إشارة إلى تعقيب عدد من العلماء على البحث الذي نشرته حول التفاضل بين اللغات في صحيفة"الحياة"وغيرها، يسرني أن أتقدم بالشكر الجزيل لجميع الذين عبروا بعاطفة صادقة عن محبتهم وغيرتهم الشديدة على لغتنا الحبيبة، وكان دافعهم الوصول إلى الحقيقة، فسجلوا على صفحات الصحف ما بدا لهم أنه الحق، فلهم الشكر والتقدير والثناء، راجياً الله أن يثيبهم على عملهم. ولأن الله سبحانه أمرنا في كتابه الكريم بأن نعبده على علم: فاعلم أنه لا إله إلا الله. وقال تعالى: إلا من شهد بالحق وهم يعلمون. لذا كان لزاماً علينا أن نلتزم أمره سبحانه، فنعبده على علم لتتحقق لنا غايتنا الأسمى في الحياة الدنيا والآخرة، وهي مرضاة الله عز وجل، وانطلاقاً من هذا الأمر تعرضتُ لموضوع الخيرية، وأبديت رأياً لعلماء فضلاء سابقين، وطلبت من العلماء والباحثين الكرام أن يعيدوا النظر في قراءة النصوص لإثبات رأي القائلين بأن التفضيل أمر شرعي أو نفيه، بخلاف التفضيل الذاتي الذي لا جدال فيه، وبعد تلك الردود التي أتمنى أنها قدمت صورة واضحة للقراء الكرام، يسرني أن أبدي بعض الملاحظات على تلك الردود، وكلي أمل بألا يستفز ذلك أحداً من المؤمنين، فالقصد - ويعلم الله بذلك - هو الوصول إلى الحقيقة، والآراء والأفكار المشتهرة هي آراء بشرية غير معصومة، وإعادة النظر فيها وتحليلها أمر غير مستنكر، بل هو من صميم شرعنا المطهّر، ولا ينبغي أن ننفعل حين يتعرض لها أحد بكل أدب واحترام وتقدير، فأقول: لقد أكد الكرام ورسّخوا بعض قناعاتي التي أعبر عنها باستمرار، ومنها أن الكثير منا تشبَّع بآراء وأفكار بشرية هي نتيجة اجتهادات قابلة للخطأ والصواب، والقبول والرد، واعتبرها البعض حقائق لا مجال لمجرد تدبرها، ناهيك عن التشكيك فيها، أو بسطها على مائدة البحث للنظر فيها وفي أدلتها، وهو أمر أكَدَتهُ لي جملة من الاتصالات التي تلقيتها من أساتذة فضلاء، ولعمري فإن منهج إلباس الاجتهادات ثوبَ العصمة منهج خاطئ غير سديد، فكل شخص يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، ولهذا الأمر جعلت مدار البحث الذي نشرته حول لغة أهل الجنة والتفاضل بين اللغات على الدليل، وقلت بالحرف:".. غير أن النهج الذي ارتضيناه لأنفسنا أوقفني عن قبول العبارة بإطلاقها، وهو النهج السلفي القويم الذي يطلب الدليل لأية مسألة شرعية، وإلا غدت القضية ادعاءً حتى يحضر الدليل القطعي الذي هو الحكم الفصل...". وعنيت بالقطعي الدليل الصحيح الثابت، هذا هو المنهج الحق، أما المنهج الآخر الذي هو قبول المشتهر من الرأي من دون طلب الدليل فهو في اعتقادي منهج يلغي دور العقل والتفكر والتدبر في أقوال وآراء السابقين عليهم شآبيب الرحمة والرضوان، ولا أشك في أنه منهج ضل به أقوام كغلاة الصوفية والباطنية وبعض طوائف الشيعة وثلة من القادة السياسيين وغيرهم، الذين أخذوا أقوال وآراء أئمتهم وشيوخهم وعلمائهم نصوصاً مقدسة، منحوها العصمة وألبسوها التقديس، وأكدوا أنها لا تقبل النقاش ولا الرد، وهو منهج ممقوت - كما ذكرت - بحمد الله عند أهل السنة والجماعة، ثبتنا الله على نهجهم، فهم الذين تميزوا على غيرهم بطلب الدليل الشرعي للمسائل الشرعية والعلمية، وسلفنا - رحمهم الله تعالى وأجزل لهم العطاء - لم يقصروا في البيان، ولا ألغوا عقولهم، بل تدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه السلام، وأعملوا فيهما الفكر، فحللوا النصوص، واستنبطوا الأحكام، وتحاوروا وتناقشوا، وردوا على المخالفين بالدليل، فحازوا قصب السبق بلا شك، وتركوا لنا تراثاً عظيماً سميناً لا يخلو من غث، فيه الصحيح ودونه، غير أنهم لم يدَّعوا يوماً أن المتقدم لم يترك للمتأخر شيئاً، ولا قالوا يوماً عن كتاب ربهم إنه يَخْلَقُ على كثرة الرد والعياذ بالله، بل قالوا لا تنقضي عجائبه. وقالوا إن الناظر فيه المتدبر له يجد كل يوم ما لم يجده السابقون، وأكدوا مراراً أن أي قول أو