الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعلبك بوابة سورية وحربها: «القضية» في مكان ما بين القصير وحمص (3 من 3)
نشر في الحياة يوم 01 - 08 - 2013

بعد أن تناولت الحلقة السابقة حزب الله بين البدايات السود والخاتمة الناصعة البياض، هنا التتمة:
على الطريق الموصلة إلى بعلبك، في رأس العين، وفي كل مكان، تتكاثر صور الشبان الذين قُتلوا في سورية. لا بل هناك ملصق يحمل عنوان «ذكرى أسبوع الشهداء الأطهار» يضم صوراً لعشرة شبان قضوا في يوم واحد.
فسياسة حزب الله إنما بلغت ذروتها في الانخراط الحربي بالقصير، وما رافقه من أحداث قتل وخطف بين عشائر بقاعية وعناصر من «الجيش السوري الحر»، في سورية كما في لبنان، ومع بعض أهالي عرسال المجاورة.
لكن الرواية السائدة التي يتبناها الصحافي الزميل حكمت شرَيف لا تخلو من حماسة لتلك الحرب. فهناك، في القصير وحمص، «تكفيريون يريدون إفراغ المنطقة من الأقليات، وينوون إسقاط حزب الله بعد توهمهم إسقاط النظام السوري». وهذا إنما يرقى إلى «خطة دولية لخدمة إسرائيل». وطبعاً هناك حجج إضافية من نوع أن «التكفيريين» ذبحوا عائلات شيعية، ومن أن الشيعة يدافعون عن أنفسهم لا عن النظام السوري.
ويشرح لنا بسام رعد أن القصير خط إمداد رئيسي للحزب «في كل شيء»، ولا يمكن تالياً «إلا الدفاع عنه». وهو يذهب إلى تشبيه معركتها بستالينغراد، مؤكداً الوحدة بين هذه الحرب والحرب في الجنوب ضد الإسرائيليين، ولو اختلفت الأدوات: «فهم لم يقدروا علينا في الجنوب فجاؤونا من الشمال».
ويتفق محدثانا، رعد وشريف، على أن المسألة مختلفة بالنسبة لابن البقاع عنها للجنوبي. فيجزم الثاني بأن البقاعيين من «شهداء الحزب» في سورية يفوق عددهم كثيراً عدد الجنوبيين تبعاً لمتانة الصلة الجغرافية ومباشرتها.
وبالفعل فمن يستمع إلى حجج البعلبكيين المدافعة عن سياسة حزب الله السورية، لا يفوته أنهم أشد تصلباً من الحزب نفسه، وأنهم يتقدمونه خطوة على الطريق التي رسمها لهم.
فالحزب، وفق شريف، «لم يجد أية حاجة إلى التعبئة من أجل القتال هناك. لقد شُكلت لجان الدفاع عن قرى القصير التي راح الشباب ينتسبون إليها من تلقائهم، فيما شكل البقاعيون 90 في المئة من المقاتلين. وإنما بسبب الاندفاعة هذه، خسر الحزب في الفترة الأولى كثيراً من الشبان لأنهم لم يكونوا مدربين أو من نخبة مقاتليه».
وهذه أيضاً... مقاومة
ويتبدى، في ما تحت الكلام، كأن بقاعيي الحزب وجدوا في حرب سورية «قضيتهم» الأثيرة قياساً ب «قضية الجنوبيين» المعلنة التي هي «مقاومة إسرائيل». وربما عزز هذا الميلَ في منطقة مُفقرة تم تجفيف مواردها، أن الحروب مع إسرائيل كانت مربحة في الجنوب الذي تدفقت عليه أموال المهاجر ومعونات الدول العربية والإسلامية.
وعلى العموم، يذكر ذاك التباهي البقاعي على الجنوبيين بالتكهنات والتقديرات التي انتشرت في التسعينات، مع انشقاق صبحي الطفيلي عن حزب الله، حول منافسة جنوبية – بقاعية داخل الحزب نفسه. فشريف قاطعٌ في «أننا نحن مؤسسو حزب الله»، وحين نقول له إن بين الجنوبيين من يتململ من سياسة الحزب السورية، يجزم بأن ما من تململ بتاتاً في البقاع. لقد سقط في القصير، على ما يروي رعد، ثلاثة شبان من عائلته خلال أربعة أيام، لكن أهلهم باركوا ذلك.
