إن خضوع الإدارة للنظام يعني احترام الإدارة للقواعد النظامية المستمدة من مصادرها المختلفة، وهذا يكفل على أحسن وجه، العدالة والمساواة بالنسبة إلى المحكومين، ويضمن أن الإدارة ملزمة بالا تتجاوز حدود القواعد، التي تنظم نشاطاتها وتحدد اختصاصاتها وتبين وسائل ممارساتها لسلطاتها، وإن كان هذا هدفاً يرضي طموح الأفراد للمحافظة على حقوقهم وحرياتهم، إلا أنه لا يؤمّن متطلبات تحقيق المصلحة العام لأسباب أهمها: 1- لأنه يستحيل على المنظم أن يتصدّى لتنظيم النشاط الإداري بشكل تفصيلي بكل دقائقه وجزئياته ويضع له القواعد القانونية، وخصوصاً مع التطور السريع في مجالات الحياة. 2- ان التحديد يتعارض مع متطلبات المصلحة العامة التي تستدعي أن تتمتع الإدارة بمرونة واسعة في نشاطها، الذي تمارسه لمختلف الظروف وفي مواجهة مختلف المناسبات والوقائع. فإذا كان من الممكن ومن الضروري في مجالات محددة أن يقيد المنظم الإدارة بقواعد أمرة تقيداً كاملاً، إلا أنه من مقتضيات المصلحة العامة، أن يترك للإدارة في الغالبية من الحالات قسطين من حرية التصرف، يتيح لها أن تختار الوسيلة المناسبة لمواجهة الظروف والوقائع، وأن يتيح لها في مجالات أخرى، فرصة الاختيار بالنسبة إلى وقت إقدامها على التصرف، فإن سماع المنظم للإدارة بقدر من السلطة التقديرية زيادة أو نقصاً في مجال آخر، وهذه السلطة لا تكاد تنعدم في اختصاص من الاختصاصات ولا تصل إلى حد السلطة المطلقة بحال من الأحوال، وفي كل ذلك ضمن القيد الذي تخضع له الإدارة في ألا يشعر عملها أي انحراف أو تعسف وإذا ما حدث أي انحراف فالرقابة القضائية كفيلة باتخاذ الحكم المناسب لتلافي النتائج السلبية. إن سلطة الإدارة تكون مقيدة إذا لم يترك المنظم لها أي اختيار أو تقدير بالنسبة إلى جميع أركان العمل الإداري، وتكون سلطاتها تقديرية، إذا ما ترك لها المنظم قدراً من حرية الاختيار بين أن تتخذ الإجراءات أو التصرف أو لا تتخذه، أو حرية اختيار الوقت المناسب أو اختيار الشكل المناسب، وان تتوخى في كل عمل تؤديه تحقيق المصلحة العامة، وإلا كان عملاً مشوباً يعيب الانحراف أو إساءة استعمال السلطة. وعلى أية حال فليس هناك من تقسيم ثنائي يمكن إطلاقه في هذا المجال فليس هناك سلطة مقيدة مطلقة، كما أنه ليس هنالك مجال تقديري ومجال مقيد في التصرف نفسه أو القرار الإداري. إن القرارات الادارية في الغالب تتضمن جانباً مقيداً وجانباً تقديرياً في القرار نفسه، أو التصرف، غير أن الاختلاط هنا لا يعني سوى المصاحبة ولا ينفي هذا أن يكون هنالك تصرف إداري معين فيه من عناصر التقدير أكثر مما فيه من عناصر التقييد أو العكس. إن تمتع الإدارة بسلطة تقديرية يقوم على أساسيين: الأول: بتبرير عملي، والثاني بمصدر نظامي، أي ينبغي أن تتصور دائماً أن السلطة التقديرية مرتبطة بفكرة التنظيم القانوني، أي أنها نتيجة مستخلصة من حال معينة للتنظيم القانوني. 1- من أمثلة السلطة المقيّدة للإدارة عند ترقية الموظفين بالأقدمية في حال أن ينص النظام على ألا يكونوا قد قضوا مدة معينة في درجاتهم وان يكون التقدير الأخير عن الموظف بدرجة ضعيف، فإذا تحققت هذه الظروف وجب على الإدارة ترقية الموظف فليس للإدارة أي سلطة تقديرية، ومن أمثلة السلطة التقديرية للإدارة هو حقها في منح الأوسمة والنياشين. مبررات السلطة التقديرية: إن أهم مبررات السلطة التقديرية للإدارة كاستثناء على مبدأ المشروعية الإدارية، أن السلطة التقديرية للإدارة هي ضرورة عملية ونظامية، فمن الناحية النظامية، فإن السلطة التقديرية للإدارة ينظر إليها كضرورة لازمة لتكملة وتنظيم الفراغ، الذي يوجد في دائرة النظام القانوني، إذ من المستحيل على المنظم التوقع المسبق لوضع الحلول لكل الأمور في الحياة المتغيرة، وعلى ذلك تساعد السلطة التقديرية للإدارة على تفسير هذه النواحي وتكملتها بما تقتضيه الحياة في المجتمع، آخذة في الاعتبار الظروف الخاصة بكل حال على حدة، أما من الناحية العملية بحيث تسمح السلطة التقديرية بمواءمة تصرفاتها والحاجات العامة والتغيرات الاجتماعية وتطبيق القواعد العامة المجردة على الواقع المتغير للحياة اليومية، وذلك لأن المنطق والمصلحة العامة وحسن سير المرفق العام يتطلب منح الإدارة قدراً من الحرية في اتخاذ التصرف أو عدم اتخاذه، وتحديد الوقت المناسب للتصرف إذ إن حصر دور الإدارة في مجرد التنفيذ لا يتفق مع المصلحة العامة في شيء. وتتلخص مبررات أو دواعي السلطة التقديرية للإدارة في النقاط الآتية: 1- يصعب على المنظّم وضع قواعد تتلاءم مع التطور المستمر والمتغير للحياة الاجتماعية. 