رفض الأكاديمي السعودي الدكتور محمد صفاء بن شيخ إبراهيم العلواني الجزم بأفضلية اللغة العربية على سائر اللغات، فضلاً عن كونها لغة أهل الجنة. وأشار العلواني في بحث خص به"الحياة"إلى أقوال علماء معتبرين قديماً وحديثاً، لا يرون فضلاً شرعياً لأي لغة على أخرى، وخصوصاً إمام أهل الظاهرية علي بن حزم الأندلسي، الذي نقل الكاتب عنه قوله:"وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له، لأن أوجه الفضل معروفة ... وما جاء نص في تفضيل لغة على أخرى، قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال: فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون، فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك". ودعا علماء الدين إلى نبذ إجراء التفاضل بين اللغات مطلقاً،"مادام الدليل الشرعي هو الفيصل عندهم، خلا القول بالتفضيل الذاتي كأن يفضلوا لغة على أخرى تفضيلاً شخصياً لسبب من الأسباب". واعتبر القول بأن"اللغة العربية لغة الدين"زعماً، يستهدف منه مطلقوه إحاطة اللغة بهالة من التقديس. وفي ما يأتي نص رأيه: في إحدى المدارس الخاصة أديت الصلاة المفروضة في البهو الرئيس مع الأساتذة الفضلاء والطلبة النجباء، وسعدت لمنهج المدرسة في تعليم الصغار والناشئة أمور دينهم وتربيتهم والحرص على عباداتهم، فبارك الله فيهم من مربين وزاد من أمثالهم أصحاب النوايا السلمية... ولقد زينت جدر المدرسة بلوحات تربوية وتعليمية هادفة وجمالية رائعة، والمفترض أن تكون من عمل الطلاب أنفسهم، وإن كان دقة إتقانها لا توحي بذلك، واحدة منها حملت جملة مشتهرة تقول: تكلم العربية لأنها أفضل اللغات ولأنها لغة أهل الجنة. وبقدر ما سرني ظاهر العبارة بقدر ما تمنيت لو أن مضمونها مؤيد بالدليل الصحيح، فما أجمل أن تكون لغتنا العربية هي أفضل لغة حقيقة، وما أروع أن تكون هي لغة أهل الجنة التي أعدها الرب لعباده المكرمين الفائزين، غير أن النهج الذي ارتضيناه لأنفسنا أوقفني عن قبول العبارة بإطلاقها، وهو النهج السلفي القويم الذي يطلب الدليل لأية مسالة شرعية، وإلا غدت القضية ادعاءً حتى يحضر الدليل القطعي الذي هو الحكم الفصل... لقد أشغلتني العبارة وصرفتني عن التدبر وأفسدت خشوعي في صلاتي، حين ذهبت بي الذاكرة بعيداً إلى ابن حزم الأندلسي 426ه وكتابه"الإحكام في أصول الأحكام"حيث يقول:"وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له، لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل واختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة، قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، وقال: فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك". التفاضل بين اللغات مرفوض ويتابع:"وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونان أفضل اللغات، لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع". قال ابن حزم:"وهذا جهل شديد، لأن كل سامع لغة ليست هي لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكر جالينوس ولا فرق". اه. قلت: والمهتمون باللسانيات يرفضون رفضاً قاطعاً مبدأ التفاضل بين اللغات أياً كان هذا التفاضل، وعلى الخصوص من حيث الجماليات ويرون أنها نتيجة حتمية للاعتياد على سماع أصواتها وتآلف عباراتها وتراكيبها وتصويراتها، فحروف الهجاء كما هو معلوم واحدة وهي مشتركة بين أكثر اللغات ولا يمكن القول بقبح الحرف ولا حسنه ولا فضله من لغة إلى لغة، وإنما نقول بالأجر على النطق بالحروف في كتاب الله على الخصوص لورود الدليل على ذلك، وهو كغيره من الحروف خارج كلام الله. والمفترض على أهل التخصص الشرعي خصوصاً أن يتجنبوا القول بفكرة التفاضل الشرعي بين اللغات ما دام الدليل الشرعي، هو الفيصل عندهم، بخلاف القول