ولئن اصطفت صور كثيرة لحسن نصرالله وموسى الصدر في بعلبك وجوارها، وهما الرمزان الرسميان بمعنى ما، بقي أن تفاصيل صغيرة تشي بهذا الانتفاخ البقاعي، ككثرة صور عباس الموسوي البقاعي مقابل قلة صور عماد مغنية الجنوبي.
والحال أن رصد قوة حزب الله في السنوات الأخيرة يشير إلى أن حرب تموز 2006، وليس تحرير ال2000، هي التي جعلته الطرف الأقوى بلا منازع في بعلبك. ذاك أن التحرير كان حدثاً جنوبياً هلل له البقاعيون من بعيد، فيما الحرب شملت بعلبك نفسها بالضربات الإسرائيلية المتكررة، بحيث استُهدفت ب200 غارة ودُمرت 40 وحدة سكنية فيها دماراً كلياً.
لكنْ، أليس من أكلاف قد يتكبدها بقاعيو حزب الله، بسبب هذا التورط، ويجرون إليها عموم البقاع ولبنان، حين يسقط النظام السوري؟
تبلغ الحماسة بحكمت شريف حد الجزم باستحالة الاحتمال هذا. ذاك أن بشار الأسد سيبقى في سدة الرئاسة حتى 2028، «ريثما يكبر حافظ بشار الأسد ويتسلم الحكم».
وماذا عن العلاقات الأهلية بين السنّة والشيعة في بعلبك، وبين بعلبك التي يشكل الشيعة أكثر من ثلثي سكانها وعرسال السنّية؟
يعترف بسام رعد الذي يشدّد على تفاؤله بمستقبل العلاقات بين الطوائف، بأن السنّة البعلبكيين «مع أنهم لم يكونوا يوماً متشددين أو تكفيريين، باتوا يميلون إلى جو عام أنشأ حاجزاً مع الآخر». أما شريف فيبدي، بدوره، تفاؤله بالوضع الأمني «الممسوك»، وإن وُجد «بعض الحذر من السوريين». ذاك أن هؤلاء الأخيرين، ووفق مصادر عدة، يتعرضون اليوم لحملات دهم وتوقيف بحجة مصادرة السلاح منهم، فيما يردد المقربون من حزب الله، أن المعارضين السوريين ينشئون معسكرات تدريب في عرسال التي تنهال عليها النعوت المريبة. فالعراسلة، تبعاً لهذه الرواية، هم مَن جعلتهم الثورة السورية تجار سلاح وحماةً للإرهاب، فضلاً عن احتضانهم سوقاً حرة، هي طبعاً غير شرعية.
لكن التقديرات تذهب إلى وجود أكثر من مئة وخمسين ألف لاجئ سوري في البقاع، ثلثهم في بعلبك وجوارها وثلثاهم في عرسال ونطاقها. وهذا رقم يصعب الافتراض أنه سيمكث طويلاً في بطالة سياسية وعسكرية!
بعلبك السنّية
غني عن القول إن العلاقات الطائفية والمذهبية تتغذى اليوم على الأزمة السورية، حيث يُقدر للانخراط فيها أن يضاعف تعقيد العلاقات المعقدة أصلاً، ولو مضى ذلك من دون تصريح، بين الشيعة والسنّة.
فظاهرياً يبدو أن الأمور مستتبة على حصص مستقرة وحدود معروفة. فالسنّة، ولديهم مفتيهم، يسمون نائب رئيس البلدية، ويحظون بسبعة أعضاء من أعضائها ال21 فيما يحظى المسيحيون بعضو واحد. والمعروف أن مقترعي السنّة في المدينة نفسها يبلغون عشرة آلاف، فيما يرتفع عددهم في بعلبك - الهرمل إلى أربعين ألفاً قياساً ب160 ألف صوت شيعي في المحافظة منهم 21 ألفاً في المدينة. وهم يحتلون مواقع تمتد من الإمساك، إلى جانب الكاثوليك، بالمقاليد التجارية والتعليم، إلى العمل في المهن البسيطة كالأفران والملاحم والحدادة جنباً إلى جنب القليل من الفلاحة والرعي.
