استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات ، خواطر وذكريات . لم يكن العلماء يتعيشون من علمهم ، فكل واحد له مهنة يستر بها حاله وينفق منها على عياله 11
نشر في الحياة يوم 27 - 08 - 1998

لم يعد الحمام هو المناسبة الوحيدة التي أرافق فيها أمي، هاهي تلبسني الثياب الأنيقة وتسرح شعري ، تصطحبني معها لزيارة أضرحة الأولياء والصالحين. زرت معها ضريح سيدي بوغالب، وكانت تحمل معها في كل مرة نقودا وزيتا، النقود للصندوق والزيت للمشكاة المعلقة في الضريح للاضاءة، ففي ذلك الوقت لم تكن الكهرباء قد عرفت طريقها إلى الانتشار، وكانت القناديل والشموع هي وسيلة الاضاءة. ومرة أهدت لضريح سيدي بوغالب خروفا. كما كنت أرافق والدتي لضريح مولاي ادريس وأجلس في المكان المخصص للنساء، وكنت أراها تقترب من الشباك في خشوع وتسترسل في الدعوات، كانت تدعو دائما بصوت مسموع أن يرزق الله ولدها وأهلها الصحة والعافية وأن ينعم على زوجها بالسلامة ويرزقه الخير، وتدعو للمسلمين بالعزة وأن يرفع الله كل ضيم عن أمة الاسلام وينصر المجاهدين وبعد ذلك كانت تلزمني أن أشرب قليلا من الماء المتدفق من النافورة في فناء الضريح، وأن أتناول قدرا آخر من نافورة باب الوفاء، ثم تلقي بدراهم في فتحة الصندوق وتضع عددا من الشموع تكون قد ابتاعتها من المحلات المحيطة بالضريح وهي شموع تختلف في أشكالها وأحجامها ويتفنن معدوها في تزيينها بالخطوط والمربعات والأشكال بألوان مختلفة، وكان منظر تلك الشموع وهي معلقة في المحلات المتراصة بالأزقة المحيطة بالضريح كأنه منظر حديقة تتدلى من اشجارها عناقيد مستطيلة مثقلة بثمار ملونة.
وفي شهر المولد يحضر أبناء الولي الصالح مولاي عبدالسلام بن مشيش دفين جبل العلم، إن عددهم يكون كبيرا: شيوخ وشباب ويافعون، يتميزون عن غيرهم بجلابيبهم الصوفية الفضفاضة قصيرة الأكمام، وبوجوههم ناصعة البياض وجمال هيأتهم، ويستقرون داخل الضريح وحوله طيلة خمسة عشر يوما يخرجون سلك القرآن آناء الليل وأطراف النهار يتقبلون الهدايا من زوار الضريح، فهم كلهم طلبة حافظون للقرآن الكريم وبينهم عدد ممن تنبىء هيأتهم وسماحة وجوههم بالتقوى والصلاح، ومنهم من يتعاطى كتابة "الحجب" وجميعهم يحظون بثقة واحترام رواد الضريح يطلبون منهم الدعاء الصالح، والبعض يسعى لديهم بما يعرف ب "الوعدة" أى ان تكون لدى الراغب حاجة يتمناها فيتواعد مع "الطالب" إن قضيت فله قدر من المال أو هدية ثمينة، وهكذا يتسابق الناس إلى إكرامهم ووفادتهم تعلقا ببركتهم أما الميسور من أهل فاس فيقيم للشرفاء المشيشيين مأدبة كبرى يدعو لها الناس فيقول للواحد منهم: "أرجوك أن تحضر عندي لأن اليوم سيكون في بيتي أولاد مولاي عبدالسلام"، كان الناس يلتمسون فيهم الخير لأنهم شرفاء وحفظة للقرآن عرفوا بالتقوى والصلاح والاستقامة، وكان أكثر قاصديهم للبركة والدعوات من النساء يصطحبن معهن ابناءهن وبناتهن عقب صلاة المغرب، تأتي المرأة تحمل هديتها النقدية داخل قطعة قماش فتسلمها "للمقدم" وهو عادة يكون أكبر الطلبة سنا وأغزرهم استظهارا وحفظا للدعوات والابتهالات، فيفك المقدم قطعة القماش ويتناول ما بها فاحصا قدر الهدية ويشرع في إلقاء الدعوات لصاحبتها فيما يردد الطلبة عند نهاية كل دعاء بصوت واحد "آمين".
