بعد مشاعر الحماسة والغضب التي عمت أرجاء العالم الإسلامي منددة بالصحف التي أعادت نشر الرسوم المسيئة إلى الرسول، وقبل ذلك "الدنمارك، تكاد عاطفة الغضبة تنتهي من دون نصر تأمّله الحكماء من ورائها. ومع أن التحركات الإسلامية في السياقات السياسية والمدنية قيل إنها كثيرة على صعد شتى إلا أن المراقبين للساحة لا يجدون شيئاً ملموساً عدا أحاديث لم ترتق إلى اتفاقات بعد بين منظمتي المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي. وبدا ملاحظاً أن صوت التهييج الذي طغى أول الأمر بين مختلف شرائح السعوديين - خصوصاً بين علماء الدين- شهد تراجعاً فيما غلب على السطح الآن الدعوة إلى العقل والوصول إلى نتيجة في حصيلة تنتهي إلى مساع من أطراف عدة لتطويق"غضبة الرسوم". ويعبر الناشطون في ما بات يعرف إسلامياً وعالمياً بقضية الرسوم عن مخاوفهم من تطور الغضبة إلى انتشار فوضى، وهذا ما دفع دعاة سعوديين بارزين مثل الشيخ سلمان العودة وعائض القرني إلى التحذير من الفوضى، والدعوة إلى العقل بدلاً من تصعيد المقاطعة، وإن كان إيمانهم باستمرار هذه الأخيرة لا يزالون مستمسكين به. { الرياض - مصطفى الأنصاري إذا كانت"طاسة"المقاطعة ضائعة كما يقول المثل السعودي للأمر الذي يندفع من دون أي تنظيم يذكر، فإن حصادها أيضا يوشك على الضياع، إذ يعرف عالمياً أن الغضبات الشعبية مهما كانت صادقة وشجاعة لا تملك نَفَساً طويلاً للاستمرار إلا إذا استمرت تداعيات التهييج. ومع غياب تلك التداعيات بسبب الخطورة الحقيقية التي أدركها العالم أخيراً لأي نوع من هذه الاستفزازات بدأت مشاعر الإحباط تتسلل إلى بعض المقاطعين من المجتمع السعودي أملاً في الشعور بأن نبيهم قد انتصر له أولاً، ثم أن لا تذهب تضحيتهم بلا ثمن ثانياً. التخوف من الملل من دون نتيجة ولهذا بدا على الداعية السعودي سلمان العودة التخوف من ركود الغضبة من دون نتائج وقال في حوار تلفزيوني:"إنني أسأل نفسي أحياناً إلى متى ستستمر المقاطعة؟"، في إشارة إلى أنه لا يعول على استمرارها، ولكن على القرارات التي تُتخذ استجابة لها. والمقاطعة التي كاد المسلمون بإعطائها بعداً عنيفاً تلحق بها الهزيمة بعد أن حققت انتصاراً فريداً كما قيل، لا تزال تخيم ببعض ظلالها السلبية على مؤسسات اقتصادية وإعلامية، بسبب اتخاذها"قميص عثمان"أو ذريعة للتخوين والتبديع والتفسيق. ولهذا بات سهلاً على كل شخص يريد النيل من مؤسسات ما، أن يتهمها بالخائنة لله ولرسوله بدعوى النكوص عن الانضمام إلى المقاطعة الاقتصادية وإن كانت هي في واقع الأمر كذلك. وكانت آخر فصول هذا المسلسل شن بعض المواقع الإلكترونية لحملة ضد صحيفة سعودية محلية، لأنها اقتبست صوراً من الرسوم، ودعت المختصين إلى التعليق عليها. وعلى رغم اعتبار المفتي العام للسعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ فعل الصحيفة جهداً تشكر عليه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الذين ربما لا ترضيهم سياسة الصحيفة اتخذوا الرسوم ذريعة للي ذراعها ودفنها في مهدها"قبل أن يقوى عودها"كما قال أحدهم في أحد المنتديات. ميدان لتصفية الحسابات والفتاوى وتتزامن تصفية الحسابات من هذا النوع مع اجتهادات أخرى من جانب دعاة يحرمون تناول المواد الغذائية المنتجة من الدنمارك، واعتبرها البعض منهم مساوية ل"لحم الخنزير"، ما اعتبره العلماء الناشطون في الدعوة للمقاطعة نفسها إجحافاً وتحريماً لما أحل الله. وهذا التطرف من جانب المتحمسين لتصعيد المقاطعة، والذي دفع بعضهم إلى عدم الرضى بحل ٍغير قتل رئيس تحرير