إن الحديث عن أي قيادة سياسية خارج الوطن يجب أن يتسم الموضوعية التامة بقدر ما يستطيع الإنسان مع أن علماء العلوم الإنسانية يصرون على انه ليس هناك شيء موضوعي بالمطلق، لأن زعماء العالم - من وجهة نظري - ليسوا فنانين يقدمون مواهبهم للجمهور ويتبارون في إتقانها لكسب المعجبين، فطبيعة الحكم أياً كان منهجه أو أسلوبه يتعاطى مع قضايا وإشكاليات تخص مجتمعه في الداخل وأحياناً تمتد تبعاتها للخارج بحسب إمكانات الدولة المعنية وعلى أساسه يكون حجم التأثير. الزعماء السياسيون يمكننا تقويمهم موضوعياً بحسب مواقفهم تجاه أوطانهم وتجاه القيم التي يحملونها حتى وإن كنا لا نتأثر بها مباشرة، فالزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا أثار إعجاب العالم بسبب موقفه المبدئي من القضية التي يؤمن بها، ودفع ثمن ذلك غالياً فهو لم يختر أن يسجن 28 عاماً لمجرد أن يصبح بطلاً لأنه وبكل بساطة لا يستطيع أن يتحكم في جميع العوامل المحيطة به ولا في حركة التاريخ. لكن الثبات على مبدأ يعد قيمة إنسانية مطلقة يعجب بها الفرد في كل زمان ومكان وكذلك العدل، فالعدل قيمة مطلقة يجب أن يتحلى بها الفرد في تعامله مع من يملك أي سلطة عليه، وعلى سبيل المثال فالعدل الشخصي يتجلى في أسمى صوره عند تعامل الأب مع أبنائه، فكلما كان الأب عادلاً بين الأبناء زادت نسبة المحبة والإخاء بينهم، لتبقى الغيرة الإنسانية في الحدود المقبولة من دون أن تترك مجالاً للكراهية والأحقاد. في قضية محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين يفترض في الحكومة ومن يمثلها أن تكون هي الأب العادل، وعلى هذا الأساس كان المطلوب منها قبل غيرها أن تسعى جاهدة لتحقق العدالة المطلقة في محاكمة صدام لتثبت لنفسها أولاً أنها تختلف جذرياً عن كل الممارسات التي كان يمارسها نظامه، بحسب ادعائها، ولكي تثبت لكل مكونات المجتمع العراقي بطريقة لا تقبل اللبس أنها حكومة للجميع وليس لفئة معينة. لو حاولنا غض النظر عن طريقة تكوين المحكمة والقوانين التي بنيت عليها والإجراءات التي تمت داخلها، فقد أثبت القادة العراقيون الجدد الذين أتى بهم الغزاة الأميركان في كل تصرفاتهم أنهم يبحثون عن السلطة والثراء وأن كل ما كانوا يتهمون به صدام ونظامه يمارسونه فعلياً، وقد يكون الفرق الوحيد أن ولاء صدام للعراق فقط وإن أردنا ان نزيد على ذلك لنفسه فقط. إن علاقة هؤلاء الحكام الجدد بإيران تثير حولهم الشبهات، وهنا أتحدث عن فئة منهم وهي الفئة المسيطرة والتي يبدو أن ولاءها يتذبذب بين العراقوإيران، هذا الولاء كان يفترض أن يكون متناقضاً ولا يمكن أن يتحقق على ارض الواقع، وذلك بسبب العداء التاريخي بين العراق كانتماء عربي وبين الجمهورية الإسلامية التي تحتل منطقة كبيرة من أراضيه بما يسمى عربستان، فهل يجرؤ هؤلاء الحكام الجدد على مطالبة إيران بإعادة أراضيهم شرق شط العرب، وهم الذين يريدون أن يدفعوا تعويضات الحرب العراقيةالإيرانية للجمهورية الإسلامية قبل أن يفكروا في بناء العراق وإعادة ترميم ما أفسده نظام صدام. ما لحق بالعراق جراء الحصار الاقتصادي الذي استمر 13 عاماً هذا الحصار الذي لو تعرضت له أي دولة لعادت للقرون الوسطى. بالنسبة لي فقد ارتكب صدام حسين أخطاء كثيرة جداً في سنين حكمه، ولكن الخطيئة التي لا تغتفر هو قرار احتلاله لدولة الكويت، فلا يمكن لأي عاقل أن يجد أي مبرر منطقي لمثل ذلك العمل، ولأن القرار خطيئة كبرى فقد دفع حياته ثمناً لهذا القرار، فالعنجهية المزيفة التي تمسك بها بعد خروجه مهزوماً من الكويت أدت بطبيعة الحال الى تراكم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبسبب الضائقة المالية تحديداً ترك العراق ما يقارب ثلاثة ملايين من المواطنين مشتتين في بقاع الأرض يواجهون أقسى أنواع الاضطهاد وهم يبحثون عن عمل هنا أو لجوء سياسي هناك، وكنا نعتقد ان هؤلاء سيعودون للعراق في أول يوم يسقط فيه النظام، ولكن الهجرة للخارج زادت عما كانت عليه، وحتى الدكتور أحمد الجلبي عاد لشقته الفاخرة في لندن وكل زملائه الذين خرجوا معه من المنطقة الخضراء. فأي قيادات من هذا النوع يمكن التعويل عليها في إعادة بناء الدولة العراقية. إن الشيء الذي يجب ألا ينخدع البعض في ترديده هو ما يطرحه الصفويون من تصوير الحرب العراقيةالإيرانية على أنها حرب عبثية قام