دعا عضو مجلس الشورى السعودي المتخصص البارز في علوم السنة الدكتور حاتم العوني الشريف إلى التفريق بين البدعة والمبتدع في التعامل. وحذر من أن المبتدع المنبوذ أحياناً بين أوساط أهل السنة قد يكون أقرب إلى الله من الفاسق المرتكب لبعض كبائر الذنوب،"فأهل البدع وأصحاب الفسق طائفتان مخالفتان لأهل الحق". وتناول أقوالاً عدة لأئمة وعلماء في الماضي ذهبوا إلى الذي طالب به، لكنه نبه إلى أنه لا يدعو إلى مساواة المبتدعة بغيرهم ولا إلى السكوت عن ممارساتهم الخاطئة، ولكن إلى"العدل في النكران عليهم وموافاتهم حقوقهم التي كفلها لهم الإسلام". وأكد في بحث مطول له بعنوان:"التعامل مع المبتدع بين رد بدعته ومراعاة حقوق إسلامه"أنه"يجب التفريق بين البدعة وصاحبها: فالبدعة نُشَدّد في بيان منافاتها للشريعة، ونبذل غاية الجهد في إبطالها، ولا تبرأ الذّممُ بغير ذلك. وأما المبتدع فَيُتعامل معه على أنه مسلم، وما دام مسلماً فله الحق العامّ للمسلم على المسلم، ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بقدر ما يدفع إفسادَه أو يستوجب استصلاحُه، من دون تجاوز هذا الحدّ، ومع حفظ بقية حقوقه. وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية:"فالرادُّ على أهل البدع مجاهدٌ، والمجاهدُ قد يكون عدلاً في سياسته، وقد لا يكون. وقد يكون فيه فُجُورٌ..."، فما كلّ رد على أهل البدع يُحْمَدُ صاحبُه"إلا أن يكون متقيِّداً بقيود الشريعة". وأشار إلى أنه خلاف العدل"الإقرار بأن المبتدع مسلم، أو معذور في تأوله كما هو الأصل، ثم نحرمه بعد ذلك من حقوقٍ جاءت النصوص بإثباتها له، هي حقوق المسلم على المسلم, ثم نُعارضها بفهمٍ سقيمٍ وانتقاءٍ ظالمٍ من أقوال السلف أو أفعالهم". بل إن الشريف ذهب إلى ما هو أبعد، عندما لفت إلى أن"المبتدع قد يكون أقرب إلينا وأحب، بل قد يستحق من الإجلال والإكرام، ما لا يستحقّه السنّي الفاسق"فإن البدعة والفسق كليهما خلافُ المنهجِ النبويِّ وخلاف السنّة، فلا يصح أنْ أُقدّمَ الفاسق بوصفه أنه سني مطلقاً على صاحب البدعة بإخراجه عن دائرة أهل السنة بوصفه أنه بدعي. فالتقديم والتأخير بين صاحب البدعة والفاسق يجب أن يكون مبنياً على مقدار ما عند كل واحدٍ منهما من الخير والشرّ. ومن الخطأ المنتشر بيننا تصوُّرُ أن شرَّ المبتدع مطلقاً أعظم من شر الفاسق". وبرر الشريف ما رجحه بأنه"إذا كانت البدعةُ تحرِّفُ حقائقَ الدين، فإن المعاصيَ والانغماسَ في الفسوق يؤدّي إلى الجهل بحقائق الدين، ليؤدّي ذلك إلى إعراضٍ عن حقائقه، إعراضٍ قد يصل إلى درجة الكفر. كما قال أحدُ الزهاد وكثيرٌ من العلماء: المعاصي بريدُ الكفر، فلا فرقَ كبيراً من هذه الجهة بين المعاصي والبدع! خصوصاً في زمننا، عندما أصبح نَشْرُ الفساد العملي أقوى وأظهر من نشر الفساد الاعتقادي، وبصورة أبشع من كل مراحل التاريخ السابقة، وعلى وجه مرتبطٍ بمَحْوِ حضارتنا الإسلامية، من خلال إحلال القِيَمِ الغربيّة محلَّها. أعود فأقول: لم يَعُدْ هناك وجهٌ لتقديم خطورة البدعة مطلقاً على المعاصي المُمَنْهَجَةِ المُهدَّفة في زماننا خصوصاً, فلا يصحُّ أن يكونَ موقفُنا من أهل