الصحيفة، يقابله تطرف آخر من جانب المقللين من أهمية الغضبة الإسلامية، إذ خرجت أصوات ترى أن الرسوم وجد منها المتطرفون المسلمون وسيلة لتأجيج الكراهية والغضب ضد الغرب، ما اعتبر من الأطراف الأخرى تخذيلاً للإجماع الإسلامي في الرد على إهانة النبي العظيم. ويرى المستشار في وزارة الداخلية السعودية الدكتور سعود المصيبيح أن الإجماع على ساحة بلاده المحلية لا يزال معقوداً على الاستمرار المقاطعة في صورتها الشعبية. والمصيبيح إضافة إلى تأييده"استمرار المقاطعة الاقتصادية بالأسلوب نفسه الذي بدأت به بمقاطعة منتجات البلد الذي سخر برسولنا، ولا مجال للتوقف قبل الاعتذار الرسمي، وحتى تقر الدولة ورئيس وزرائها بالخطأ وتحاسب رئاسة تحرير الصحيفة ومن رسم"، حذراً من أن" مزيداً من التهاون في تلك الإجراءات ربما يؤدي إلى كارثة". ولا يرى المستشار في حديثه مع"الحياة"أي قيمة لرأي يخالف الإجماع الإسلامي، معتبراً"المرجع في استمرار المقاطعة ووقفها منوطاً بعلماء الشريعة". وأضاف:"كذلك لا يجوز أن تستغل المقاطعة لأهداف أخرى، مع أني لا أرى شيئاً من بوادر التطرف في النموذج السعودي من المقاطعة، والغضب للنبي عار أن يكون محل مزايدة أو تشكيك، ومن لا يرى من المقاطعة جدوى علينا أن نحاوره ونقنعه لكسبه في صفنا". خطيب يعلق المقاطعة بإسلام الدنماركين! وعلى عكس المصيبيح يرى الباحث الإسلامي المتابع لتحركات المتطرفين على الانترنت ماجد المرسال أن"المتطرفين هيأ لهم الإجماع الإسلامي على المقاطعة فرصة للتنفيس عن بعض آرائهم المخالفة للمنهج السوي". وأبدى خشيته من أن يفسد هؤلاء ثمرة"الغضبة وأن يصرفوها عن أهدافها، ويقودوها إلى نتائج عكسية، بينما كان أمل السواد الأعظم من المسلمين أن تنتهي الغضبة بسن قانون يضبط حرية التعبير". وأشار المرسال إلى أنه من واقع رصده الغضبة يرى أنه من المهم أن يحذر الغاضبون من نقل المعركة من"خلاف مع الدنمارك إلى خلاف بين أطراف إسلامية - إسلامية، فهناك من يشككون ويخونون ومن ينادون بالنكران على شخصيات سياسية بعينها يعتقدون بأنها لم تقم بما يجب نحو الأزمة". واتهم المحرضين على المقاطعة بالوقوع في تخبط"دفعهم إلى إقحام شركات سعودية أو غير دنماركية في نشرات المقاطعة، ما أحدث فوضى على الساحة وألحق بتلك الشركات بعض الظلم". ويرى أن إضفاء الشعوب على الأزمة بعداً سياسياً ربما قاد بعض الناس إلى الملل من الحديث عن"القضية"بينما في نظره"الأوفق أن يغلب على الغضبة الحديث عن الرسول بوصفه نبيا مرسلاً، وهادياً ومبشراً ونذيراً، وربط الناس بشخصه اقتداء وحباً". وانتقد في المحرضين على المقاطعة حديثهم عنها كما لو أنها"غاية وليست وسيلة للضغط، فتراهم يدعون إلى مقاطعة من لا يقاطع، وتوسيع دائرة المواجهة بلا وعي". وتبعا لذلك كما يرى المرسال"ظلت الأهداف المتفق عليها ضبابية وغير معلومة من جانب العامة الذين أبدوا استعداداً رائعاً للدفاع عن نبيهم، فلم تحدد الرؤوس الكبرى في المناداة بالمقاطعة سقفاً لها، ولا الخطوات العملية المقرر اتخاذها وحشد التأييد لإحرازها". وأشار إلى أن هذا التخبط كما يسميه"فتح باباً واسعاً من الاجتهادات غير الموضوعية في المسألة التي يجمع عليها كل المسلمين، من ذلك أنني سمعت خطيباً شهيراً بأذني يرى واجباً أن يستمر السعوديون والمسلمون في مقاطعة الدنماركيين حتى يدخل الشعب الدنماركي في الإسلام فردا فرداً، وآخر ينادي بالقصاص الذي لا يطبق حتى في معظم الدول الإسلامية". هذا الحد من غياب الموضوعية يراه المرسال"منذراً بإفقاد المقاطعة والغضبة الإسلامية المباركة قيمتها".