لطالما ارتبطت مدينة بعلبك في الأذهان بمهرجاناتها الدولية وبالقلعة الرومانية الشهيرة، ما أضفى عليها صبغة سياحية براقة أخفت تحتها تحولات جذرية طاولت نسيج المدينة الاجتماعي وتركيبتها السكانية وانقساماتها، او بالأحرى ولاءاتها السياسية. وإذ نقلت المهرجانات هذا العام"استثنائياً"من بعلبك الى بيروت، بعدما عادت المدينة"مكاناً ودوداً"وفق المنتقدين، ولأنها"محزونة على شهدائها"وفق المؤيدين، تكشفت أحوال الناس وأهواؤهم خصوصاً في ما يتعلق بالمشاركة في القتال في سورية. فمن يستمع إلى حجج البعلبكيّين المدافعة عن سياسة"حزب الله"السوريّة، لا يفوته أنّهم أشدّ تصلّباً من الحزب نفسه، وأنّهم يتقدّمونه خطوة على الطريق التي رسمها لهم. لكن ذلك ليس موقف أبناء المدينة الفعليين الذين شعروا بأن العشائر وأبناء الأرياف المحيطة وضعوا اليد على أحيائهم ونفوذهم بقرار مباشر من"حزب الله". هذا ويذهب بعض"الموضوعيين"الى تفسير ما آلت اليه المدينة من إهمال وإفقار، إلى زمن سابق على الحزب ووجوده، زمن ارتبط فيه بعض زعماء العشائر بالمكتب الثاني في عهد فؤاد شهاب، فمدّهم بالسلاح والنفوذ من دون الإنماء. ويستذكر هؤلاء أيضاً في مفارقة مدهشة نسبياً أن الرئيس الذي"له فضل"على المدينة ومحيطها القريب هو كميل شمعون الذي اسس مستشفى ووضع أولى لبنات مشاريع انمائية لم تر النور. إنها مدينة المفارقات، من زراعة حشيش في أريافها تعد هذا العام بموسم ناجح، إلى بيئة غير متدينة عموماً تؤيد"حزب الله"، إلى صور للملك حسين لا لجمال عبدالناصر رفعت ذات يوم في منازلها. "الحياة"جالت في بعلبك وتنشر تحقيقاً عنها. هنا حلقة أولى: حين أُعلن عن نقل"مهرجانات بعلبك الدوليّة"، لسنة واحدة، إلى جديدة المتن، تساءل كثيرون عن السبب أو اعترضوا على النتيجة. والحال أنّ المسافة بين بيروت وبعلبك والطريق الخطرة نسبيّاً ليستا وحدهما ما بات يثبّط العزائم في حضور تلك المهرجانات. ذاك أنّه بات لها، وللمدينة التي ترعاها، نكهة مختلفة بعد حرب تموز يوليو 2006. وهي، وفق واحد من أبناء بعلبك، نكهة"غير ودودة": إذ كيف تتكبّد عناء الطريق إلى البقاع ليلاً، لحضور أوبرا إيطاليّة أو باليه روسيّة، ولا تستطيع، بعد العرض، ارتياد مطعم واحتساء كأس نبيذ؟ لقد بات مَن يرتاد القلعة ومهرجاناتها محكوماً بالهرولة إلى بيروت بمجرّد أن ينتهي من مشاهدة الفِرق الفنّية، فكأنّ ما تجرّأ عليه مجرّد وقت مقتطع من متعة وظيفيّة. ووفق متابعي المهرجانات سنةً بعد سنة، ثمّة جوّ مختلف راح، ببطء شديد، يتسلّل إلى القلعة ومحيطها، فارضاً نوعاً خاصّاً من السياحة"المقاومة"ومخاطباً زوّاراً لا تخاطبهم شهرة المهرجانات العريقة. فقد فوجئ، مثلاً، من حضر أوبرا"لا ترافياتا"في 