يرسخ كتاب"والمنازل التي أبحرت أيضاً"للكاتب البحريني أمين صالح من مواليد عام 1949، مشروعاً سردياً، قوامه التجريب وخوض المغامرة تلو الأخرى، على صعيد اللغة الشعرية والتقنيات السردية، واستبطان الذات الإنسانية في لحظات تأزم علاقاتها بالأشياء والعالم. ولا يبدو أن هذا المشروع، الذي انطلق مع بدايات السبعينات الميلادية، يعرف حالاً من الاستقرار، أو يصل إلى اكتمال ما، في رحلة بحث لا تنتهي عن الجديد والمغاير. لعله من أوائل قلة من الكتاب العرب، الذين طرحت كتاباتهم فكرة النص المفتوح، الذي يتخطى التصنيفات الجاهزة، مؤسساً لنمط جديد من الكتابة. الكتاب الجديد لصالح، لا يرسخ فقط جملة مقترحات سردية، تبناها منذ كتبه الأولى، وراح يطور فيها ويعمق مساراتها في تجاربه البديعة، إنما أيضاً يمثل مناسبة لإعادة تأمل هذا المشروع، الذي يتواشج مع فنون أخرى شعر، اهتمام بالسينما وكتابة السيناريو، ما جعله، أي هذا المشروع، فريداً بثرائه وتنوعه. لم يختر أمين صالح أن يكتب بهذه الطريقة أو ذاك الأسلوب، فالتجربة، في رأيه، هي التي تفرض أو تملي اللغة والأسلوب، أو الشكل، وبالتالي فالمغايرة التي نجدها عنده نابعة من استفادته المبكرة من منجزات الحداثة الأدبية والفنية، من وعيه بالحساسية الفنية الجديدة واشتغاله على عناصرها وتقنياتها. ويبدو واثقاً منذ البدايات الأولى له، أن السرد الكلاسيكي لن يثري نصوصه أو يسهم في دعم وتعزيز رؤيته، لذلك جعله يأخذ منحى آخر، مستثمراً جوهره الشعري"من الضروري أن يعتني الكاتب بأدواته وتقنياته، وتجديدها، فمن خلالها يجدّد تجربته ويعمّق رؤيته". نادراً ما تلتفت أعماله للجانب البراني للشخوص والحالات، في إصغاء للعوالم الداخلية، متأملاً السري وغير المرئي، في أفق من الالتباس والغموض الشفيف. ثمة غواية تشده إلى أعماق النفس البشرية وتعقدها، وتنأى به عن السطوح والمباشرة. في أعمال صاحب"ندماء المرفأ... ندما الريح"ليس من السهل العثور على المكان البحريني، عدا البحر، أو أننا نعثر عليه لكن بعد أن يتم تطييفه أو تجريده، فحضور المكان في أكثر أشكاله التباساً، سمة تميز أدبه، فالمكان ينسلخ عن واقعه المحلي، كما يعبر هو، ليكتسب بعداً كونياً، فلا يعود الشارع هو نفسه الشارع الذي نعرفه، ولا البيوت، ولا الدكاكين، ولا الشواطئ... كلها تتحول وتحمل دلالات مغايرة،"هذا نابع من قناعتي بأن كل كائن، كل مكان، ما ان يدخل في النص، حتى يتحوّل ويصبح كونياً، ولا يعود ينتسب إلى الواقع الذي أُستلّ منه. الواقع نفسه يتحول ويعاد خلقه المرّة تلو الأخرى... في"رهائن الغيب"تبدو الأماكن واقعية ظاهرياً، لكن لأنها نتاج مزيج من الواقع والذاكرة والمخيلة فإن الكثير منها يكتسب بعداً تجريدياً، أو خاصية حلمية". الاشتغال على لغة مبتكرة ومتجددة باستمرار، ونسج صور تمزج الغرائبي بالشعري بالواقعي في تركيب شفيف ومعقد في آن، يعد ملمحاً أساسياً في مشروعه الإبداعي. ففي كل إصدار جديد، يخرج على القارئ بمغامرة لغوية جديدة."