لكن شيئاً من مرارة التاريخ نابض في الشعور الراهن بالحصار. فمنذ بدايات القرن العشرين بدأ الشيعة يتحولون أكثرية عددية في بعلبك ليصيروا، بعد الاستقلال، أصحاب النفوذ والزعامة. وهي علاقة مزدوجة دائماً: فالسنّة أقلقتهم الهجرة المتواصلة من الأرياف التي تقلل عددهم وتُضعف شوكتهم بعدما كانوا الأكثرية، إلا أن تجارهم يعتمدون على المتسوقين من الأطراف. وقد تبادل الطرفان، ولا زالا يتبادلان، بيع الأراضي والعقارات، كما اختلط الزواج بينهما واتسعت لهما حارات وأحياء مشتركة، كالقلعة. غير أن غالبية السنّة (عائلات الرفاعي وصُلح ورعد وعثمان والجمال...) تعيش في أحياء وحارات يتسمى معظمها باسم تلك العائلات. ولا يخلو الأمر من نزاعات قديمة ولو بدت ضامرة، كحال «الجامع الخربان» المملوكي في رأس العين المتنازع عليه، إذ يعتبره السنّة وقفاً سنّياً وتقول بيئة حزب الله المتسعة إنه يضم رأس الحسين بن علي.
ويعيد أحمد الغز مطالع التوتر المعلن إلى 1980، إبان تشييع نقيب الصحافة الذي اغتيل عامذاك، رياض طه. فقد وقع اشتباك بين حركة أمل، وهي في بداياتها، وبين حزب البعث و «جبهة التحرير العربية» المدعومة من العراق اللذين انتسب إليهما بعض الشبان السنّة.
قبل هذا، كان لظاهرة التهميش السياسي وذاكرتها أن شكلتا خلفية قاتمة: فحتى 1960، لم يكن للسنّة نائب عن بعلبك - الهرمل، وفي 1964 رشح فؤاد شهاب رئيس الحكومة اللاحق تقي الدين الصلح، البيروتي الصيداوي الأصول، عن ذاك المقعد، ففاز بأصوات العشائر الشيعية خارج مدينة بعلبك.
واستمر طويلاً شعور سنّة بعلبك بالبُعد عن المركز، خصوصاً أن البيروتيين الذين انشدّوا إلى إقليم الخروب القريب جغرافياً أو تملكوا في البقاع الغربي، لم ينجذبوا إلى البقاع الشمالي.
وهو وضع لم يتغير إلا جزئياً مع الحريرية التي اهتمت بالتعليم وشملتهم باهتمامها، فأحسوا بأنهم باتوا جزءاً من المركزية السنّية. مع هذا، لم يظهر وجه قيادي بارز هناك، حريري أو غير حريري، بعد النائب حسن الرفاعي. وهذا جميعاً ما يفسر الانفجار العاطفي اللاحق حيال الثورة السورية، لا سيما أن سنوات الوصاية التي تُوجت بمقتل رفيق الحريري وقعت عليهم وقع المعاناة المتصلة. يعزز هذا واقعُ الصلات المتينة، تجارياً وقرابياً، بين سنّة بعلبك وسنّة عرسال، الشيء الذي يصح خصوصاً في آل صُلح، العائلة السنّية الثانية عدداً بعد الرفاعي.
... وبعلبك المسيحية
على عكس السنّة، هاجر المسيحيون على دفعات من بعلبك، والذين بقوا منهم مارسوا ما يشبه الاستقالة من الواجبات العامة والانكفاء على «حارة المسيحيين» التي تضم من تبقى منهم.
ويصلح انكماش وزن المسيحيين موضوعاً لأعمال الأدب والسينما التي تدور حول النوستالجيا. فهم، وفق قيد النفوس، لا يزالون ثلث السكان، إلا أنهم عملياً قرابة 5 في المئة منهم. أما في المحافظة ككل فتقل أصواتهم عن ال25 ألف صوت أكثرهم كاثوليك، يليهم الموارنة فالأرثوذكس، إلا أن قلة منهم هي التي تصوت.