اصطحبتني والدتي لعيد المولد، وحملت هديتها إلى المقدم، وأمسكت بكفي تقدمني إليه فسحبني برفق داخل دائرة الطلبة، وقالت أمي مخاطبة إياهم:
ادعو لهذا الولد.. فهو وحيدي.. ادعو له بالعلم والصحة والخير.
وشرعوا يدعون لي، وكنت أشعر وأنا وسطهم بفرحة كبيرة، وكانت والدتي ترجع معهم الدعاء وكفاها مشرعتان إلى السماء تتدلى من إحداهما سبحتها التي لا تفارقها، وكانت عادة والدتي أن تظل بالضريح إلى أن تصلي العشاء فتقفل راجعة بي يعلو وجهها البشر فتحكي في البيت لوالدي كل ما رأته وسمعته وتقول لي:
لقد دعا له شرفاء مولاي عبدالسلام، ونال بركتهم.
وكما رافقت والدتي لزيارة ضريح مولاي إدريس ومقامات الصلحاء والأولياء في مدينة فاس، رافقتها في زيارات قبور أقاربنا، كانت تذهب كل جمعة للترحم على أقاربها خصوصا قبر أخيها المرحوم خلف الله، فكانت كما جرت العادة في مثل هذه الزيارات تدعو بضعة طلبة لتلاوة القرآن الكريم. كانت ذكرى أخيها لا تفارق مخيلتها فقد مات شابا عزبا، وكان على قدر كبير من العلم والاستقامة، وكان عزاؤها أن كانت تقول لي:
إنك تشبه خالك خلف الله.. جعلك الله أطول عمرا منه.
وأذكر أن ألما ألم بي في تلك المرحلة من صباي في خاصرتي فأخذتني والدتي عند سيدة متطببة بدرب النجارين، وحكت لها ما أصابني مرشدة إياها إلى مكمن الألم في خاصرتي، فأخذت تلك السيدة قطعة من طحال طري وعجنته بكفها فوق قطعة قماش ووضعت العجينة على موضع الألم وربطته بقطعة أخرى لفت بها جسدي وقالت لها:
سأجدد له "الملزم" بعد يومين ولن يعاوده الألم بحول الله. وبعد يومين نزعت "الملزم" وجعلتني أشيح بوجهي حتى لا ارى ما ستفعل بي، وإذا بها تكويني بعود شجر دفلاء مشتعل فتصدر مني صرخة استغاثة، وما أذكر أن ذلك الألم عاودني بعد ذلك ابدا، وأعطت والدتي للسيدة المتطببة ما تيسر من "الفتوح"، ذلك لأنها لم تكن تمارس هذه المهمة سعيا وراء الربح أو تمتهنها بل عرفت بالبركة، وتفعل ما تفعل لوجه الله وتترك لأريحية أهل المريض مهمة إكرامها.
كانت العجائز المتطببات كثيرات في فاس في ذلك الوقت وكانت أوسعهن شهرة المعلمة القوادبية، وعرفت بالاختصاص في معالجة الأمراض النسوية، وكانت تستقبل زائراتها في بيتها أما من أراد ان تحضر إلى البيت لمعالجة زوجته أو إحدى قريباته فعليه أن يبعث للمعلمة البغلة المسرجة، تمتطيها في أبهاء وتستقبل بالحفاوة والتكريم.
