هناك من يرى أن محاولة وضع التطورات الأخيرة في العلاقة الإيرانية - المصرية ضمن سياقها التاريخي، وذلك عبر إعادة بناء هذا السياق ولو بشكل سريع وعابر، كما كنت قد فعلت في مقال الأسبوع الماضي «إيران ومصر: السعي المتعثر نحو الاستقلال»؛ أقول: هناك من يرى في ذلك محض «سرد تاريخي» قاصداً بذلك أنه مجرد «تجميع» و«استذكار» للأحداث من دون إبداء وجهة نظر محددة فيها. هذه الرؤية في اعتقادي سطحية، ذلك لأنها تنطلق من فرضية خاطئة تعتبر أنه بالإمكان أن تكون عملية التاريخ عملية محايدة. وهي خاطئة لأن كل عملية «تأريخ» هي عملية انتقاء وإبراز، أي انتقاء أحداث بعينها ثم إبراز سردية، أو قصة ما من خلالها، وكلتا عمليتي الانتقاء والإبراز هاتين تسعيان لتأطير القضية بسياق محدد يعكس رؤية الكاتب ونظرته للأحداث، فيكون ضمن السياق الذي يقدمه، يسعى لطرح وجهة نظره بأقرب ما يكون للموضوعية، وهذا ما سأحاول أن أتابعه هنا في حديثي عن العلاقات الإيرانية والمصرية. فلئن كانت المقالة السابقة حاولت رصد المحاولات المتعثرة المتقاطعة للشعبين الإيراني والمصري للتحرر من قبضة الاستعمار والاستقلال السياسي، فإنني سأحاول في هذه المقالة رصد جدلية الوفاق والصدام التي خضعت لها العلاقات السياسية بين البلدين منذ الأربعينات الميلادية من القرن ال«20». فلئن كانت سياسة الشاه، منذ تدبير الانقلاب على رئيس الوزراء الوطني مصدق، متحالفة مع إسرائيل ومنحازة للأحلاف الموجهة ضد العرب وقضاياهم القومية، فإن رد الفعل الناصري عليها كان قطع العلاقات بين الطرفين، ابتداءً من العام 1960، واستمرت علاقة العداء بين البلدين حتى نكبة 1967 التي أدت إلى ضعف وانحسار الزخم الثوري الناصري في المنطقة وصعود الدور الإقليمي الإيراني - الذي كانت علامته الأولى احتلال الجزر الإماراتية الثلاث عام 1971 بعد الانسحاب البريطاني منها - وبدء عودة العلاقات بين الطرفين بشكل تدريجي حتى 1970، إذ تم تبادل السفراء بين الطرفين. ومنذ تولي أنور السادات للرئاسة في مصر، بدأت صفحة جديدة للعلاقات بين الطرفين، تتسم بدرجة عالية جداً من الوفاق، إذ يذكر عبدالمنعم الحر أن عدد الزيارات الرسمية بين البلدين خلال فترة 1971- 1978 وصلت إلى 90 زيارة، وانعكس هذا التوافق بين البلدين في اتجاه مصر إلى الغرب والتخلي عن العلاقات السابقة مع الاتحاد السوفياتي، وبدء عملية السلام مع إسرائيل، وفي المقابل دعمت مصر الشاه حتى آخر أيامه، عندما قامت الثورة ضده، إذ أرسل السادات إلى الشاه نائبه حسني مبارك، مؤكداً له دعمه ويوظف وسائله الإعلامية والدينية لمهاجمة الثورة، انتهت العلاقة بين السادات والشاه بمنح الأول للأخير لجوءاً سياسياً عقب هروبه من بلده بعد نجاح الثورة الشعبية ضده عام 1979. ولأن الثورة الشعبية في إيران، التي ستتحول في ما بعد إلى «ثورة إسلامية»، قدمت نفسها كنقيض لكل ما كانه الشاه، أي ضد تحالفه مع أميركا، التي وصفتها الثورة ب«الشيطان الأكبر»، وضد تحالفه مع إسرائيل، إذ تم قطع العلاقات الإيرانية معها كافة وإغلاق مكاتبها ومقاطعتها اقتصادياً، وتبني القضية الفلسطينية، ودعم الفصائل والحركات المقاومة لإسرائيل في العالم العربي، فإن الثورة الإسلامية اعتبرت اتفاق السلام بين السادات وإسرائيل، واستقبال السادات للشاه، وقيادة مصر لنوع من «الثورة المضادة» أسباباً كافية لقطع العلاقات بين الطرفين، بل وسعي إيران لتحريض الشعب المصري على الثورة ضد السادات - الذي كان قد كفره الخميني - قبيل اغتيال هذا الأخير عام 1981، الاغتيال الذي قامت إيران بتسمية إحدى شوارعها على اسم قاتل السادات ووضع جدارية خاصة به. ومع بدء الحرب الإيرانية - العراقية الطويلة 1980- 1988، كان موقف مصر محايداً في البداية، نظراً لأن صدام حسين كان قد قام بقيادة الدول العربية من أجل مقاطعة وعزل مصر بسبب توقيعها لاتفاق السلام مع إسرائيل، إلا أن موقف مصر لم يلبث أن انتقل للدعم العسكري فالسياسي للعراق ضد إيران، وهو الأمر الذي فاقم من تردي العلاقات بين الطرفين. ولكن فور انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، بدأ طور جديد من العلاقات الإيرانية - المصرية بالتشكل من عام 1990، وهو عام محاولة العراق لضم الكويت بالقوّة إلى عام 2003، وهو عام الاحتلال الأميركي للعراق. ففي هذا الطور بدأت العلاقات بين البلدين بالعودة بشكل تدريجي بطيء على المستوى الاقتصادي والثقافي والإعلامي، إذ استمر منحنى التوافق بين الطرفين في التصاعد حتى عام 2001 الذي أعلن فيه مجلس بلدية طهران بتغيير اسم شارع «خالد الاسلامبولي» - قاتل السادات - إلى «شارع الانتفاضة». ووصل تصاعد العلاقات بين البلدين قمته عام 2003 عندما التقى حسني مبارك بمحمد خاتمي في جنيف بعد 24 عاماً من الصدام بين البلدين، وعلى رغم أن حينها تزايدت التوقعات بتطبيع العلاقة بين البلدين، إلا أن الفترة من 2003 إلى الثورة المصرية شهدت تدهوراً وتراجعاً في العلاقات بين الطرفين. وفقط ضمن سياق هذه العلاقة الجدلية بين الدولتين، يمكن استيعاب وفهم ما الذي يمكن أن يعنيه تطور العلاقات بين مصر ما بعد الثورة وإيران، وعلى رغم أن القضية الفلسطينية كانت معياراً أساسياً للتجاذب بين الطرفين، فإن الأحداث في سورية ستكون هي المحطة الرئيسة للكشف عن حقيقة تغير السياسة الخارجية المصرية وحجر الزاوية لصفحة جديدة في مسار العلاقة الجدلية بين مصر وإيران. * كاتب سعودي. [email protected] sultaan_1 @