أنا لا أستخدم اللغة بوصفها وسيلة للاتصال أو لنقل معلومة أو لغايات وعظية وتقريرية"يقول ويوضح"بل بوصفها أداة استقصاء وبحث واكتشاف، من أجل سبر ما لا يُدرَك وما لا يُرى. ينبغي أن تكون اللغة موظفة شعرياً وإلا سقطت في العادية والتقريرية والرتابة... وهذا ما نجده عند كتّاب لا يعتقدون أن للغة طاقة تفجيرية هائلة. باللغة العادية، التقريرية، التقليدية، لا أستطيع أن أبني نصاً يقنعني شخصيا". شكلت روايته الجديدة"رهائن الغيب"، المرشحة لجائزة البوكر العربية، انعطافة في تجربته الروائية، لناحية تقديمه للمرة الأولى ملمحاً سيرياً، فهو يكتب عن "حي الفاضل"، الذي شهد طفولته وأحلام الشباب، وفيها يتطرق، كما لم يتطرق من قبل، إلى جذوره، ومن أين قدم والده إلى البحرين، ويظهر فيها مثل الباحث عن نفسه، أو عن معنى ما بين خيارات عدة، سياسية وفنية وسواها. أي أن العمل يعبر عن ملمح سيري نادراً ما كشفه في عمل له، وإن كان هذا الملمح ظل يقتصر على مرحلة محددة 1963 أي عندما كان في ال13 من العمر، ولم تتخطها الرواية. لم تحضر هذه المرحلة عشوائياً، ففي هذه السن، كما يقول، يختبر الإنسان أول كل شيء: أول العنف، أول الحب، أول الجنس، أول الوعي السياسي، أول الانتماء، أول البحث عن هوية... إذاً، بمعنى ما، هي سيرة كل فرد مع اختلاف التفاصيل والمظاهر، فالجوهر هو نفسه. حي الفاضل، مثل غيره من الأحياء، كان يعج بالشخوص والأحداث، يغص بالتناقضات والاختلافات، يحفل بالقصص والطقوس، وحاولت أن استفيد من هذا في بناء العمل ورفده بما يكفل له حيويته وطرافته". قلة هم الأدباء الذين يتنوع ما يقدمونه من إبداع ويتعدد، أمين صالح واحد من هؤلاء، فهو يكتب الشعر كواحد من أكثر الشعراء خبرة بأسرار اللغة الشعرية، تجربته في كتابة الشعر أو الزخم الشعري الذي يضفيه على روايته ونصوصه السردية، فتحت أفقاً رحباً للشعراء أنفسهم على لغة جديدة وغير مستهلكة، سواء كان الشعراء مجايلين له أو الذين جاؤوا بعده. هو أيضاً يشتغل على السينما، متابعة وترجمة، يكتب أمين صالح قراءات نقدية عميقة حول أفلام سينمائية عالمية، قراءات تنفذ برشاقة إلى جوهر تلك الأفلام، على نحو ما فعل مع ثلاثية المخرج البولندي كيسلوفيسكي أزرق، أبيض، أحمر، حساسيته تتجلى أيضاً في ترجماته السينمائية مثل"النحت في الزمن"للمخرج الروسي اندريه تاركوفسكي، واللافت أننا كقراء نجد تطابقاً مدهشاً بين رؤاه حول مقولات مثل الفن والجمال واللغة الشعرية والزمن، وبين رؤى أولئك المخرجين العالميين حول المقولات والقضايا نفسها. يتضح ذلك التطابق عندما يشتبك مع أعمالهم على نحو حميم وخلاق، نقداً وترجمة. إضافة إلى ذلك يكتب السيناريو لمسلسلات تلفزيونية، حققت نقلة نوعية على صعيد المشهدية البصرية للدراما في الخليج. وفي حين يعتبر التنوع في رأي البعض سبباً في التشتت وعدم التركيز، فإن صالح يرى القضية من منظور آخر، أي وسيلة لتعميق التجربة الثقافية بشكل عام، فيذكر أنه اكتشف أن ممارسته للكتابة السينمائية والتلفزيونية والمسرحية