2009 بارتفاع صوت الأذان من مكبّرات مجاورة، ولفترة طويلة نسبيّاً، كما لو أنّه تشويش مقصود. وبدوره تكرّر الأمر مع مغنين وفنّانين آخرين، كما في عرض باليه"آنّا كارينينا"لبوريس إيفمان في 2010، حين سُمع صوت رصاص وأذان أدّى إلى وقف العرض لدقائق. ورواية الرواة لا تخلو من أوصاف ونعوت. فالداخل إلى القلعة والخارج منها كان يستقبلهما شبّان ملتحون يختلطون بالمنظّمين و"يساعدونهم"في تفتيش الحقائب وإدارة الدخول والخروج. أمّا بضاعة المحالّ التي تبيع التذكارات فاختلفت عمّا ألفه الزوّار والسيّاح من خزفيّات وعلاّقات مفاتيح خشبيّة أو صور قديمة للقلعة وغير ذلك ممّا يصنعه الفولكلور المحليّ. لقد طغت تذكارات أخرى غير معهودة في التجارة السياحيّة، كأعلام"حزب الله"الصغيرة التي تُثبَّت على المكاتب، وأقلام وقدّاحات يعكس ضوؤها وجه الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله. أمّا نجم ال"غادجيت"فغدا قياديّ الحزب عماد مغنيّة الذي اغتيل في 2008، بحيث زيّنت صورته كلّ ما يمكن شراؤه من تلك الحوانيت. وهذا، في عمومه، أقرب إلى خلفيّة مسكوت عنها وراء القرار الأخير، خلفيّةٍ تشي باستحالة التوفيق بين عالمين متضادّين. فالذي يزور القلعة يلتحم بها كأنّه يطلب الحماية منها، فلا يجرؤ على الابتعاد مترين عنها متوجّساً من مدينة باتت قليلة الصداقة مع السيّاح، عازفة عن البيع والشراء أو متعالية عليهما. لكنّ جمهور الحزب ومؤيّديه يَبدون مسلّحين برواية بريئة تستغرب نقل المهرجانات، كما تستهجن ما اعتبرته لجنة المهرجانات وضعاً أمنيّاً غير ملائم. هكذا يرى بسّام رعد، رئيس البلديّة السابق والبعثيّ المقرّب من"حزب الله"، أنّ سبب النقل"تخوّف اللجنة"غير المبرّر، إذ"نحن على العكس، احتضنّا الناس ورحّبنا بهم وحرصنا على أمنهم وسلامتهم". أمّا الذين يقولون إنّ البلديّة، التي يهيمن عليها الحزب، هي مَن طلب الإلغاء أو النقل، فيستشهدون بمواقع إلكترونيّة عدّة ذكرت أنّ"حزب الله"أبلغ اللجنة استياءه"من استقدام فرق أجنبيّة عموماً، وأميركيّة خصوصاً، معتبراً ذلك إهانة لتراث المدينة المقاوم". ضدّ السياحة ما من شكّ في أنّ الرواية الفولكلوريّة اللبنانيّة عن مهرجانات بعلبك تغفل أموراً كثيرة منها غربة لجنتها عن أهل المدينة وجوارها، وكونها المستفيد الأوّل من عائدات المهرجانات. لكنّ هذا لا يلغي الفوائد التي يجنيها أصحاب الفنادق والمطاعم والدكاكين والبسطات السياحيّة فضلاً عن الأدلاّء، وكلّهم بعلبكيّون. يضاف إلى ذلك أنّ عائدات زيارة القلعة، بمهرجان أو من دونه، يذهب نصفها إلى بلديّة المدينة ونصفها الآخر إلى وزارة المال. وعلى العموم فهذه المساحة البالغة 43 كيلومتراً مربّعاً، التي هي مدينة