لقد ارتبط الوجود المسيحي بأسماء كخليل مطران، «شاعر القطرين» الذي عُد واحداً ممن مهدوا للحداثة الأدبية، وبأمكنة كفندق بالميرا الشهير قبل أن يبيعه أصحابه من آل ألوف. ويعدد السفير السابق جهاد مرتضى صالات السينما التي كانت قائمة في حارة المسيحيين ك «أمبير» و «روكسي». أما في السياسة، فيذكرنا بأن هنري فرعون اختار أن يبني زعامته بين مسيحيي بعلبك وعائلاتهم (المطران وفريحة وسركيس وشامية وأبو ناضر...) قبل أن يبرز حبيب مطران. والحال أن وجوهاً كفرعون ومطران كانوا، في زمن الرجحان المسيحي قبل 1975، يمعنون في ربط البقاع بالجبل وبالسياسات الوطنية عموماً، ما كان يؤسس وزناً يعادل الانشداد إلى سورية ويوازنه.
لكنْ، مع حرب السنتين، شرعت الأمور تتغير. فقد افتُتحت تلك الحرب بهجوم على قرية القاع المسيحية في البقاع، وبدأت أعداد من المسيحيين تغادر منطقتها. ذاك أن سقوط مقاتلين حزبيين من أبناء بعلبك في مجابهات بيروت، كان يوتر الأجواء ضد المسيحيين، لا سيما أن بعض شبانهم كانوا قد انتسبوا إلى أحزاب مسيحية مقاتلة.
أما في أوائل الثمانينات، مع ولادة حزب الله وانفجار التدين والأسلمة، فتنامت حركة النزوح عن بعلبك كما تنامى بيع الأراضي التي يملكها مسيحيون.
«وعندما خسرتهم المدينة – على ما يقول جابر الرفاعي، رئيس الدائرة التربوية في بعلبك – خسرت نكهتها السياحية وشيئاً أساسياً من روحها».
الأخلاق «القويمة»
ليس من الصعب اكتشاف أن الروح التي ينعى الرفاعي ضمورها هي مما لا يستسيغه حزب الله المعني ببناء مجتمعه المضاد ذي اللون الواحد والأخلاق «القويمة».
وهناك، في بعلبك، تتقاطع القيم والأخلاق عند زراعة المخدرات وتجارتها، ما يستدعي تطوير سياسة واضحة حيال مسألة قاهرة كهذه. فقد سبق أن نشأ مطار خاص بالتجارة تلك، كما عرفت المنطقة التداول بسلة عملات دولية.
لكنْ، في تعاطيه مع المشكلة اتبع الحزب سياسة يمكن وصفها بالبراغماتية، مع دوام التحريم لتعاطي المخدرات على محازبيه. ففي بعلبك هناك من يقدم الأمثلة على تشجيع حزب الله المخدرات، ومن يقدم الأمثلة المضادة على مكافحته إياها. ويبدو، في نظرة إجمالية، أن الحزب تشدد في أحيان وتراخى في أخرى: فقد تشدد في البداية، أوائل التسعينات، حين أراد باسل الأسد تقديم نفسه للغرب وجهاً شاباً وخلفاً لوالده ينضبط بالإجماعات الدولية، كما تشدد مجدداً ليمكن قبضته بصفته رب العمل الأول، لا ينافسه على ذلك مصدر رزق آخر. هكذا، وكما يقول مالك كنعان، «رفعوا الغطاء عن الحشيشة وتركوا الدرك يتصرف». غير أن الحزب تراخى في أحيان أحس معها بأن الأزمة المعيشية صارت أكبر من قدرته على احتوائها، خصوصاً مع تردي السياحة والاصطياف وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المستجدة في إيران. وهناك أكثر من إشارة إلى أن التراخي هو السياسة المتبعة اليوم، خصوصاً أن الحزب منهمك في القتال السوري الذي تصب معظم موارده فيه فيما المزارعون مستفيدون من انشغاله عنهم بالهمّ السوري. هكذا، يرجح بعلبكيون ألا يُتلف الموسم هذا العام بحيث يُمنح الناس فرصة للتنفيس عن أوضاع ضاغطة.
ولا يختلف الموقف من الخمور كثيراً. فمؤيدو الحزب يزعمون أنه لا يتدخل بتاتاً، وأن في وسع أي كان أن يشتري الخمور من الدكاكين أو يطلبها في المطاعم. أما الرادع فليس سوى انتشار ثقافة دينية تحض على مقاطعتها وتجعل من يبيعها عرضة لانفضاض الزبائن عنه.