والترجمة، أسهمت في تعميق تجربته الثقافية وتوسيع مجال الرؤية، من دون أن تؤثر سلباً في اللغة والأسلوب"وجدت أن بالإمكان التنقل بين الأشكال والأنواع بيسر وسلاسة من دون أن تصادف أي تعقيد أو تشوش أو هيمنة لنوع على آخر. ولا شك في أن السينما مارست تأثيراً كبيراً على تجربتي الأدبية من ناحية المنظور البصري والعناصر التقنية في السرد". يصعب في كثير من الأحيان الفصل بين كونه شاعراً أو روائياً أو مسرحياً أو سينمائياً، بمعنى أن نصه يبدو نسيجاً من كل ذلك، وكأنه يجد نفسه وكينونته في هذا المزج الفريد بين أشكال وأنواع مختلفة، ليكون نصاً مفتوحاً وإشكالياً في آن واحد. يضيء أمين صالح هذا الجانب فيقول: منذ بداياتي لم أكن أحب التقيّد بالمعايير التقليدية في الكتابة، ولم أكن أميل إلى الوقوف عند نوع مسيّج بالقوانين والأعراف والأصول، بل أحببت أن أدمج الأشكال في كيان واحد عبر نسيج متماسك لا ادعاء فيه ولا مجانية. ما كان يعنيني، في الواقع، هو توصيل رؤيتي وتجربتي عبر شكل، لا أزعم أنه إشكالي، قادر أن يستوعب ما أريد أن أقوله وأعبّر عنه بسهولة ومن دون عناء، وأيضاً من دون افتعال. لقد حاولت في نصوصي أن أبني العوالم القريبة مني، تلك التي يمكن أن تعانق كل المصادر والعناصر، وفيها يتمازج كل شيء، ومن خلالها أجد حريتي في الكشف والاكتشاف". على الصعيد الشخصي، لناحية تعامله مع كتابات الشباب في الخليج التي لم تنج من التأثر به، وكذلك في علاقاته بوسائل الإعلام لا يقل صاحب"موت طفيف"عن نصه فرادة، فهو ذو طبيعة خجولة، ميالة إلى الهدوء، لذلك لم يزعم يوماً أنه صاحب طريقة، أو مشروع سردي يقع في غوايته عدد من الكتاب الشباب، ولا يعرف كيف يروج لنفسه ولمشروعه، مثل هذه الأمور لا تثير اهتمامه، يقول ذلك، ولا يعتقد في الوقت نفسه أن من مهمة الكاتب الترويج لنفسه أو لمشروعه"عليه أن يكتب فحسب، أن يبدع، وأن يرصد ردود فعل الآخرين ليعرف، على الأقل، إلى أي حد تفاعل الآخرون مع ما كتبه"، ويضيف في نوع من الأسى:"في السنوات الأخيرة، انتشرت في الوسط الفني والأدبي ظاهرة التسويق، فرأينا عدداً كبيراً من الأدباء يتهافتون ويتسابقون على نشر أخبار، معظمها ملفقة، عن أعمالهم ورحلاتهم واحتفاء الأوساط الثقافية العالمية بنتاجاتهم، إضافة إلى تعميم كل انطباع يكتب عنهم في كل موقع على الانترنت... وبتنا نرى أشكالاً من الكذب والتزييف والتزوير والاستعراء المذل، في سبيل أن يسوّق المرء لنفسه ويشتهر بأية وسيلة وأي ثمن". ولئن اعتبر أن كل ذلك يعكس حالاً من تراجع القيم الأصيلة"من نبل وتواضع وتعفف وصدق وإخلاص"، فإنه شخصياً يرى أن من حق الكاتب أو الفنان أن يوصل نتاجه إلى الآخرين،"لكن بكرامة ونبل... يحدث هذا من خلال طبع أعماله وتوزيعها، والمحظوظ من يلتفت إليه النقد يوماً فيؤمن به ويحتضنه ويعمل على توسيع مساحة قراءته، من خلال الفحص الجاد والتحليل العميق". عانى صاحب"أغنية ألف صاد الأولى"ظروفاً خاصة لسنوات، أجبرته على عدم مغادرة البحرين لحضور المؤتمرات