بها صدام ضد الجمهورية الإسلامية المسالمة، ونحن نقول هنا قد تكون حسابات صدام خاطئة حين حاول استعادة الأراضي العراقيةالمحتلة من"الشاه"، حين اعتقد أنها فرصته التاريخية، بعدما بدأت الثورة الإيرانية، بعد تسلمها السلطة، في تصفية الأحزاب السياسية التي ساندتها في الثورة على نظام"الشاه"، بما في ذلك أبو الحسن بني صدر رفيق درب الإمام الخميني والذي فر من إيران الى فرنسا، وحاولت الثورة الإسلامية اغتياله في باريس ولكنها فشلت. ولا أدري هل هو لحسن حظ المواطن العربي أو لسوئه وهو يعايش إعادة تكرار المشهد السياسي الإيراني في محاولة التغلغل في مناطق مختلفة من الوطن العربي. وللتذكير فقط فلقد كانت الثورة الإسلامية تعتقد أن الأوضاع مهيأة لها في تصدير الثورة الإسلامية لدول الجوار مستغلة بذلك القضية الفلسطينية لكسب تعاطف الشارع العربي حين أنزلت العلم الإسرائيلي من السفارة الإسرائيلية واستبدلت به العلم الفلسطيني. وهنا أريد التأكيد أن الدول الخليجية العربية ومعها الشعوب العربية لم تقف مع صدام في حربه ضد إيران عبثياً بل لدرء خطر امتداد ولاية الفقيه الى بلدانها. وأريد التذكير أيضاً بأن الثورة الإسلامية لم تتورع في شراء الأسلحة من إسرائيل في الفضيحة التي سميت في ما بعد بفضيحة إيران ? غيت، وتذكروا جيداً الرئيس الأميركي الأسبق"رونالد ريغان"حينما سأله الصحافيون الأميركان وقتها عن صحة التسريبات الصحافية التي نشرتها"مجلة الشراع"اللبنانية عن بيع أسلحة أميركية لإيران عن طريق إسرائيل... رد عليهم متهكماً:"من يصدق صحيفة لبنانية؟"، وقد أثبتت الأيام أن الصحيفة اللبنانية أكثر صدقاً من الرئيس الأميركي. وقبل ذلك طلبت دول الخليج العربية بعد قيام الثورة الإسلامية إعادة الجزر الإماراتية الثلاث التي كان يحتلها"الشاه"ما دامت الثورة تؤمن بحق الشعب الفلسطيني في استرداد حقوقها المغتصبة ولا تقبل الاحتلال كمبدأ، إلا أنها ما زالت ترفض حتى مبدأ التحكيم الدولي، فكيف يمكن لدول الخليج العربية وشعوبها أن تطمئن لإيران مهما حاولت إظهار عداوتها لإسرائيل ودعمها للقضية الفلسطينية؟، كل هذه التعبئة الإعلامية ما هي إلا ذريعة لمد نفوذها على الوطن العربي بأكمله وطموحاتها زادت مما كانت عليه في السابق. وللأسف الشديد فإن الولاياتالمتحدة مهدت لها الهيمنة على العراق نتيجة لحسابات وتصرفات خاطئة ارتكبتها في العراق، فما الذي يجعل حسابات صدام حسين الخاطئة تجاه إيران جريمة لا تغتفر؟ وفي الوقت نفسه يحلل الحسابات الأميركية الخاطئة والحماقات التي ارتكبتها بحق العراق وشعبه، ومن المستفيد من كل ذلك؟ إن المستفيد الأكبر من كل الذي يحصل هو الدولة العبرية في خروج العراق من دائرة الصراع العربي - الصهيوني والجمهورية الإسلامية في مد نفوذها على العراق والتحكم في توجهاته وثرواته في ما بعد، وهذا ما يفسره لنا احتفاء إيران وإسرائيل بإعدام صدام حسين، فالمصالح تلتقي وإن اختلفت الوسائل. ولكن المفارقة أن ملابسات الإعدام عرت الحكومة العراقية وتوجهاتها الطائفية، فبدلاً من أن تحقق العدالة في مجتمعها لتؤسس لدولة عراقية جديدة بعد صدام تبنى على أسس المواطنة والمساواة أمام القانون، اتخذت عملية الإعدام مساراً مغايراً تماماً، فالعدالة تحولت الى عملية انتقام والمواطنة تحولت الى انتصار فئة طائفية على حساب فئات الشعب الأخرى. هل يمكن لحكومة طائفية أن تؤسس لبناء دولة عصرية مهما حاولت أن تدعي ذلك؟ فهذه الحكومة الطائفية بدلاً من إذلال صدام وضعت نفسها في حال لا تحسد عليها، فالذين ينفذون القانون بدوا ملثمين يغطون وجوههم، في الوقت الذي يقابل خصمهم الموت بابتسامة وشهادة أن لا إله إلا الله، وكان بالنسبة لهم أسوأ كابوس أن يرى العالم صدام بهذه الصورة، فهم بهذا شنقوا أنفسهم أمام شعبهم وأمام الرأي العام العالمي قبل أن يشنقوا خصمهم وهذا ما يفعله الحقد، فغريزة الانتقام والحقد والمرض النفسي آخر ما يتمناه أي رجل دولة أن يراه العالم بهذه الصفات. وتشاء أقدار الله سبحانه وتعالى أن القيادة السعودية التي احتمى بها الشعب الكويتي حين غزو صدام لهم هي القيادة نفسها التي احتمى بها الشعب العربي ليعبر عن مشاعره تجاه الطريقة التي أعدم بها صدام، هذه القيادة التي تحمل صفات المروءة، والمروءة هي جوهر الأخلاق العربية التي نعتز بها. * أكاديمي سعودي