فقهاء أطباء
كان ابن الأحمر فقيها ذائع الصيت في مدينة فاس، كان طبيبا من نوع آخر، وصفته كتابة "الحروز" كان يسكن بدرب الخطار في دار متواضعة وكان لديه كتاب مسيد بالرحيبة، كان متخصصا في كتابة الحرز للأطفال، والأمهات يقصدنه لذلك. حكت لي امي انني مرضت وأنا طفل صغير مرضا مخيفا اشاع الذعر في صدرها وصدر والدي وحزنت الأسرة كلها، وقالت أن شفائي تم على يديه، وأن له بركة لا تخطىء، ولذلك كانت ترافقني من حين لآخر لزيارته، ولمدة طويلة في طفولتي كان جيدي محملا "بالحروز" التي كتبها لي الفقيه ابن الأحمر، وكانت والدتي كلما زارته حملت إليه السكر والزنجلان وبعض الدراهم تكريما له واعترافا بفضله، كان محبوبا أليفا وداره لا تفرغ من الزائرين والزائرات، وعرف عنه أنه إذا لم يكن بداره كلف زوجته بإعطاء حروز يكتبها لمختلف الحالات فتسلمها وتأخذ المال، ولكن الحازمات من النساء لم يكن يقبلن ذلك بل يطلبن مقابلة الفقيه شخصيا بلا واسطة.
كانت رحلاتي مع الوالدة لمختلف هذه الأماكن رحلات استطلاع وتعرف واكتشاف. وهي في الحقيقة رحلات ذات أثر تربوي بالغ، إن دور أمهاتنا لم يكن مقصورا على ما يعرف بأعمال البيت، إن دورها كمربية كان دورا عظيما وخاصة بالنسبة للبنات، وكان الرجل يقدر هذا الدور حق قدره ويمنح لزوجته كل وسائل قيامها بدورها التربوي، فهي سيدة لها كلمتها المسموعة في التوجيه والتربية. فهي التي تتولى "قيادة" أطفالها في المرحلة المبكرة من أعمارهم، تعلمهم، تؤدبهم، تلقنهم أصول وقيم وأخلاقيات المجتمع، ويتولى الأب بعد ذلك قيادة الطفل في مرحلة تكوين شخصيته في الاتجاه الذي يكون مؤهلا له.
وحينما لاحظت والدتي بحسها التربوي المرهف أن ابنها بدأ يعي، ويميز، قررت انها باستطاعتها أن تكلفني ببعض المهام دون حاجة إلى أن تكون معي، وهكذا طافت بي على المعلمة التي تصنع "القيطان والعقد للسفيفة1"، والمعلمة التي تخيط "القفاطين"، والمعلمة "الرشامة" وهي التي ترسم الزخاريف على المناديل والأزر والمخدات قبل طرزها، وأخبرت الجميع أن الله أنعم عليها بولد فطن ومؤدب وهو من الآن فصاعدا سيتولى مهمة الاتصال والوساطة، وبالطبع سيكون مرفوقا بالخادمة زهراء!.
المرأة الفاسية
وحينما شرعت مسرورا في أداء هذه المهمة اكتشفت الوجه الآخر لفاس، إنه وجه المرأة الفاسية، هذه المرأة في ذلك الوقت كانت عبارة عن نحلة لا تكف عن الحركة والانتاج، فلم تكن عاطلة ولا خاملة لانها "سجينة" البيت، بل كانت تقوم بدور خلاق منتج فعال في العملية الانتاجية المتكاملة للمجتمع الفاسي، فالبيت كان بمثابة معمل، في كل بيت صناعة ومهنة وصانعات ومهنيات، ولم يكن إنتاج المرأة مقتصرا على ما تحتاجه هي للباسها أو لأثاث بيتها، بل كانت تنتج الكثير مما يحتاجه سوق الاستهلاك خارج بيتها إما لفائدة الزوج في صناعته أو مهنته وإما لجهة أخرى، وهذا ما يفسر المستوى الرفيع والأصيل والجميل والدقيق الذي بلغته كثير من المنتوجات اليدوية في فاس وخاصة ما يتعلق منها بالمنتوجات النسيجية. إن جميع الصناعات التي عرفت بعد ذلك بالصناعات التقليدية كانت مشاركة المرأة في إنتاجها مساهمة كبيرة، فالأحذية والسروج والمناطق هي التي تتولى تطريزها بالخيوط الفضية والمذهبة، وهي التي تصنع الجدائل لجلاليب الرجال وقفاطين السيدات، وهي التي تخيط الثياب وخاصة الألبسة التي يقتنيها فلاحو الناحية حينما يستبضعون من أسواق فاس، وهي الماهرة في غزل الحرير وتصفيته وتحويله إلى خيوط دقيقة.. وكل هذا كانت تفعله المرأة الفاسية وهي وراء حجاب، يأتي المعلم لباب الدار فيقرع مناديا بحاجته، فتخرج المرأة وتظل مختفية وراء الباب، وتتم عملية البيع والشراء والتفاهم على البضاعة، وفي بعض الحالات يتم الحوار بين طرفين بواسطة طفل أو خادمة، وكنت أحيانا أكلف من طرف إحدى جاراتنا بمهمة نقل الحوار ويكون أجري على ذلك حبة حلوى فنيدة.