بعلبك، ليست صناعيّة ولا زراعيّة، ما يحتّم الاكتراث بسياحةٍ تبوّئها القلعةُ الرومانيّة الشهيرة موقعاً متقدّماً. لكنّ بيئة"حزب الله"التي يستقلّ اقتصادها عن اقتصاد بعلبك، ليست متضرّرة من نقل المهرجانات، على ما يبدو. والتبايُن هذا رتّب من السياسات ما انعكس سلباً على مصادر عيش المدينة. فقد عانى البعلبكيّون نتائج التراجع المنتظم، عاماً بعد عام، في زيارة القلعة، ثمّ انكماش السيّاح الذي كثيراً ما أُرفق بتحذيرات بعض الدول لرعاياها، قبل أن يعانوا سقوط قذائف في محيط المدينة إثر تدخّل"حزب الله""الجهاديّ"في سوريّة. وهذا فضلاً عن أحداث متفرّقة كمثل اختفاء معبد الإله ميركور، قرب ثكنة الشيخ عبد الله، تحت أبصار الجنود السوريّين، أواخر التسعينات. لقد باتت السياحة الوحيدة التي تلقى التشجيع"السياحة الدينيّة"، وغالبها من إيران، حيث يرمز مقام السيّدة خولة، في مدخل المدينة المفضي إلى القلعة، بهندسته الإيرانيّة وزخرفته المفرطة، إلى الوجهة الغالبة. وهنا أيضاً، بات أوّل ما يطالع الزائرَ مشهدُ المقام، عوضاً عن شارع مستقيم تلوح في أفقه أعمدة المعبد الرومانيّ. وفي سياحة كهذه، تتجمّع"بوسطات"كثيرة في رأس العين، تأتي بالمؤمنين وتُعيدهم من حيث أتوا، إلاّ أنّ ما يتحصّل ماليّاً منها يكاد لا يُذكر. يبلور هذا الافتراقَ بين الحزب ومصالح البعلبكيّين أنّ نقابة التجّار في المدينة لا تزال في يد عائلاتها، وأنّ الحزب لم يستطع وضع اليد عليها. مع ذلك يتأدّى عن الزواج القائم بين الحزبيّة المؤمنة وبين التدفّق الريفيّ على المدينة ضرب آخر من العدوان على حياتها التجاريّة. فالتجّار يدفعون"الخوّة"كي لا تتعرّض محالّهم لإطلاق نار، وكي لا يتعرّضوا لما تعرّض له زميلهم، تاجر الثياب الداخليّة، حسين علي عواضة، الذي تعرّض للخطف لأنّه تصدّى لفارضي"الخوّات". ويذكر تجّار في تلك السوق أرقاماً يقولون إنّها"خوّات شهريّة"تتعدّى أرباحهم أحياناً، بيد أنّهم يخافون التصريح عن ذلك. وهذا فضلاً عن المشاجرات المصحوبة باستخدام السلاح والتي يتأدّى عنها إغلاق السوق لفترة تطول أو تقصر. وبدوره، يروي المحامي غالب ياغي رئيس البلديّة بين 1998 و2004 والذي فاز في معركة حاسمة ضدّ"حزب الله"، تجربته التي لا تخلو من دلالات. فقد كان همّ البلديّة في عهده إرجاع بعلبك مدينة سياحيّة وإقامة بُنية تحتيّة ملازمة لذلك، فضلاً عن توفير الأمن بطبيعة الحال. وقد طمح ياغي إلى إنشاء جهاز لموظفّي البلديّة تتوافر فيه المعايير التي يتطلّبها الاحتكاك بزوّار أجانب، كأنْ يكون الشرطيّ حاملاً شهادة البكالوريا، والحارس حاملاً الشهادة المتوسّطة. وسريعاً ما اكتشف المجلس البلديّ الذي يرأسه مخالفات سير واحتلال أرصفة وإعاقات من هذا