2- إن النظام يفرض قواعد ومبادئ عامة، ونظراً إلى اختلاف الظروف، لذا جاءت فكرة السلطة التقديرية لتساعد على تحقيق العدالة والمساواة في مجال التطبيق. 3- السلطة المقيّدة تجعل الإدارة آلة، وليس لها أي دور في الابتكار، ولا يتفق ذلك مع المصلحة العامة في شيء. أساس السلطة التقديرية في الفقه الإسلامي: جاء الإسلام بالأحكام التكليفية من خطاب باللزوم ? مترددين الفعل والترك بصفتي الجزم وعدمه ? والتخيير في أشياء للمكلف له، فيه مطلق الحرية في الفعل والترك، كما سكت عن أشياء رحمة بنا من غير نسيان، فبقيت على إباحتها الأصلية. واتسعت الدولة الإسلامية وتنوع مجتمعها، وانقطع الوحي، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت النوازل التي لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة، فوجد من تصدى لها من علماء الصحابة، ثم من جاء بعدهم من اهتدى بهداهم، بما أتاهم الله من علم ومعرفة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي دائرة المباح الذي لم يرد به نص، فيمتد التشريع إلى تنظيم ذلك، بما لا يتعدى تحقيق علة ما، أو حكمتها، والمصلحة التي شرعت لها... وفقاً للمقاصد العامة للشريعة، او ما يطلق عليه في الوقت الحاضر "النظام العام"، وأن يأتي التنظيم بألا يصادر أصل الحق، بل لتيسير استعمال الحق، وتجنب إساءة استعماله ? لأن من يقول إن الأصل في الأشياء الإباحة. في اعتبار الفعل مباحاً، سواء كان ذلك من الأصل ? بالإباحة الأصلية ? أم بورود الدليل على ذلك ? الخطاب ? باعتبار - إذن الله تعالى - وترخيصه للعبد في أن يفعل أو يترك. إذ تقسم الإباحة إلى 1- إباحة أصلية: وهي خاصة بالأفعال، التي لم يرد فيها حكم من المشاريع. 2- الإباحة الشرعية: وهي التي دل الدليل فيها على التخيير. 3- الإباحة الطارئة: وهي التي وردت على خلاف حكم سابق كالرخص في أكثر أحوالها، والإباحة بعد نسخ الوجوب. انظر: المستصفي للغزالي 1/48 التلويح على التوضيح، لسعد الدين التفتا زاني 2/127 نظرية الإباحة عند الأصوليين الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص36 فالمباح هو ما خيرّ الشارع المكلف بين فعله وتركه، ويكون ذلك بتصريح الشارع بالحل، أو النص على نفي الإثم، أو باستصحاب الأصل إذا لم يوجد في الفعل دليل يدل على حكمه، بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وحكم هذا النوع أنه لا ثواب ولا عقاب على فعله، بل فعله وتركه سواء 1. وبذلك يكون لمصدر القرار حرية الاختيار من دون التقيد بإدارة أخرى. فتكون السلطة التقديرية هي الحيز التي يتركه النص ? أو الدليل الشرعي ? وهو الإباحة الشرعية، التي لم يرد بشأنها نص. إن نصوص الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة المطهرة، أمرت بفعل ما أمرت به لتحصيل المصلحة المترتبة على فعله ونهت عن الفعل المنهي عنه، لدفع الأضرار المترتبة عليه أي "أن المصالح يجب اعتبارها والمفاسد يجب درؤها، لأن الأحكام شرعت لذلك"2 لقوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. النحل90، وقوله: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنينَ يونس 57، وقوله إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم". فالسلطة التقديرية هي الحال التي لم يرد بشأنها نص من كتاب أو سنة يحددها، أو كلاماً ما يجلب مصلحة أو يدرأ مفسدة على مقتضى من روح الشريعة ومقاصدها. 1- الدكتور سعيد عبد المنعم الحكيم، الرقابة على عمال الإدارة في الشريعة الإسلامية والنظم المعاصرة. 2- نجم الدين طوخي، كتاب التعيين في شرح الأربعين تحقيق أحمد حاج محمد عثمان ط1 بيروت مؤسسة الريان 1419ه - 1998 ص24. * أستاذ مشارك المعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية