الطريق من قلعة بعلبك إلى رأس العين، التي يزحمها السوق في وسطها، لم يطرأ عليها تغيّر منذ سنوات كثيرة. بل هي ما زالت على حالها منذ ثلاثين سنة أو أربعين. لم يتغيّر أيضاً مشهد المحلات التي تغلب عليها دكاكين اللحامين. كأن بعلبك، في هذه السنوات جميعها، لم تشهد فترة ازدهار واحدة. أموال الآثار والمخدرات أموال طائرة تختفي بسرعة ما تُجنى. لم يبق أثر منها هنا في طرقات المدينة وسوقها. في ضواحي المدينة وفي أنحاء من السهل المحيط بها رأينا الفيلات الضخمة المبنية بالحجر والقرميد، وكلها بنيت من أموال المخدرات كما كان يقال. لكن بُناتها، بحسب صديقنا البعلبكي، ما عادوا قادرين الآن على ترميم ما قد يبلى منها أو يسقط. أموال المخدرات هي أموال طائرة لم يصل شيء منها إلى المدينة أو أن شيئاً لم يحطّ فيها. الطريق التي كانت جميلة حتى "رأس العين" الذي في آخرها، لم تعد كذلك. الشجرات العالية التي كانت تظلّل المارّة أزيلت لتوسعة الطريق التي لم تكتمل برغم انقضاء سنوات كثيرة على بدء العمل بها. إنها، طريق رأس العين، أكثر أعمال الدولة اللبنانية بطئاً. ثم إن هناك أسباباً أخرى لوقف ما يسميه البعلبكيون "المشروع" تتمثل في اعتراض السياسة المعقدة المتداخلة له. فهنا، في بعلبك، لا ترتفع السياسة فوق الشارع والسوق بل هي موجودة فيهما، بتشكيل القوى ذاته القائم في الأعلى. الأطراف التي تشترك في توزّع النفوذ ممثلة بأشخاص تحتيّين هنا. دكانان على الأقل عصيا على مشروع توسيع الطريق فلم يتمكن القائمون على إزالتهما. وهما يشاهَدان الآن صامدين في اعتراضهما الذي لن يزيله ربما إلا تغيّر ميزان القوى الخاص بمنطقة البقاع. كأن بعلبك لم تشهد فترة ازدهار واحدة في السنوات الثلاثين أو الأربعين المنقضية. فندق بالميرا الذي هو معلم من معالم المدينة لم يُجدّد فيه شيء طيلة هذه السنوات وها إنه الآن في أسوأ أحواله. لا نزلاء في الغرف، والمطعم الذي في طبقته الأرضية خال إلا من الطاولات والكراسي. أما الرجلان اللذان يقومان على خدمة المطعم فبديا لنا متعبين. لم يعد أحد من نزلاء الفنادق يأتي إلى بعلبك. فندق بالميرا في أسوأ أحواله. فندق الخوام الذي كان ذائع الصيت حتى سنوات الحرب الأولى ما زال في الحال الذي تحوّل إليه: ثكنة عسكرية يقيم فيها الآن حزب الله. هناك فنادق صغيرة من النوع الذي لا يكاد يحمل أسماء، قال صاحبنا. هذه ربما تكون أشبه بمقاهي أهل البلد ما دام ان بالميرا نفسه بدا خالياً من أي شيء قد يبعده عن مألوف أهل المدينة. الداخلون القليلون إليه يعرفون من سيجدون في الداخل وهم يلقون عليهم التحيات الأهلية أو تحيات الأصحاب. لم تتغيّر صورة المدينة إذ لم تصلها موجة العمران الجديد الذي نجده في مدن لبنان. في الطريق إلى رأس العين ارتفعت بناية واحدة خالفت المعمار العتيق القديم بالزجاج العاكس للضوء الذي يلفّها كلها. لكنها، كمشروع هي أيضاً، لم تنجح إذ لم تُستأجَر طوابقها ولم يقم فيها شيء. إنها، البناية، محاولة فاشلة لاتّباع الحداثة السريعة التي عرفتها شتورا القريبة. هي الآن متوقفة خالية مثلها مثل الطريق المعفرة الموحلة التي تحاذيها. هنا، في بعلبك، لن ينهض شيء أسرع من شيء. لن يسبق الفندق الطريق ولن يزدهر "السنتر" الزجاجي في غفلة عنهما. وفي هذه الزيارة الأخيرة بدا أن الشكوى التي باتت تميّز لغة أهل المدينة اقتربت من ذلك التساوق فبات الناس شبيهين بمطارحهم. لا أثر لنبرة القوة التي تميّز بها سابقاً أهل بعلبك. لقد خلت لهجتهم من الإعتداد والتباهي اللذين كانا يميزانها. كأن العشائر التي سبق لها أن زرعت الحمية في نفوس أبنائها كما في نفوس من تمثل بهم، تقسمت أو تفرقت. لقد تقاسمتها القوى والأحزاب بأن أخذتها من جانب مرة ومن أسفل مرة فقلبت تراتبها التقليدي وخضّته مرات كثيرة. لم يعد في لهجة البعلبكيين أثر الإعتداد والمباهاة القديمين. اللغة التي ميّزت الجنوبيين في وصفهم لأحوالهم كما في وصف الدولة التي تهملهم، انتقلت الآن إلى بعلبك وإلى ما يحيط بها من القرى الكبيرة والصغيرة. ربما كان زائرو السنوات الماضية يسمعون كلام الشكوى نفسه من البعلبكيين إذ يرون كيف يتوفّر لزحلة القريبة مثلاً ما لا يتوفّر لمدينتهم. لكن ذلك، في أيام الحشيش، كان كلاماً لا مبالياً إذ لا تستغرق الشكوى همّ المتحدث كله أو هي لا تصبغه بصبغتها. كان البعلبكي يتشكى لكن من أجل أن يسوّغ لنفسه الخروج والعصيان اللذين قطع منهما شوطاً بعيداً من دون أن تلحقه اللعنة التي تصيب المطارَدين. لم يكن الإهمال مؤذياً آنذاك إذ كان يجابه بإدارة الوجه عن الدولة وبمبادلتها إهمالاً بإهمال. اليوم تبدو الصفعات، وهذا هو الإسم الذي يعطيه البعلبكيون لما يتلقونه ومنه المجابهة العسكرية الخاطفة الأخيرة، تبدو مؤلمة وتترك أثراً وعلامة حيث تقع. ومن قبيل لغة الشكوى المستجدة أخذ البعلبكيون نبرة الجنوبيين إليهم واعتقادَهم بأن الحرمان انتقل من هناك إليهم. لقد تفوق عليهم أبناء جلدتهم الجنوبيون بالرعاية التي باتوا يلقونها من انتقال الزعامة الشيعية إليهم وتشكيل مجلس رعاية سخيّ لهم هو مجلس الجنوب. المقارنة التي حصيلتها الغبن لم يعد طرفها القريب والمختلف، مثلما هي زحلة، بل الشبيه الذي في صور والنبطية. الثروة التي تأتت من الحشيش، والأفيون في مرحلة لاحقة، مرت مروراً من هنا. إلى من يُشاهدون الآن في سوق المدينة وفي طرقاتها لم يكن يصل إلا الفتات، والمزارعون الذين زرعوهما في أنحاء من السهل لم يكن حالهم في الزراعة أكثر يسراً من حال المشتغلين بالزراعات العادية. من أثروا من ذلك هم أكثر الناس قدرة على الطيران بما معهم. ثم إن زراعة مثل هذه، لها تلك الجلبة المدوّية في العالم كله، كانت تنفق أكثر محصولها على حماية نفسها. كما أنها زراعة الفرص المقتنصة التي، إثر