في الحارة
هاأنا أجتاز عتبة باب منزلنا لوحدي... لا أرافق والدتي وهي ممسكة بكفي وخطواتي الصغيرة تشبه قفزا للعصافير الباحثة عن حبات الزرع في ثنايا الأحجار المتناثرة فيما عيناي تختزنان الصور، والوجوه، والأشياء، والفضاء الضيق بين الدروب والأزقة.
ها أنا أنسل من داخل الدار وزهراء منشغلة داخل المطبخ.
إن أصوات أطفال الحي وهم يلعبون ويركضون ويحدثون جلبة تتناهى اصداؤها كل يوم إلى سمعي تثير في نفسي رغبة جامحة في أن أكون بينهم... أشاركهم ألعابهم!.
لاشك أن والدتي حدست ما يعتمل في صدر طفلها من رغبة حبيسة، وهي بفطرة الأمومة وشفافية حسها التربوي لا تريد قمع هذه الرغبة، وفي نفس الوقت فهي مشفقة على صحة وحيدها، فقد كنت نحيف الجسم هش الأعصاب قابلا للكسر والأعطاب والاصابات، وكان العالم يبدو لها خارج أسوار بيتها غابة من المكامن المميتة، ففي الدرب أحجار وحفر، وقريبا من بيتنا سقاية مخيفة، وقد يدعوني طفل إلى بيته فيكون بالبيت بئر. إن السقاية والبئر تمثلان لها صورة مفزعة، فقد مات أحد إخوانها غرقا في سقاية الدار، ومات لعمي محمد ولد غرقا في بئر، وفاس مدينة يسكنها النهر، ويخترق هادرا أحياءها وحواريها، ومع النهر توجد مئات الينابيع لا يعرف أحد من أين تأتي، ففي كل دار متنفس لها تصدر من خلاله خريرها الذي لا ينقطع.
مغامرة الاكتشاف
خرجت من الدار... وبدأت مغامرة الاكتشاف. اجتزت الدرجات الحجرية لباب بيتنا، هاهو الدرب أمامي، هاهم الأطفال في سني وأكبر مني. هاهو العالم المجهول الواسع... المتنوع المحفوف بالاغراء والمتعة والانطلاق.
وقفت شبه خائف، شبه متحفز، رأيت الأطفال يلعبون غير مهتمين بهذا القادم الجديد إليهم، كانوا يلعبون لعبة "الخدروف" ويتبارون في شكله وعوده، هذا مصنوع من شجرة الدفلى، والآخر مصنوع من البردع، هذا شوكته ملساء والآخر شوكته حادة، إنهم يتسابقون في هذه اللعبة. مجموعة أخرى كانت منهمكة في لعبة "تفريق النصارى"، وآخرون يلعبون "سبت سبوت" أو "طابت الفولى" أو "دجاجة قشقاش". أعجبت بهذا العالم، عالم الدرب، ولكني توجست خيفة أن أنغمر معهم في لعبهم وتذكرت ما حدث لي ذات يوم، ذلك أني خرجت وحدي فتدحرجت رجلاي فوق الدرجات الحجرية لبيتنا وتفككت قدمي فنقلوني إلى رجل عرف بجبر العظام فوضع جبيرة على مكان الفك مصنوعة من الخل والنخالة وظللت أعرج لأيام حتى التأم كسري.
