أخيراً نطق القاضي رشيد عبدالرحمن على الرئيس السابق صدام حسين بالإعدام شنقاً بقضية الدجيل، مضيفاً فصلاً جديداً من فصول الأزمة العراقية التي أصبحت معالجتها أكثر صعوبة وأكثر استحالة من أي وقت مضى. إن انعكاس هذا الحكم وتنفيذه في العراق شاهده الملايين على شاشات الفضائيات، إذ ظهر جلياً التباين في المجتمع العراقي بين مؤيد للحكم ورافض له، فالمناطق ذات الغالبية الشيعية هللت وفرحت للحكم، بينما المناطق ذات الغالبية السنية تظاهرت تأييداً لصدام حسين ورافضة للحكم. إن هذا الحكم هو بمثابة صب الزيت على النار، في وقت تتكثف الجهود للبحث عن مخرج للأزمة العراقية التي بدأت الأمور تنزلق فيها إلى درجة نشوب حرب أهلية، وهو ما أصبح إلى درجة كبيرة واقعاً هذه الأيام، وعلى رغم نفي الحكومة العراقية الحالية والولاياتالمتحدة الأميركية إلا أن كل المعطيات والمتغيرات تؤكد عكس ذلك بما فيها تقرير لجنة بيكر - هاملتون الذي أكد صعوبة الوضع العراقي. ويبقى السؤال المطروح: من المستفيد من تأجيج الوضع في العراق سواء عن طريق محاكمة صدام حسين والحكم عليه بالإعدام، أم اتهام دول مجاورة بمساعدة المقاومة العراقية؟ هل هي الحكومة العراقية بعد وصولها إلى مأزق أمني كبير؟ أم الولاياتالمتحدة الأميركية؟ أم أن هناك جهات إقليمية أصبحت مصالحها مهددة باستقرار الوضع في العراق؟ إن الوضع العراقي ومحاولة إيجاد الحلول له تشترك فيها أطراف عدة مع اختلاف أهدافها ومصالحها وهي: أولاً: الحكومة العراقية التي ارتكبت الكثير من الأخطاء بدءًا بكتابة الدستور غير المنصف لكل العراقيين، وانتهاءً بالمليشيات المسلحة التابعة لأحزاب تشترك في الإتلاف الحاكم حالياً، والتي تعبث بأمن المواطنين سواء بالقتل أو التهجير، ما يؤثر على حيادية هذه الأحزاب في الحكم، إذ ركزت على مبدأ الانتقام من فئة معينة وهو ما أفقدها حياديتها بتأييدها لمليشياتها المسلحة ولقوات الاحتلال وانحيازها لجهة إقليمية في سياساتها متجاهلة البُعد القومي العربي للعراق. ثانياً: الولاياتالمتحدة، والتي جعلت النطق بالحكم قبل الانتخابات الأميركية لمجلس النواب والشيوخ بيومين، ما يثير تساؤلات مهمة قد تكون رسالة للمقاومة والسنة ولأتباع النظام السابق عن مدى قوة الأوراق التي تملكها ومن ضمنها حياة صدام ورفاقه، أو أنها كانت تود استخدامها لتعزيز فرص الفوز للجمهوريين بالانتخابات في مجلسي النواب والشيوخ، وتعزيز توجهها السياسي في العراق وغيره من المناطق الأخرى في العالم، أم أن الإسراع بالنطق بحكم إعدام صدام وتنفيذه هو لإيجاد مخرج لتسهيل دخول ومشاركة البعثيين في البرنامج الأميركي في العراق وضبط الأمن بعد العجز الذي أظهرته الحكومة الحالية. ثالثاً: الدول العربية، أرادت الولاياتالمتحدة من خلال المحاكمة ودعم طرف ضد الآخر إرسال رسالة للدول العربية بما فيها الجامعة العربية بمساعدتها في العراق وإلا النتيجة ستكون حرباً أهلية لا ينجو منها أحد، أما كيفية المساعدة فالدول العربية تنظر للعراق من منظور عربي، أي بمساعدة العراق بالخروج من هذا المأزق وعودته إلى الصف العربي ككيان فاعل ومستقر، وإبعاد التغلغل الخارجي عنه والتدخلات التي زعزعت وتزعزع استقراره سواء إقليمية أو دولية. رابعاً: إيران، لا شك أن إيران تطمح إلى إنهاء هذه المحاكمة بالحكم بالإعدام وتنفيذه سريعاً لتنهي حقبة من أشد الحقب اختلافاً بين الدولتين، والجميع يذكر الحرب التي دارت بين البلدين لمدة ثماني سنوات، كما يعلم الجميع أيضاً أن الأطماع الإيرانية في العراق والمنطقة العربية ليست وليدة الساعة بل هي قديمة جداً، وبدايتها منذ ظهور إيران كنظام سياسي مستقل يبحث عن دور إقليمي فاعل، إذ بدأ هذا التوجه منذ حكم الشاه وصولاً إلى الجمهورية الإسلامية حالياً. إن البوصلة الإيرانية تتجه شرقاً إلى العراق لاعتبارات كثيرة منها الجيوسياسية والاقتصادية والدينية، وكذلك لأنها الجهة الأضعف للتمدد الإيراني خارج الحدود، كما أن الملف النووي الإيراني احد العوامل المهمة المستخدمة في الأزمة العراقية، بغية تخفيف الضغط عليها، لذا نراها تتمسك بقوة بخيوط الأزمة العراقية الحالية متدخلة بشكل واضح وقوي في شؤون العراق الداخلية. خامساً: تركيا، أما بالنسبة لتركيا فقد أمضت فترة طويلة جداً في الابتعاد عن المحيط الإسلامي واتجهت نحو الغرب منذ سقوط الدولة العثمانية وحلول تركيا العلمانية محلها وانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن موضوع العراق الحالي بدأ يشغل بالها منذ حرب الخليج الثانية 1991، خصوصاً موضوع الأكراد وقلقها المتزايد من دعم الولاياتالمتحدة الأميركية لهم، لذا بدأت تركيا في تكثيف الجهود الديبلوماسية عبر زيارات قام بها مسؤوليها لكل من إيران وسورية، وعقد مؤتمر مصالحة في اسطنبول والتنسيق مع المملكة العربية السعودية في وجود حل ملائم للأزمة العراقية الحالية. سادساً: إسرائيل، تحقق الحلم الإسرائيلي بتمزيق العراق وإنهاء دوره العربي الفاعل كعمق استراتيجي لدول المواجهة سورية والأردن ومصر، وكسد قوي أمام هيمنة القوى الإقليمية المحيطة بالوطن العربي من الشرق والشمال، وهذا واضح بتدخلها السافر والمباشر في العراق مخابراتياً، خصوصاً في المناطق الكردية. مما تقدم يتضح جلياً أن احتلال العراق ومحاكمة وتنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين ورقتان بيد الولاياتالمتحدة الأميركية ترفعهما على الجميع لأغراض سياسية، على رغم إجماع المحللين السياسيين كافة في ما لو أنهت الولاياتالمتحدة احتلالها للعراق ونفذ حكم الإعدام بصدام حسين، فسياستها في العراق خاطئة ومدمرة، إذ أن العراق الآن بحاجة لقرارات تهدئ الوضع فيه لا أن تزيد التوتر والاحتقان بين طوائفه المختلفة، وهو ما تحاول الدول العربية فعله، خصوصا المملكة العربية السعودية التي تؤكد دائماً وعبر تصريحات جميع مسؤوليها"على الوقوف بالمسافة نفسها من كل الأطراف العراقية"، والتركيز على إنهاء العنف الطائفي الذي بدأ ينهش الجسد العراقي مؤثراً على تاريخ هذا البلد العربي العريق، ومنزلقاً به إلى حرب أهلية لا يعلم مدى تأثيرها إلا الله سبحانه وتعالى. إن اتخاذ موقف عربي قوي وصلب تجاه ما يجري في العراق أصبح حتمياً لإنقاذه وإنقاذ شعبه من التدخلات الخارجية الهادفة إلى خلق كيان ضعيف قائم على المحاصصة الطائفية أو على الحكم الذاتي لكثير من الأقاليم خدمة لأهداف هذه الدول التي تنوي، باستثناء العربية منها، إضعافه وتدميره وشل قدراته، إذ إن جميع الأفكار السابقة من محاصصة طائفية أو حكم ذاتي للأقاليم هي وصفات سياسية الهدف منها إضعاف العراق وإبعاده عن دوره العربي البناء. إن الحل الوحيد للوضع العراقي هو وجود حكومة مركزية قوية تفرض الأمن والاستقرار وبعيدة عن الطائفية والارتباطات الإيديولوجية الخارجية. أن التجربة السياسية اللبنانية يجب أن تكون من الدروس التي يستفيد منها العرب، إذ المأزق السياسي الحالي هو بسبب المحاصصة السياسية الطائفية التي عصفت بلبنان بأزمات سياسية مختلفة منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية عام 1975 إلى اتفاق الطائف الشهير، وصولاً إلى المأزق السياسي الحالي... فهل يراد للعراق أن يكون لبناناً ثانياً؟ * عضو مجلس الشورى