القبيل، فقرّر إزالتها. لكنْ حين وصل التنظيم الجديد إلى محيط فندق بالميرا، تدخّل"حزب الله"لدى ضبّاط الأمن السوريّ لثني ياغي ورفاقه عن مهمّتهم، بحجّة أن البلديّة"لم تنسّق معنا". وفهم رئيس البلديّة أنّ أعيان"حزب الله"مستفيدون من مكاتب ومصالح وعلاقات لا تستسيغ ما يقوم به. واليوم، وبحسب ما يروي المهندس حيّان حيدر، تتنادى فعاليّات وجمعيّات ووجهاء لحمل لجنة المهرجانات على التراجع عن قرارها. لكنّ هذه المحاولة الحسنة النوايا ستصطدم حكماً بثقافة غالبة مفادها أنّ"السياحة حرام". يكفي للتأكّد من هذا، وممّا آلت إليه بعلبك، دخول فندق بالميرا، المهجور والمعتم، قبالة القلعة، أو زيارة فندق كنعان الذي آثر أصحابه تصنيفه فندق ثلاث نجوم مع أنّه يملك مواصفات الفندق ذي النجوم الخمس، وفق التصنيف المعمول به. فحين سألنا النادل عن سبب هذه التضحية الطوعيّة، قال إنّ الفندق خسر نجمة لأنّه لا يقدّم الخمر، وخسر نجمة أخرى لأنّ لا سباحة فيه. والقناعة، طبعاً، كنز لا يفنى. "إهمال الدولة" يشكّل"إهمال الدولة"، دائماً وأبداً، الخلفيّة البعيدة لكلّ ما هو منشقّ أو متمرّد أو خارج على القانون في البقاع. يندرج في هذه الخانة بعض سلوك العشائر أو الزراعات والتجارات الممنوعة، كما يندرج الحديث عن"حزب الله"وجاذبيّته. وإذا كان ذاك الإهمال حقيقة يصعب تجاهلها، فإنّ الكثير ممّا يُحشر في"الإهمال"يمكن ردّه إلى تفاوت موروث حكمَ ولادة"لبنان الكبير"ما بين الجبل و"الملحقات"، وإلى عمر قصير عرفته أزمنة الاستقرار بما لم يُتح رأب الصدع المزمن، لا سيّما أنّ أبناء"الملحقات"كانوا دائماً الأكثر تجرّؤاً على تلك"الدولة"وإضعافاً لها. لقد كان أوّل مشاريع البنية التحتيّة في البقاع مشروع اليمّونة إبّان الانتداب الفرنسيّ. لكنّ العهد الاستقلاليّ الأوّل برئاسة بشارة الخوري اهتمّ بتأمين الخدمات والتنفيعات لزعماء المنطقة، لا سيّما منهم صبري حمادة الذي شارك الخوريّ الانتماء إلى الكتلة الدستوريّة. وعلى رغم شهرة بعلبك بينابيعها، لم تصل الماء إليها إلاّ في الأربعينات، وقد ارتبط ذلك، وفق رواية البعلبكيّين، بقائمقام اسمه عبدالحليم الحجّار. أمّا المدارس القليلة فاقتصرت، حتّى الأربعينات، على توفير شهادة السرتيفيكا الابتدائيّة. ويجزم أكثر من بعلبكيّ بأنّ كميل شمعون هو رئيس الجمهوريّة الوحيد الذي"أفاد المنطقة". فيقول الصحافيّ والكاتب أحمد الغزّ إنّ الحقبة الشمعونيّة تحتلّ مكاناً عريضاً"في وجدان البعلبكيّين"، تبعاً لخدمات ومشاريع منها مهرجانات بعلبك التي أنشئت في 1954 والاهتمام بالآثار والتنقيب عنها والتخطيط لمداخل المدينة ومخارجها وتخصيص موازنات ضخمة نسبيّاً لبلديّتها وبناء مستشفى بعلبك الذي كان، وفق المحامي