الأسئلة الرئيسة في هذا الموضوع الشائك هي: هل يصح التفاضل بين اللغات؟ فإن صحّ ما اللغة الأكمل؟ وما الدليل على عظمتها وتفضيلها على غيرها؟ دارت هذه الأسئلة الثلاثة في حوارات جدليّة في موقع التواصل: تويتر، واحتدم النقاش بيني وبين أكاديميين متخصصين فمنهم من قال: إن اللغات تتفاضل وإن العربية هي سيّدة اللغات وأكملهنّ وأعظمهنّ بنحوها وصرفها ومعجمها الثري.. ومنهم من أنكر ذلك وادّعى أن التفاضل بين اللغات غير وارد أصلا؛ لأنّ كل لغة تعبّر بطريقتها الخاصّة عن حاجات أهلها في الاتصال اللغوي وإنشاء الآداب المختلفة.. ويرى فريق ثالث أن إمكانية التفاوت من حيث المبدأ والعقل واردة ولكن ليس ثمة سبيل إلى الوصول إلى الجواب الدقيق إلا بعد اطلاع الباحث على جميع اللغات، وهذا شبه متعذر، بل هو متعذر، لكثرة اللغات، فيتوّقف عن التفضيل، وهو رأي محايد يبدو في ظاهره مقبولا. والأرجح في هذا صحة القول بالتفاوت، ولا يلزم الاطّلاع على جميع لغات الكون؛ لأنه محال، ويكفي المقارنة بين اللغات الأكثر انتشارا، على منهج الاستقراء الناقص، وهو منهج علمي فيما يتعذر فيه الاستقراء التام، فحين يقولون إن قريشًا أفصح العرب لا يعني أنهم سمعوا كلَّ قرشيٍّ وسمعوا كل العرب فحكموا لقريش، وكذلك حين وصفوا الظواهر اللهجية الملقبة كالكشكشة والعنعنة والتلتلة والفحفحة والطمطمانية وعزو كل منها إلى قبيلة أو بيئة لم يسمعوا من كل فرد من تلك القبائل، وحين يختار الأوروبيون ملكة جمال الكون مثلا لا يعني هذا أنهم رأوا جميع النساء على وجه الأرض قبل اتخاذ حكمهم، وكذلك الحال في البحث اللغوي، ولا يمكن لباحث مهما كان علمه باللغات أن يطلع على جميع لغات الأرض ويعرف خصائصها وأسرارها ليكون حكمه دقيقا منصفا، ولكن تكفي المقاربة والنظر في اللغات الأكثر انتشارا وتأثيرا، ولا يُغفل جانب النقل وأعنى به أقوال العلماء الكبار الذين اطلعوا على عدد من اللغات بالإضافة إلى الاستعانة بالعقل والمنطق والقياس، ومن المهمّ في هذا استنطاق اللغة المراد تفضيلها وسماع شهادتها. وسأتناول الموضوع من خلال النقاط الآتية: أولا: هل يصحّ التفاضل بين اللغات؟ 1 - إن كانت اللغة منتجًا بشريًّا فإنّها قابلة للتفاضل، ككل منتج بشري، وهي كذلك، يقول فندريس في كتابه البديع «اللغة»: فحال اللغة حال جميع المخترعات البشرية. ويشير إلى اللغات البدائية الضعيفة. وهذا يقتضي التفاضل بين اللغات. 2 - وتنقسم فصائل اللغات إلى ثلاث، وهي: اللغات العازلة isolantes، واللغات الإلصاقية Agglomerantes، واللغات التحليلية Analytiques، ومعلوم أن اللغات العازلة لغات أولية ذات خلية واحدة غالبا، واللغات الإلصاقية هي اللغات الشريطية ومنها اللغات الأوروبية، وهي أكثر رقيا من اللغات العازلة، وأما اللغات التحليلية فهي اللغات الاشتقاقية أو اللغات الشجرية، واسميها شجرية لأن ألفاظها تتفرع من جذورها كما تتفرع أغصان الشجرة. 3 - ولكلِّ لغة نظامها الخاص، فهل تتساوى الأنظمة في دقتها وشمولها وكمالها ونقصها؟ ومن أبرز مكونات اللغة المفردات والمعجم، فهل تتساوى اللغات في مفرداتها ومعاجمها في غنى مادتها وتنوعها ودقة مصطلحاتها؟! 4 - واللغة في ذاتها غير متساوية، فألفاظها تتفاضل، فمنها السلس العذب في اللسان، ومنها الثقيل والفج والقبيح النابي المؤذي للأذن والذوق.. وكذلك خصائص اللغة وقواعدها متفاوتة في الإحكام والاطراد، فما يتفاضل بعضه يتفاضل كله مع نظيره. 5 - وأهل اللغة الواحدة يتفاوتون في البيان والمخزون اللفظي والقدرة على استيعاب النظام، فيفضل بعضهم بعضا. وكذلك كانت القبائل العربية تتفاوت لهجاتها في القوة والضعف، فكل قبيلة تعدّ مجتمعًا كاملا له لغته الخاص، فمنهم من يكشكش ومنهم من يكسكس ومنهم من يعنعن أو يطمطم أو يتلتل أو يفحفح، ومنهم من ينتقي كقريش، وبعض لهجاتهم تبدو بعيدة عن العربية الفصحى، حتى تكون شبه مشتقلة، كالجبالية والمهرية، (وتسمى: لهجات الأحقاف)، وكذلك لغة جبل فيفا، والتفاضل بين تلك اللهجات والفصحى أمر يقبله العقل وأدبيات البحث العلمي. 6 - ومن الواقع اللغوي المشاهد نرى حال العامّيّة للعرب اليوم، وهي -أي العامّيّة- الوجه الشعبي المبتذل للعربية، وعلم اللغة الحديث يعدها لغةً كاملة الأركان، إذ يتكلم بها مجتمع كامل، وهي لغتهم في حياتهم اليومية تعبّر عما في نفوسهم أشد التعبير، وتحمل أدبهم الشعبي وأشعارهم وأمثالهم وقصصهم وخواطرهم، أفلا يصح التفاضل بين العربية الفصحى وعاميتها؟ بالتأكيد يصح، ولا ينكر ذلك أحد، فنحو العامية وصرفها ركيكان، والتفاضل بين اللغتين العربية والعامية لا ينكرة لغوي. (يتبع)