وتوالى خروجي إلى الدرب، وبدأت أشارك أطفال الحارة ألعابهم، ولكن بسبب ضعف بنيتي ولأن والدي كان يراقبني من بعيد، فاني لم أكن في براعة أصحابي وخفة حركاتهم وتفننهم في اداء تلك الألعاب. وكان والدي حينما أعود إلى البيت لا يفتأ يزجرني في رفق وينصحني بالكف عن مشاركة الأطفال ألعابهم، كان يرى أن مثل تلك الألعاب مفسدة للأخلاق، وأن بعضها من قبيل القمار المحرم، وأنه لا يليق بأبناء العلماء والفقهاء أن يلعبوا مثل تلك الألعاب لأنها تجلب السمعة السيئة لهم وتخدش علو مكانتهم بين الناس. ولكن بالرغم من كل ذلك كنت أتحين الفرصة من حين لآخر لألعب قليلا، وفي كل مرة اكتشف عجزي عن مسايرة زملائي في ألعاب تتطلب جسما قويا وخفة وبراعة، ولهذا، ورويدا رويدا اكتفيت بالمشاهدة مفتونا بالعالم الذي خرجت إليه.
في الدرب صور ومشاهد كثيرة أخرى كانت محل اهتمامي وملاحظتي، فمن حين لآخر، وفي فترة الصباح يمر ذلك الفتى الأشعث صائحا "العجين... العجين"، إنه "الطراح" أي الفتى الذي يمر على الدور لجمع الألواح الخشبية التي توضع عليها أقراص الخبز "الوصلة" والتوجه بها إلى فرن الحومة.
ويمر البراح بالدرب صائحا "يامن رأى طفلا أو طفلة من نعته أو نعتها كذا وكذا يأخذ البشارة والامارة، والرجوع إلى الله أيها المؤمنون". وحينما أعود للبيت وأحكي لوالدتي ما سمعت ورأيت تنتزعها فرصة فتقول لي: "رد بالك. لا تبتعد عن باب البيت، إن طفلا ابتعد عن داره فضاع وتلف وهاهم يبحثون عنه".
مرت مدة ومجال تحركي محدود، باب بيتنا وإطلالة على الدرب دون المغامرة أكثر من ذلك، وما العمل ووالدي غالبا ما يكون بمسجد درب الشيخ جالسا ببابه يراقب المارة ويتبادل الحديث مع أصحابه، ومن الصعب الإفلات من مراقبته إذا عزمت على اجتياز حدود الدرب، وحتى إذا استطعت اجتياز هذا السد بمعونة أحد أطفال الحي للتأكد من أن والدي خارج المسجد، فإن سيدي العدوي وعمي حمدون يكونان دائما بالمرصاد لكل خارج من الدرب، فليس لديهما ما يجعلهما يبتعدان عنه، فالأول شيخ طاعن في السن ولكنه حاد النباهة والانتباه محبوب لدى الجميع، يعيش على الهدايا التي يقدمها له سكان الحي، أما الثاني فكان رجلا محتكرا، تاجرا ماكرا، يدخر الزرع والقطاني والسمن والزيت والعسل، فيقتني هذه البضائع حينما تكون متوفرة ورخيصة، وحينما تدلهم ليالي الشتاء وتنكفىء على مخزونها يظهر بضاعته فيبيعها بالثمن الذي يريد، وهكذا فإنك تراه مرابطا بمتجره مطمئنا لحاجة الناس إلى بضاعته. كيف لي إذا باجتياز هذا السد الثاني والرجلان يكنان لوالدي الاحترام والتبجيل ولابد أنهما مخبراه بي إن اجتزت حدود الدرب. لابد من الحيلة إن نفعت، وإلا فالتمرد هو الحل الوحيد، وهكذا أقدمت على الفرار مرارا واجتياز حدود الدرب والنفاذ منه الى عالم آخر في مجاهل فاس الغامضة.
