخر»، مضيفة أن «الطلب كبير على المشغولات اليدوية، وهن يفضلن الشراء منا على ارتياد المجمعات التجارية، التي تعرض ماركات عالمية. ولكنهن يطلبن بضائعنا الشعبية، وهذ سر بقاؤنا إلى اليوم، على رغم الصعوبات التي واجهتنا خلال العقود الماضية، وبخاصة ال10 سنوات الماضية». وتتنوع ظروف البائعات بين أرملة تعول أطفالها، أو مطلقة تحملت ظروفاً «لا تطاق» رافضة مد يدها إلى أحد، وبين زوجة تساعد زوجها المريض المُقعد، فتَحْتَ أكوام الملابس التي تبيعها هذه النسوة تختفي قصص إنسانية «مؤلمة». وتقول أم محمد العقيل، التي فقدت زوجها قبل 22 سنة، ولديها سبعة أبناء ربتهم من خلال عملها بائعة بسطة:»يبدأ عملي خلف البسطة من السابعة صباحاً، ويتواصل حتى ال12 ظهراً، إذ أغادر إلى المنزل، وأعود في الثالثة عصراً، وأستمر في البيع حتى ال11 ليلاً، وفي المناسبات يمكن أن أغادر عند الواحدة صباحاً. لكن مع ذلك فإنني أفتخر بهذا العمل، الذي أغناني عن ذل السؤال». ولا تختلف أم عدنان عن زميلاتها في المعاناة، إذ تقول: «على رغم التعب والألم، ففي بعض الأيام نرجع إلى البيت من دون أن نبيع ولا قطعة، كما أننا نشتري جميع بضائعنا بالدَين، إلا أن عملنا يُشعرنا بالفخر وهو وسام نعتز به، فمن خلاله استطعت أن أربي اثنين من أبنائي، وأنفقت عليهما حتى وصلا إلى الجامعة، فيما لا ينقص البقية شيء»، مضيفة أن «قرار تأنيث المحال النسائية جاء متأخراً جداً، بعد أن فقدت النساء خصوصياتها، وأصبحن مطمعاً للباعة الرجال، وبعضهم لا يخافون الله»، مؤكدة أنه سيترك «آثاراً إيجابية في عملية البيع والشراء، وسيدخل مبالغ كبيرة في خزينة تلك المحال». وانتقلت أم سعيد ببضاعتها بين أسواق عدة، فمن القيصرية القديمة، إلى الجديدة، ثم إلى سوق السويق، مروراً بالأسواق الأسبوعية المنتشرة في الأحساء، ما يجعل رحلاتها التجارية «مؤلمة وقاسية». وتقول: «في الوقت الذي كان الرجال يبيعون في مكان واحد، مُكيف وفخم، كنا نفترش الأرض، ونتعرض لأجواء الصيف الحارقة، وقسوة الشتاء البارد. إلا أن النساء الآن ستحتلّ مكان البائعين الرجال». البائعات يحصُلنَ على «سوق» بعد «معارك بالحجارة»