من الطبيعي أن تكون هناك اجتهادات مختلفة في عملية تقويم قضية معينة ماثلة أمامنا، والاجتهادات في جوهرها تدخل ضمن حقنا كبشر في الاختلاف، وقد يكون الاختلاف من أهم ما يميز الكون، وليس التماثل كما يعتقد البعض، وربما يعود سبب تكبيل روح الإبداع لدى الأفراد داخل المجتمع الى ذلك الوهم في محاولة الوصول إلى درجة التناسخ الكربوني للكتل البشرية التي تنتمي لثقافة واحدة، والاعتقاد السائد أن من لا يطابقنا فهو ضدنا بالضرورة. فعندما طرحت قضية مقاطعة المنتجات الدنمركية كوسيلة للتعبير عن رفضنا الإساءة للرسول الكريم علية أفضل الصلاة والسلام، كان هناك شبة إجماع على أن المقاطعة من أفضل الوسائل للتعبير عن هذا الرفض على اعتبار أن المقاطعة ممارسة كونية تستخدمها مختلف الشعوب والثقافات للإعلان عن مواقفها المختلفة وعلى اعتبار أن حرية الاختيار تعد المعادل الموضوعي لحرية التعبير. وبناء على هذا الفهم فإن فعل المقاطعة يتضمن استبعاد عنصر الكراهية والعداء والعنصرية أيضاً،على اعتبار أن المقاطعة تمارس داخل الثقافة نفسها كواحدة من وسائل الاحتجاج، والسؤال ما الذي تغير ليتطلب عقد مؤتمر للاستثناءات؟ وهل حققت المقاطعة أهدافها، بل هل كانت هناك أهداف محددة ومجمع عليها أم أنها كانت مجرد هبة عاطفية خف وهجها بمجرد انزياحها عن المشهد الاعلامى؟ منذ طرح القضية والجميع يعرف أننا لا نستطيع التأثير في الصحيفة التي نشرت الرسوم المسيئة بطريقة مباشرة، لسبب بسيط وهو أننا لسنا من قرائها لنمتنع عن شرائها، وبالتالي فان المعلنين سيحجمون عن نشر إعلاناتهم في الصحيفة، سواء للوصول إلينا أو لاسترضائنا، كي لا نقاطع منتجاتهم، والتي شاؤوا أم أبوا سنعتبر إعلاناتهم دعماً لتوجهاتها المرفوضة منا، لذلك كانت الوسيلة المتوافرة لدينا والتي بإمكاننا ممارستها عملياً هي المقاطعة الشاملة للمنتجات الدنماركية من دون استثناء، وهذا هو القرار العقلاني في ظل الشروط الموضوعية التي نتعامل معها، على اعتبار أن المقاطعة الاقتصادية حين تأخذ مداها الزمني ستؤثر في الوضع المالي لهذه الشركات، وهذا بطبيعة الحال سيدفعها للضغط على الصحيفة لتقديم الاعتذار، وقد يتعدى ذلك للضغط على الحكومة عن طريق الضغط على المشرعين المنتخبين من خلال دوائرهم الانتخابية، والذي يشكل العاملون في الشركات التي نقاطعها اصواتاً انتخابية لا يمكن لمن يريد الدخول في البرلمان تجاهلها، ويجب ان نعلم نحن المسلمين الذين يدعون للمقاطعة أن هؤلاء الناخبين لا يمارسون الضغوط حباً لنا إنما من اجل المحافظة على وظائفهم التي ستقلص أعدادهم إذا ما استمرت لفترات طويلة، وتكبدت الشركات خسائر مادية جراءها. وفي العمل السياسي لا يجب علينا أن نأبه بمسألة الحب، وإنما يجب أن يكون التركيز على صراع الإرادات، فإرادة الشعوب مع الصبر والمثابرة هي التي تنتصر في المحصلة النهائية، وهذه المسيرة الملتوية للوصول إلى الأهداف من مساوئ الديموقراطية الغربية التي ينبغي علينا فهمها والتعامل معها. ولكن المجتمعات الغربية خصوصاً مثقفيها وصناع القرار فيها يعتقدون أننا ما زلنا في مرحلة البنية الثقافية السحرية التي تحركها العاطفة