هاهو المكان المسمى "الوسعة" حيث تلك الشجرة الباسقة المتشابكة الاغصان المخضرة، تلك الدالية الناشرة أذرعها في كل مكان، والسقاية وحركة لاتفتر بالمارين. كانت الوسعة ولاتزال أجمل في عيني من أي ساحة شاهدتها في العالم، ولم تكن بالنسبة لي في ذلك الوقت وأنا أكتشفها وأتردد عليها بشوق ولهفة مجرد مكان فسيح، فقد كانت مكانا مغريا، ففيها بائع الحمص والنبق والذرة، وهي المكان الذي تبيع فيه "أمي راضية" النعناع، تلاطف الأطفال وتقدم لهم وردة أيام الربيع، وفي الوسعة بائع الهندية "التين الهندي"، وبائع البطاطس الرومية الحلوة المسلوقة، وفيها صفوف من الحوانيت وقد رصت بأبوابها علب الحلوى والشكلاطة التي يسيل لها لعابنا، وفيها الفران وصاحبه المعلم الخميري بعمامته الفخمة وجسمه العريض لا يفتأ عن إصدار الأوامر والنواهي للعاملين في فرنه وللذين يأتون وراء خبزهم على السواء. تراه يفحص الخبز فيما إذا كان قد اختمر أو ما زال. ومن حين لآخر يصب كمية من مسحوق النشوق في رسغ كفه ويستنشق بعمق وتلذذ ثم ينفض ما تبقى فيصفو مزاجه ويرتفع صوته.
مقدم الحومة
وفي الوسعة مركز العسة يتصدره مقدم الحومة ويقف غير بعيد عنه العسس الذين يعملون تحت إمرته، كان مقدم الحومة مهيبا وكلمته نافذة، لم يكن له ولا لحراسه سلاح، وانما سلاحه هو تلك القوة الخلقية التي كانت تضبط علاقات الناس ومعاملاتهم، وذلك القانون النافذ الذي هو الاحترام والاستقامة، لذلك فإن مهمة المقدم كانت تكتسب قيمتها وهيبتها من أنه بدوره كان عنصرا مندمجا في مجتمعه محترما لتقاليده أمينا على أن يبقى ذلك الاحترام هو الحد الفاصل بين القانون والفوضى، وكانت صورة هذا المقدم هي الصورة المثلى لأيام المخزن المستقل، وكانت أمور الحي مستقيمة، لا فساد، ولا سرقة، فالمقدم وبضع عسس كانوا كافين لتمثيل هيبة القانون وحرمته. وفي الليل كان هناك ما يعرف ب "البياتة" أي حراس الليل وهم نفر من الرجال منحدر أغلبهم من أولاد سيدي عيسى بناحية المغرب الشرقي، كانوا في النهار يمارسون مهنة "الحمالة" وفي الليل حراسا، وكانوا موزعين على نقط معروفة بالمدينة، إن المشاجرات التي تحدث أحيانا بين الناس والخلافات التي تفرزها المصالح المتضاربة كانت تتم تسويتها بتدخل ذوي المساعي الحميدة، وغالبا ما كانت المصالحة هي خاتمة الخلاف ذلك أن الوازع الديني كان عميقا وقويا. فالمسجد والصلاة جماعة. ودروس الوعظ والارشاد. ومصداقيةالسلوك والمواقف كان أثرها بارزا في تلاحم المجتمع وتآلفه وغلبة المحبة والتضامن بين أفراده، وكنا نحن الأطفال نحس بتلك الرعاية الحميمة التي يحيطنا الكبار بها، وفي نفس الوقت كنا نتلقى من آبائنا وأمهاتنا الموعظة التي تحثنا على احترام من هو أكبر منا، وعلى الاحسان إلى الضعيف والمعوق وتجنب الاذاية أو إلحاق الضرر بالممتلكات العامة أو جني الثمار من أشجار الغير. لم تكن جولاتي بعيدا عن الدرب لتخفى عن العين اليقظة لوالدتي ووالدي. ولكنني كنت حريصا على أن أعود إلى البيت وليس على مظهري أي أثر من آثار تلك الجولات من أتربة عالقة أو رضوض في السيقان أو وسخ يغطي الوجه، وأدركت فيما بعد أن أخباري كانت تصل أولا بأول لوالدتي ووالدي من طرف الاقارب الذين كنت ألتقي بهم هنا وهناك فينفحني أحدهم قطعة نقود ويشتري لي الآخر حبة حلوى أو قرطاسا من الورق محشوا بالحمص أو النبق أو الذرة، ولاشك أنهم كانوا ينقلون عني أخبارا سارة.