وهذه رواية تجافي الحقيقة قليلاً، ناهيك عن تجهيلها الطرف الذي نشر تلك الثقافة الدينية. فبحسب جابر الرفاعي، بدأت الأمور تتغير في أواخر الثمانينات مع اتضاح الأكلاف الاقتصادية لسياسة التزمت، واستمر التراخي في التسعينات إلى أن كانت هزيمة الحزب في الانتخابات البلدية عام 1998، فتسببت بانفراجات أكبر.
واليوم يمكن القول تلخيصاً إن هناك دكاكين تبيع الخمور في بعلبك إلا أن تناولها في مطعم لا يزال متعذراً.
اليأس الضارب
تلك البراغماتية لا تعني بحال أن الحزب قليل التدخل في تشكيل الصلب القاعدي للمدينة ومحيطها. فمدارسه المجانية وشبه المجانية، معطوفة على مدارس السيد محمد حسين فضل الله، تستقطب أعداداً أكبر من التلامذة مما تستقطبه المدارس الرسمية.
وأهم من المدارس البلديات التي تحظى بتركيز مميز من حزب الله. فهو متمسك بها لأنها تخدم سياساته في الخدمات والتنفيعات، كما في رسم الفضاء العام الذي يهيمن ثقافياً. وإلى ذلك يناط بالبلدية أن تسدد أثمان الإفطارات والجنازات التي يقيمها الحزب. هكذا، تجد بين البعلبكيين من يحدثك عن فرد من حزب الله، لا صلة رسمية له ببلدية بعلبك، يوجه أوامر لها بصرف الأموال. كما تجد من يلقي علامات استفهام حول «الانتحار» الغامض، قبل شهرين، لعلي صُلح أمين صندوق البلدية.
والواقع أن حزب الله خاض انتخابات 2004 البلدية حيث نال 60 في المئة من الأصوات، مستخدماً سلاح الابتزاز بالمقاومة والتذكير بتاريخ الخدمات والتنفيعات. ووفق غالب ياغي، الذي تصدى لهم آنذاك على رأس لائحة مقابلة، تدخل السوريون مباشرة في تلك المعركة «فبلغوني أن بشار الأسد يريد أن يعطيهم البلديات ويبرهن للأميركيين أنهم غير إرهابيين».
وهذه الهيمنة التي لم تنقطع جزئياً إلا خلال 1998 – 2004، تتبدى معها الحياة الثقافية على صورة مدقعة تماماً، وهو ما زادته الحرب السورية جفافاً. فبين وقت وآخر تتسع الفرصة لتوقيع كتاب أو ندوة أو معرض صور وكفى الله المؤمنين.
يسير هذا في مواجهة انشقاق يجعل كل رواية روايتين، الشيء الذي يتجلى على مستويات عدة. ففي مقابل مقام السيدة خولة، الذي قال الحزب إنه رشح دماً مؤخراً حزناً من خولة على عمتها السيدة زينب، يقول مثقف بعلبكي إن ما من مرجع واحد في التاريخ الإسلامي يؤكد أن الحسين بن علي أنجب فتاة سماها خولة. وإذا أطلق البعلبكيون «الأصليون» على إحدى حاراتهم الجديدة اسم «الأشرفية»، سماها جمهور حزب الله «طريق عمشكي» تبعاً لقرية عمشكي الصغيرة في جوارها، وهكذا دواليك.
إلا أن الذين يرغبون في صورة لمدينتهم أكثر انسجاماً وحيوية يعانون يأساً قاتلاً بسبب قلة الإمكانات. فوفق بعلبكي شجاع: «أنت، حيال حزب الله، أمام عملاق تصعب زحزحته... معهم المال والسلاح والدين والعقيدة، ومعهم الدولة منذ دخولهم في الدولة عام 1992، ثم القضية بعد قتالهم في سورية مؤخراً». فما العمل؟
بعلبك بوّابة سوريّة وحربها إنّها ثقافة معادية للمصالح لا مكان فيها للمهرجانات (1 من 3)
بعلبك بوّابة سوريّة وحربها: «حزب الله» والبدايات السود والخاتمة الناصعة (2 من 3)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.