دريد ياغي،"أحلى مستشفى في لبنان". ويبدو أنّ تولّي سليم حيدر الوزارة غير مرّة، لا سيّما وزارة التربية، كان له دوره في توكيد هذه الوجهة، لا سيّما على صعيد التعليم وبناء المدارس. وبالفعل انعكست الشمعونيّة على الحياة السياسيّة الداخليّة، فترافقت مع بروز حلفاء لها كحيدر الشيعيّ، أو حبيب المطران، ملاّك الأراضي والقطب الكاثوليكيّ. أمّا المرحلة الشهابيّة فعلى رغم المؤسسات التي أنشأتها على نطاق وطنيّ، لم تخرج بحصيلة بقاعيّة يُعتدّ بها. هكذا يرى عبدالوهاب أمهز، وجيه آل أمهز، أنّها"على عكس ما يشاع"،"أخّرت المنطقة أكثر مما أفادتها. فهي دخلت عميقاً في تركيبتها العشائرية وحوّلت زعماءها موظّفين لدى الشعبة الثانية". لقد جاء شهاب بوسيط بين الدولة والعشائر هو ضابط الدرك بطرس عبدالساتر الذي عيّنه مستشاراً لشؤون العشائر، كما سلّحها وخصّص لرؤسائها الرواتب ورخص الأسلحة، فمنحها حكماً خاصّاً صارت بموجبه تحظى بمحكمة مستقلّة ومجلس صلح وسجن يقتصر عليها. ومن خلال هذه الموارد والامتيازات تمّ، وفق أمهز، تشجيع السكّان على مغادرة قرى المنطقة والتخلّي عن الزراعة. وبعد البعلبكيّين سليم حيدر وحبيب المطران، حلّ في زعامة بعلبك ? الهرمل الهرمليّان صبري حمادة، الذي غدا الرئيس الثابت لمجلس النوّاب، وفضل الله دندش بوصفه أبرز رموز التمثيل السياسيّ للعشائر. لكنّ أخطر ما فعله العهد الشهابيّ، اضطراراً منه لإرضاء"الجمهوريّة العربيّة المتّحدة"ورئيسها جمال عبدالناصر، أنّه تقاسم السيادة معهما على البقاع. هكذا، مثلاً، سمّى شبلي العريان نفسه في 1960، إبّان ترشّحه عن المقعد الدرزيّ في البقاع الغربيّ،"مرشّح الجمهوريّة العربيّة المتّحدة"، وما لبث العريان أن حلّ نائباً في البرلمان. والسياسة هذه لم تكن بحال استجابة لإجماع شعبيّ. فيذكّرنا، مثلاً، المصوّر الصحافيّ مالك كنعان بأنّ الملك الأردنيّ حسين كانت شعبيّته لدى البعلبكيّين أكبر من شعبيّة عبدالناصر، وهذا فضلاً عن وقوع أجزاء معتبرة من البقاع في متصرفيّة جبل لبنان ودخولها في علاقات حميمة مع موارنة بشرّي وتنّورين وجوارهما. بطبيعة الحال ارتبطت بعلبك ارتباطاً وثيقاً وتقليديّاً بسوقي حمص ودمشق، لكنّ الشهابيّة أتاحت لها التحوّل بوّابة مشرعة على سوريّة وبوّابة سوريّة مشرعة على لبنان. وكان من يهندس تلك التوازنات ضبّاط الشعبة الثانية "المكتب الثاني" الذين تولّوا الصلة المباشرة بالعشائر. وثمّة من يرى في تلك العلاقة المثلّثة الأضلاع بين الدولة اللبنانيّة والعشائر وسوريّة"مدرسة"كان أبرز خرّيجيها اللاحقين اللواء جميل السيّد الذي تسلّم الأمن العامّ إبّان حكم الرئيس العسكريّ إميل لحّود وفي ذروة عهد الوصاية السوريّة. حركة الصدر لم