رأي أو ترجيح لهم يخالف الدليل الصحيح فهو متروك، وأمروا أتباعهم أن يضربوا به عرض الحائط، فالحمد لله من قبل ومن بعد على هذا الفضل الجسيم، والحمد لله على الهداية، رزقنا الله والأحبة الدليل الذي يجعلني أقول: اضرب بما تبنيته من رأي عرض الحائط. وأعود إلى التعقيبات المنشورة، ولن أقف عند كل نقطة فالمساحة محدودة ولكنني أجمل فأقول: 1 أعترف بأنني لم آت بالجديد في المقال، ولست مبدعاً ولا مبتدعاً، ورحم الله عبداً عرف حده، فقد تبنّيت رأي أحد الأئمة الكرام المعتبرين، ولم أخضع للسائد المنتشر بل عمدت إلى الدليل وما وافق النظر الفاحص والعقل السليم، اقتداءً بنهج الأئمة، فالفضل فيه للإمام ابن حزم رحمه الله ولمن تبعه من أهل العلم الفضلاء. 2 بيَّن بعض الكرام في ردودهم أنني أنفي أفضلية اللغة العربية على غيرها من اللغات، بل نسب إليَّ أحدهم صراحة أنني أجزم بعدم الأفضلية حين قال:"ولقد نشرت إحدى الصحف حواراً مع أحد الأكاديمين تحت عنوان"لا فضل للعربية على غيرها من اللغات"، جزم فيه بعدم أفضلية اللغة العربية على غيرها من اللغات ...". وهي تهمة غير صحيحة ونقل غير دقيق، فالذي جاء في مقالتي رفض الجزم بأفضلية اللغة العربية، وليس الجزم بنفي أفضلية اللغة العربية، وبينهما فارق كبير وبون شاسع، فالذي نفيته أمران: الجزم بالتفضيل، ونسبة التفضيل إلى الشارع الحكيم. ومن ثم صرحت بأنني أفضل العربية تفضيلاً ذاتياً، حتى لا أتقوّل على الشارع من غير دليل، بل تمنيت لو أنها أفضل اللغات، وقلت: "... وبقدر ما سرني ظاهر العبارة بقدر ما تمنيت لو أن مضمونها مؤيد بالدليل الصحيح، فما أجمل أن تكون لغتنا العربية هي أفضل لغة حقيقة، وما أروع أن تكون هي لغة أهل الجنة التي أعدها الرب لعباده المكرمين الفائزين". وقلت أيضاً:"ولا شك في أن الكثير منا يفضّل اللغة العربية على غيرها من اللغات لأسباب كثيرة، منها أنها هي اللغة الأم، وأن بها يمكن فهم كلام الله تعالى لمن أراد أن يكون من المستنبطين، ولأن بها كتبت الكثير من المؤلفات الدينية، ولأنها هي اللغة المرشحة لجمع العالم الإسلامي في نظرنا.... الخ". وذهبت إلى ما ذهب إليه المفسرون وأهل العلم من وجوب تعلمها على طائفة من أهل العلم في كل أمة، ذاكراً الدليل على ذلك... فما كان ينبغي لمن وقع منه هذا الخلط في فهم كلامي ممن رد على المقال أن يتهمني بعبارات لاذعة جارحة، وأن يحكم على النوايا بكلام لا يليق بالقائل، كمحام متحضر يتقي الله ويعيد الحقوق لأهلها ويدافع عن المظلومين، كما لا تليق تلك العبارات لمثلي، فأنا على أقل تقدير طويلب علم يبحث عن الحقيقة بالأدلة الشرعية ليعبد الله على علم ودراية، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر... سامحنا الله جميعاً... أعتقد أن هذا النهج ممقوت يا سيادة المستشار القانوني. 3 كأن البعض أخذ فكرة التفضيل على أنها حقيقة ثابتة لا تحتاج إلى دليل، وهذا ليس بصحيح، فالقضية مدار بحث العلماء قديماً وحديثا، وحسب الفضلاء أصحاب الردود ما نقلته لهم عن ابن حزم رحمه الله، ولولا ضيق المساحة لأوردت شيئاً من أقوال غيره. 6 وما ذكره الفضلاء من أقوال لأهل العلم والفضل قديماً وحديثاً في تفضيل اللغة العربية ومالها من المزايا والصفات وغير ذلك، فأنا أضم صوتي إلى صوتهم، وإلى أصوات جميع طلبة العلم وغيرهم ممن يفضلون لغتنا الحبيبة، وأقول بارك الله فينا جميعاً، وصدقوا في ما قالوه، فاللغة العربية عندي وعند الكثيرين أوسع لغة من جهة المفردات والألفاظ والمعاني والدلالات، ولا يحيط بها إلا نبي كما ذُكر، وهي الأفضل والأحب إلى نفسي، وإنني أعتز بها بين الأمم حين أنطق بكلماتها، وأتمعن في معانيها وتراكيبها، وحين أشنف أذني بجرس حروفها... الخ، غير أنه تفضيل ذاتي شخصي ليس لي عليه أي دليل شرعي يمنحني الأجر، فإن وُجد الدليل فلله الحمد والمنة وأستغفره من الزلة. * أكاديمي شرعي من جامعة الإمام.