والانفعال وتغفل العامل الزمني في ممارساتها. وللأسف إن بعض قرارات المؤتمر العالمي لنصرة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم تتسق مع النظرة الغربية السائدة التي ترى انفعالية الشعوب الإسلامية وحماستها الموقتة في طرح قضاياها من دون التريث لكي تحقق أهدافها، ففي الوقت الذي بدأت الشركات الدنماركية تعاني من ضغوط المقاطعة حيث سرحت إحداها ما يقارب من 50 عاملاً اثر الخسائر التي تكبدتها من جراء المقاطعة ليأتي توقيت المؤتمر بقصد أو غير قصد، ليجهض كل هذه المجهودات، وذلك باستثنائه لأكبر الشركات الدنماركية العاملة في المنطقة العربية من المقاطعة. ومن المآخذ التي يراها كثيرون الذين يختلفون مع توقيت المؤتمر هو عملية التمويل، لان هناك مسلمات في أخلاقيات المؤسسات التعليمية والجمعيات الخيرية والمنظمات التي تعنى بالشأن العام وهو عدم قبول التبرعات والهبات المشروطة، وذلك خوفاً من التأثير في سياسات هذه المنظمات، وحتى تضمن اكبر قدر من استقلالية توجهاتها، ولكن كيف تكون الحال عندما تكون الجهات المستفيدة مباشرة من قرارات المؤتمر هي نفسها التي قامت بتمويله أو على الأقل بجزء من تكاليفه. وقد يقول القائمون على المؤتمر إن التمويل المالي لم يكن مشروطاً، وهذا قد يكون صحيحاً ولكن توصيات المؤتمر أفضت إلى النتيجة نفسها التي تتحاشاها المؤسسات والمنظمات المستقلة والتي لا تقبل التأثير في قراراتها، سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة، والشيء الآخر المزعج في المؤتمر ان الشركة التي استثنيت منتجاتها من المقاطعة بدلاً من ان تساعد في تحقيق الهدف الأساسي من المقاطعة وهو التوجه إلى الجمهور الدنماركي وتعريفه بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن طريق انفاق جزء من أرباحها في إعلانات مدفوعة للمؤسسات الإعلامية الدنماركية وبدلاً من عقد ندوات ومؤتمرات داخل المجتمع الدنماركي بكل مكوناته وأطيافه حتى على الأقل تتقاطع أهدافها مع أهداف المقاطعين وهو الأساس والجوهر من عملية المقاطعة برمتها، بدلاً من ذلك كله توجهت الشركة إلى الجمهور العربي عن طريق الإعلام المدفوع للتعريف بجودة منتجاتها، مستغلة بذلك توصيات المؤتمر وتوقيعات القائمين عليه، وهذه الممارسة بحد ذاتها تكشف لنا عن طبيعة العقلانية الغربية التي تسعى لكسب كل شيء وتجنب أي خسارة تذكر، لنظهر نحن المسلمين أمام العالم كمغفلين يبددون أموالهم من دون معرفة العلاقة السببية بين الوسائل والأهداف. أنا هنا لا اتهم احداً ولكنني اعتقد أن القائمين على المؤتمر اجتهدوا وان اجتهادهم هذا قد أجهض كل مجهوداتهم في الوصول إلى الهدف الذي يسعون لتحقيقه، وكنت أتمنى لو أن المؤتمر لم يعقد في هذا الوقت المبكر وبهذه الطريقة، ولكن في التحليل النهائي يبقى الإنسان المسلم هو الذي يملك حرية القرار سواء في المضي في المقاطعة او عدمها، ومن حقنا على القائمين على المؤتمر ان يتقبلوا وجهة نظرنا هذه التي لا تتفق مع اجتهاداتهم وان نقبل جميعاً ان النوايا لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى وهو مولانا ونعم النصير. * أكاديمي سعودي