بدأت أكوِّن أصدقاء نسير سوية في قوافل صغيرة، نتبادل الحلوى والمنافع، وبدأنا نحفظ بعض الاغاني ونرددها، وبينما نحن نغني يوما ما في مكان قريب من مقر الحومة إذا بنا نراه يقفز من مكانه ويهرول تجاهنا آمرا العسس الذين معه بمطاردتنا. فركضنا كالأرانب في اتجاهات مختلفة قاصدا كل واحد منا بيته مذعورا، وماهي إلا فترة وجيزة ويقرع الباب مقدم الحومة صائحا: "ربوا أطفالكم" وكذلك فعل ببقية الدور وجاء والدي يحكي القصة: ".. إن الأطفال كانوا يرددون نشيدا وطنيا يقولون فيه: "أعسكر بطاطا ما فيكم كوراج.. عبدالكريم غلبكم وعملكم كالدجاج". سألتُ والدتي لماذا طاردنا المقدم ومنعنا من الغناء؟. ربتت بكفها على كتفي وهي تقول: "ياولدي إنك صغير وعندما تكبر ستعلم". كانت هذه أول مرة أسمع فيها اسم عبدالكريم الخطابي لم أدرك ماذا كان يعني ذلك، ولكني حدست أن الأمر ينطوي على خطورة، وأن عبدالكريم هذا لابد أن يكون رجلا قويا ليخاف منه المقدم، وحينما التقيت مع رفاقي في اليوم التالي تحدثنا في الأمر، وانتحينا زاوية من الدرب وأخذنا نردد النشيد في همس حتى لا يسمعنا أحد، وفي البيت كنا نردده أيضا ولكن بصوت مسموع. أصبح خوفنا من المقدم له ما يبرره هذه المرة، لذلك بدأنا نتجنب الأماكن التي يكون فيها ونبتعد عن طريقه ونحس تجاهه ببغض دفين، فقد منعنا من ترديد أغانينا كما كنا نفعل سابقا، وطرق أبواب بيوتنا يؤلب آباءنا علينا، كانت حكايات "للا رحمة الله" و "الغول" و "عائشة قنديشة" هي التي تثير في نفوسنا ذلك الخوف الغريزي المبهم من الأشياء المجهولة والمتخيلة، أما الآن فإن المقدم هو غول حقيقي نراه ونعرف وجهه ومكانه والقوة الجبارة التي يتوفر عليها. لقد نغص هذا المقدم علينا أنسنا وفرحتنا وحريتنا وحرمنا من التجول بحرية في الوسعة.
لم يكن مقدم الحومة وحده ينغص حياتنا، فهناك شخصية الحجام، كان من عادة الحجامة أن يطوفوا بالبيوت لحلق رؤوس أبناء زبائنهم، وكانت الخادمة تقودنا إلى هذه المجزرة الرهيبة فتجلسنا على عتبة الباب وتمسك بأكفنا. وتبدأ عملية الحلاقة الدموية، بتبليل الرأس بالماء ودهنه بالصابون، ثم تغوص أصابع الحجام القوية داخل الشعر في عملية دلك قاسية حتى يشعر أن فروة الرأس قد غدت رخوة كلفافة قطن مبتلة، ويشرع في عملية الحصاد بموسى غير نظيفة، الطفل يصيح، والدماء تسيل وتتقاطر، والحلاق يباشر مهمته في صمت كما يفعل الجزار بخروف. وحينما تنتهي هذه المجزرة يكون رأس الطفل قد غدا في وضعية يرثى لها. كان الحجام يثير ذعرنا، وكان الخدم ورجال الأسرة يصطادوننا ويقدموننا فريسة للحجام الذي لا يرحم. كان داء القرع منتشرا بفاس وكان سببه المباشر موسى الحجام غير النظيفة، ولم يختف ذلك الداء إلا بعد أن بدأ الحجامون يستعملون الآلة الجزازة وينظفونها بالبنزين.
1 الخيوط الذهبية التي تحاك بها ملابس فرح المرأة
* تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.