والندوات الثقافية التي يدعى إليها، ما جعله يعيش في ما يشبه العزلة، فقد أمضى سنوات طويلة يسعى فيها للحصول على جواز سفر، يتيح له التنقل بحرية،"لكن ذلك لم يتحقق إلا منذ ثماني سنوات تقريباً، هذا يعني أن حرية السفر وقتما أشاء كانت محدودة جداً، وهذا فوّت عليّ تلبية عدد من الدعوات لحضور اللقاءات والمؤتمرات". لكنه مع ذلك لا يميل كثيراً إلى صخب المهرجانات وضجيجها، هذه المهرجانات التي، كما يقول"لا تكون جادة في التوجه الثقافي"، فيحاول تفاديها لأنها تربكه وتثير فيه"حالة من التوتر والفزع". على رغم فرادة تجربة أمين صالح وتنوعها، إلا أنها لم تحظ بنقد يواكبها أو يضيء مجاهيلها ومناطقها التي تتميز بالجرأة والجدة، وكأن النقاد لا يتجهون سوى إلى المكرس من التجارب والأسماء. لكنه يعي الصعوبة التي يواجهها النقاد في اختراق الكتابات التي تعبر عن رؤى مغايرة، عبر أساليب غير مألوفة، فمثل هذه الكتابات، سواء له أو لسواه من الكتاب، يقول:"تقتضي من الناقد أن يستخدم أدوات نقدية جديدة قادرة على أن تسبر وتتحرى وتتغلغل في ثنايا أو مجاهيل النص، لتكتشف جوهره وعناصره وجذوره. إذاً، لو خيّر الناقد التقليدي بين تناول تجربة مألوفة واضحة، وأخرى جديدة غامضة، لاختار حتماً الأولى. بالتالي نحن بحاجة إلى ناقد جديد، مبدع مغامر ولا يخاف". أكثر من ثلاثة عقود وصاحب"الطرائد"يشيّد مشروعه الإبداعي الفريد، وبعد كل هذه السنوات، لا تزال كتاباته تفاجئ القارئ العربي، ليس لأنها أعمال تنم عن حداثة عميقة وتجريب لا يعرف حدوداً، إنما لأنها تصدر عن كاتب خليجي. فالأحكام التي يطلقها نقاد وأدباء عرب على الأدب الخليجي، على رغم أنه خطا خطوات مهمة خلال مسيرته، وأصبح يمثل إضافة وأحياناً قفزة نوعية لمجمل الأدب العربي، يرى فيها أمين صالح روحاً متعالية وشوفينية"هكذا وجدنا النقد العربي دوماً ينظر إلى أي نتاج إبداعي يصدر عن دول الخليج، ويفرض نفسه بقوة، على أنه عمل استثنائي، مفاجئ، نتاج المصادفة المحضة. وغالباً ما ينظر، هذا النقد بعين الارتياب، أو الاستهانة، إلى أي حركة فنية أو أدبية تطلع من دول الخليج". ويتذكر ما حصل في السبعينات من القرن الماضي،"عندما خرج النقد العربي علينا بنظرية مضحكة تجزم باستحالة نشوء الرواية في دول الخليج بسبب خلو ؟ مجتمعاتها من التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية، مثلما هو حادث في أقطار عربية أخرى... هكذا ينفي النقد العربي، بجسارة وبيقين تام، ليس فقط إمكان وجود رواية في الخليج بل حتى وجود تناقضات، كما لو أن المجتمعات الخليجية مستوردة من المريخ أو كوكب آخر... علماً بأن التناقضات والصراعات تزخر بها أي عائلة، وليس أي مجتمع، في الكون". قد تكون هذه الأمور، غياب النقد وأحكام بعض الكتاب العرب، مزعجة ومثيرة للتأسي على الواقع الثقافي العربي، لكن صاحب"هنا الوردة..هنا نرقص"لا ينشغل بها كثيراً، كما لا يسمح لها بأن تربك استمرارية الكتابة لديه بتألق، ولا تقطع تأملاته في الأشياء والعالم من حوله.