المعاصي وهم معاندون مُسْتَخِفّون بالحرمات أخفّ من موقفنا من صاحب البدعة، كما يستلزمه وَصْفُ الفاسق غير المتلبِّس ببدعة عندنا: أنه سُني، والمبتدع بأنه: ليس منا: ليس من أهل السنة". وتساءل:"إلى متى نغلو في إسقاط حقوق أصحابِ البدع المسلمين، ونَنْسَى أن إسلامَهم قد جمعنا بهم على دينٍ واحد ماداموا مسلمين، وأن اختلافَهم معنا لم يُخرجْهم عن أن يكونوا مِنّا، في الدنيا والآخرة، وأنهم مثلُنا في عدم حِرْمانهم من رحمة الله وفي أنهم غيرُ مخلّدين في النار، وأنهم بذلك يستحقّون من حقوق الأُلفة والأُخوّة في الدنيا بقدر ما اجتمعنا معهم فيه من أجلِّ وأعظمِ أمورِ الآخرة! فكيف إذا كنّا في مواجهة خَصْمٍ ليس منّا ولا منهم، خصمٍ لا يُريدُنا ولا يريدُهم، فيأكل هذا الخصمُ بعضَنا ببعض"؟ ووجه نداء إلى أهل السنة قائلاً:"يا معشرَ أهل السنة: قولوا الحق، ورُدّوا على الباطل"لكن لا تَسْلُبُوا مسلمًا حقَّه الإسلاميَّ العام، ولا تقدّموا من يستهينُ بحرمات الله على من يعظّمها، ولو ضلّ فابتدع، ما دام معذوراً مأجوراً"أفنقدّم المأزور على المأجور أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }القلم:35-36}. يا معشر أتباع السلف: ليس من منهج السلف تقديمُ ناشرٍ للخنا والزنا والربا"لأنه غير متلبِّسٍ ببدعة، على عالم فاضل عابد مجاهد، لأنه تلبّس ببدعة، لأنّ شرّ الثاني ليس مطلقاً أعظمُ من شرّ الأول، بل ربما لم يكن بينهما تقارب. وإلا فهل يستطيع أحدٌ أن يقدّم بعض من أقام بيوت الخنا والربا من كبار الفُسّاق في زماننا على العز ابن عبدالسلام أو تقيِّ الدين السبكي أو الباقلاني أو الأشعري لمذهبهم العقدي؟! إن كنّا لا نُحسن استخدامَ تقسيم الناس إلى سُنّي وبدعي، إلا على ذلك الوجه الظالم الجائر، الذي ليس من منهج السلف، فخيرٌ لنا ألا نستخدمه. وقد بيّنتُ آنفاً أن استخدامه المصلحي مبنيٌّ على أمرين: التشديد في التنفير من البدعة نفسها، وألا يُتَشَدَّد مع صاحبها إلا بقدر ما يدفع إفسادَه، مع حفظ ما لا يُهدَرُ من حقوقه، وألا يقودنا هذا التقسيمُ إلى تقديم صاحب الشرّ الأعظم كمَرَدَةِ الفُسّاق على صاحب الشر الأخف كالعالم الصالح المبتدع، وكما لم يُلْغِ فسقُ الفاسق حقَّهُ الإسلاميَّ العامّ إلغاءً مطلقاً، فكذلك لا يُلغي الابتداعُ حقَّ المبتدعِ المسلمِ في الحقِّ الإسلاميِّ العامِّ الإلغاءَ المطلقَ". وانتهى إلى مطالبة المسلمين عموماً والدعاة خصوصاً، بقراءة ندائه"بعمق وتعقل"، داعياً إياهم إلى إدراك أنه"نداء محبّ شفيق، ومن عاش مع السنّة حتى جاوز الأربعين، لكنّنا نمرّ بمرحلةٍ خطيرة، تستوجب المحاسبة والنقد وتصحيح المسار، وتستلزم إقامة العدل، الذي لا قوام لأمّةٍ من دونه. وإن ظَلَمَنا المخالفين لنا، فإن الظلم لا يُدفع إلا بالعدل، كما لا يُدفع الباطلُ إلا بالحق! ولا يعني ذلك عدمَ دفْعِ الظُّلم ومُصاولتِهِ، لأن العدل هو: ردُّ المظالم، والانتصافُ للمظلوم والانتصارُ له، والأخذ على يد الظالم وردعُه، لكن من دون تجاوز حدِّ العدل. وهذا حُكم السُّني والبِدعي، من ظَلَمَ منهما أو ظُلِمَ .والله هو المستغاث، وإليه الملجأ في نصر هذه الأمّة".