بالتفضيل الذاتي كأن يفضلوا لغة على أخرى تفضيلاً شخصياً لسبب من الأسباب، كما أن يظهروا للناس القول الحق وفق النهج السلفي وبيان خطأ القائلين بالتفاضل، وذلك لعدم ثبوت نص صحيح في التفضيل، ولاشك أن الحكم من غير دليل منهج ممقوت في نظر السلف وطوائف من الخلف، وكما نعلم فإن التفضيل الشرعي حكم، ولا يستساغ صدور حكم من غير دليل قطعي من كتاب أو سنة، ولا شيء من ذلك ثابت في مسألة التفاضل بين اللغات. هذا وقد صرح ثلة من المفكرين بأن التعصب بلغ بالبعض إلى الزعم بأن اللغة العربية هي لغة الدين فأحاطوها بالقدسية وجعلوها توقيفية، حتى جعلوه نظرية، بل حقيقة ثابتة بزعمهم، وعليه فهم يجرمون كل من يرفض نظريتهم، مع أنها نظرية قديمة سبق أن ادعي ذلك أقوام قالوا إن لغتهم مقدسة وأنها أنزلت على شعبهم المختار، حتى أجازوا بموجب ذلك الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا بالعبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها، فلهم أن يذنبوا بغير العبرانية ولا يضيرهم ذلك. وهو قول قريب إلى حد كبير من طائفة تدعي ذلك للغة العربية وللجنس العربي أيضاً فعلى سبيل المثال لا الحصر، نقرأ لأبي منصور الثعالبي في مقدمته في"فقه اللغة وسر العربية"قوله:"من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، التي بها نزل أفضل الكتب، على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عُني بها وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب صلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للنار...". والنص - كما يرى القارئ منه - كلام غريب عجيب مردود بالنصوص، وهو منطق لا يمكن أن يقبل بأية صورة وبخاصة من الشريحة التي أشرت إليها قبل قليل، وعلى رغم هذا نجد من ينزله منزلة عظيمة ويكاد يلبسه ثوب التقديس، ولن أقف عند تفاصيل هذه المقولة المغلوطة طويلاً ففيه - كما يلاحظ القارئ الحصيف - الكثير الذي يقف عنده، إذ انطلق الثعالبي رحمه الله من كون القرآن نزل بلغة العرب إلى تفضيل اللغة ومن ثم تفضيل جنس العرب أنفسهم، وكما نعلم جميعاً أن في العرب أبا جهل وأبا لهب وفيهم مسيلمة وفيهم صناديد قريش الذين أذاقوا طليعة الإسلام أشد أنواع العذاب، وفيهم الملاحدة أتباع ماركس ولينين وفيهم الفاسق والعاص، فهل يفضلون على غيرهم من الزهاد والعباد والنساك من الذين خلقهم الله من دم غير عربي... هي فكرة كما ذكرت غريبة عن ديننا وتنافي صريح قرآننا وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وتنافي صحيح سنة نبينا العظيم عليه الصلاة والتسليم: يا أيها الناس إنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى، بل إن القول بالتفاضل بين الأجناس دعون عنصرية ممجوجة تقوم على التفوق العرقي، ولا يمكن تحميله للدين الإسلامي العظيم بأية حال مهما قال الغافلون، فالإسلام لم يفضل ? فيما نعلم ? كماً على كمٍ إلا بمقدار العلاقة بالله وبما يعتنقه الأفراد من الإيمان، ولهذا جاز تفضيل المؤمنين على غير المؤمنين والصائمين على غير الصائمين، والأخلاقيين على من لا أخلاق لهم، ولا أعتقد أن مثل هذا يمكن أن يقال في الشعوب، ففي العراق الواحد والجنس الواحد المؤمن والكافر وفيهم المذنب والبريء والصالح والطالح والمسالم والمعتدي والعاقل ودونه. وعوداً على ذي بدء يقول ابن حزم:"وقد قال قوم العربية أفضل اللغات لأنه نزل بها القرآن كلام الله تعالى". وأجاب قائلاً:"وهذا لا معنى له، لأن الله عز وجل قد أخبرنا انه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه، وقال تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير، وقال: وإنه لفي زبر الأولين، فبكل لغة نزل كلام الله تعالى ووحيه، وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم الله موسى عليه السلام بالعبرانية، وانزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً". هل أوجب الإسلام على معتنقيه تعلم العربية؟ ورداً على من قال إن العربية هي لغة أهل الجنة. يقول"علي"ابن حزم: وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم لنا إلا ما جاء في النص والإجماع، ولا نص ولا إجماع في ذلك، إلا انه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ضرورة ولا يخلو ذلك من احد ثلاثة أوجه لا رابع لها: أإا أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات القائمة بيننا الآن، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذه اللغات، وإما أن تكون لهم لغات شتى". إلى أن يقول:"وقد ادعى قوم أن اللغة العربية، هي لغتهم واحتج بقول الله عز وجل: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين فقلت له، فقل: إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم إنهم قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص، ولأنهم قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فقال لي: نعم، فقلت له: فافترض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية، لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربيةّ فإن قلتَ هذا كذَّبْتَ ربك، وكَذَّبَك ربك في قوله: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم. فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة العربية التي نتفاهم، ليبين لنا عز وجل فقط". هذا، ويشاع بين العامة أن الدَّين أوجب على معتنقيه تعلم العربية، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفهم القرآن والعمل به واجب، ومن هذا المنطق فإن تعلم العربية واجب. قلت: إضافة إلى فقدان هذا الادعاء للدليل الصحيح الذي هو شرط للقبول والاعتذار، فكأن القائلين بهذا القول غائبون عن الواقع، فكم من معتنق للإسلام محافظ على أوامره لا يجيد العربية، بل كم مفكر وداعية عاجز عن فهم العربية؟ وكم من مسلم نافح عن الإسلام واستشهد في سبيل الدين ولا يفهم شيئاً من العربية؟ ثم لو كان الأمر كذلك لبين الله ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعمل بذلك كل من اعتنق الإسلام، ولا شيء من ذلك في الواقع، والصحيح أن الله سبحانه وتعالى أمر طائفة من أهل العلم المختصين في العلوم الشرعية من جميع أجناس المؤمنين لتعليم العربية كي يستنبطوا الأحكام الشرعية ويعلموها أقوامهم إذا رجعوا إليهم في قوله تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وذلك لكون الإنسان يثق ببني قومه أكثر من غيره، والإسلام حريص على محافظة الأقوام على هوياتهم ولمثل هذا دعت الأنبياء: إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قومي إني لكم نذير مبين..."، وهذا هو الأصل، لأن الألسنة آيات من آيات الله الباري تجب المحافظة عليها والذود عنها حتى تبقى تنطق بعظمة الخالق سبحانه ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم وكما لا يجوز للإنسان أن ينقلب على لونه فيغيره فكذلك لا يجوز له ان ينقلب على لغته فيقضي عليها. هذا ما يتعلق بالتفضيل الشرعي، أما التفضيل الذاتي الذي هو رأي واختيار فلا شك ان الكثير منا يفضل التحدث باللسان العربي المبين ولا شك أن الكثير منا يفضل اللغة العربية على غيرها من اللغات لأسباب كثيرة منها أنها هي اللغة الأم، وان بها يمكن فهم كلام الله تعالى لمن أراد ان يكون من المستنبطين، ولأن بها كتبت الكثير من المؤلفات الدينية ولأنها هي اللغة المرشحة لجمع العالم الإسلامي في نظرنا، فكل مسلم مكلف ينطق بسبع آيات منها على اقل تقدير في صلواته، وهي لغة الذكريات والطفولة، وهي لغة لها مفردات كثيرة ومعان جليلة... الخ.