يكن بلا دلالة أن تستهوي مكافحة"الحرمان"التي رفعها السيّد موسى الصدر سكّان منطقة بعلبك. وبالفعل أقيم هناك أوّل المهرجانات الكبرى لزعيم"المحرومين"، وكان ذلك في آذار مارس 1974، حيث أطلق صرخته الشهيرة"السلاح زينة الرجال". يومها تبدّى أنّ موضوع الافتخار العشائريّ المديد، أي السلاح، بات قابلاً لأنّ يصبّ في وجهة أخرى هي الطائفة المحزّبة. ولأجل غرض كهذا، أقام في بعلبك الإيرانيّ مصطفى شمران الذي غدا لاحقاً وزير دفاع في إيران الجمهوريّة، فتولّى تدريب الشبّان الذين التفّوا حول الصدر على"زينة الرجال". لقد كرّست حركة الصدر بعض الوقائع الناشئة عن الشهابيّة كما أمعنت في تطييفها. فقد تعاهدت عشائر الشيعة على الامتناع عن الثأر في ما بينها بموجب"وثيقة دم"وقّعتها بحضّ من الإمام، وكان ذلك إشعاراً ضمنيّاً للسنّة بأنهم سنّة وللمسيحيّين بأنهم مسيحيّون. فالسيّد قال للشيعة بصوت مرتفع: أنتم شيعة، فتزايد انتباه الآخرين إلى ما يدينون به. كذلك اكتسب البعلبكيّون"غير الأصليّين"الوافدون من الأرياف، وأهل القضاء المقيمون خارج المدينة، قوّة واعترافاً غير مسبوقين. والحال أنّ هؤلاء جعلوا يهبطون بغزارة على المدينة ابتداء بأواخر الستينات حاملين معهم ما لا عهد لسكان بعلبك به: إحدى العشائر مثلاً، وهي المدعومة من زعيم تقليديّ، أخذ أبناؤها حيّ الشراونة واستوطنوه ثمّ اشتبكوا بالمدفعيّة مع الجيش، وقيل إن التهريب سبّب اندلاع العنف المتبادل. وتدريجاً صارت العشائر جزءاً من حياة المدينة، لكنّها غدت مع حركة الإمام الصدر التي منحتهم الثقة والشكيمة، شوكةً في خاصرتها. والبعلبكيّون تعالوا على الوافدين واتّهموهم بتخريب الذوق العامّ والإخلال بالأعراف وبما تواضعوا عليه جيلاً بعد جيل. أمّا كبرى مشاكل أهل المدينة يومذاك، فأن يتقدّم واحد من أبناء العشائر بطلب يد فتاة بعلبكيّة. ذاك أن الرفض عاقبتُه وخيمة لأنّهم يخطفون ويقتلون، فيما القبول عاقبته أوخم تبعاً للمصاهرة نفسها. وتعاظم بأس أهل الأرياف وتكاثرت أعدادهم، خصوصاً وقد شهدت بعلبك هجرتين في الستينات والسبعينات، واحدة طاولت مسيحيّي بعلبك والأخرى ضربت آل حيدر الذين رحل معظمهم إلى بدنايل وبيروت بعد نزاع دمويّ انفجر، في 1961، مع آل ياغي. وتصاعدت الهجرتان سنة بعد سنة، لا سيّما بعد مقتل رئيس البلديّة سهيل حيدر في 1967. صحيح أنّ حرب السنتين بقيت نسبيّاً بعيدة عن بعلبك، إلاّ أن أبناءها الحزبيّين الذين كانوا يقاتلون في بيروت نقلوا بعض حزازات الحرب وانقساماتها إلى مدينتهم. وفي السنوات التالية، ساهمت الحقب الفلسطينيّة والسوريّة في استقدام مزيد من الأفراد والجماعات إلى مدينة تعاظمت المسافة بينها وبين الدولة، إهمالاً وإنصافاً على السواء.