انقضاء عهدها، ستترك المستفيدين منها في صدمة قد تستمر طويلاً بعد انقضائها. البقاعيون الذين تهيأ لهم، أيام زراعة الحشيش والأفيون، أنهم يزرعون الثروة نفسها ويجنون محصولها، لن تكون سهلة عليهم العودة إلى البطاطا. تلك التي تكلف، فلاحة وبذاراً وسقاية وقلعاً، أكثر من ثمن ما تباع. أما زراعة التبغ، التي يمكنها أن تشكل انخفاضاً متدرجاً أو نسبياً عن الحشيش، فلا تصريف لها. إنها إما تتلف في أرضها أو تتلف هناك في مراكز تجميعها بعد أن تدفع الدولة ثمنها مالاً قليلاً. ما يزرع الآن من أرض السهل لا يتعدى العشرين في المئة من مساحته، بحسب صديقنا البعلبكي. السهل الواسع الضخم تحتاج زراعته بحسبه إلى مشاريع تناسبه ضخامة، وهذا ما لم يبادر إليه أحد. المؤسسات الدولية التي قدمت كأنما لتنظيف السهل من بقايا الحشيش ومن لعنته تبدو كأنها تنفق أكثر مجهودها في تدريب نفسها وفي دراسة السهل وإجراء الإحصاءات عنه بدلاً من العمل على زراعته. أما الدولة ومساعداتها فبدا السهل أكبر منها بكثير. الأبقار التي استقدمت من أميركا بيعت مقسطة بأسعار لم يفلح الحليب في تسديدها. ثم إنها لم تنجب هنا إذ لم تلائمها البيئة البعلبكية، وهذا ما جعل بعض من اقتنوها يذهبون بها، محمولة على الكميونات، لوصف حالها لوزير الزراعة الذي أشرف على استيرادها. بقرات أميركية لم تتكيف في السهل الذي لم يهتد أهله إلى لغة مخاطبة يتواصلون بها معها. ذلك أيضاً يقع في نطاق امتناع أهل المنطقة عن الحداثة، الذي من مظاهره الممتنعة الأخرى الشارع العريض المؤجّل العمل به والفندق الخالي والسنتر الذي لم يأت مستأجروه بعد. لا شيء هنا يسبق شيئاً. لن يحتل الفندق مرتبة النجوم الخمس وهذا حال ما هو حوله. ثم إن السياحة إلى القلعة التي قام عليها، أو قام من أجلها، في السابق، لم تعد هي ذاتها الآن. السائحون لا ينامون هنا، كما أنهم لا يتناولون حتى الطعام في مطعم الفندق ومطاعم المدينة الأخرى. لا يفعلون شيئاً غير التجوال في القلعة وقضاء حاجتهم السريعة حولها، ثم يقفلون عائدين من حيث قدموا. ثم ان السياحة هذه إلى قلعة بعلبك لم تساعد في تقريب البعد الذي تعانيه المدينة عن العاصمة بيروت. ذاك أن القلعة باتت تُقصد، للسياحة، لا من بيروت بل من دمشق ومدن سورية التي يقصدها السائحون الأجانب من ضمن جولة تبدأ بالأردن إثر انطلاقها من القدس. إنهما، القلعة ومدينتها، تقعان في خط سياحي جديد يسهم في إبعادهما، مرة أخرى، عن مركز لبنان. البعد الذي كان عامل تفلّت واحتماء في السنوات السابقة بات اليوم، بعد انتفاء غرضه، مصدراً للشكوى والفقر. عودة مهرجانات بعلبك للمرة الأولى في السنة الماضية أحدثت انتعاشاً قليلاً في نفوس البعلبكيين لكن القادمين بدوا، لفقر المدينة وقلة أهليتها، كأنهم يعودون مريضاً لأمسية سيغادرون في نهايتها. حقنة المهرجانات لن تكفي لتغذية المدينة وقراها الكثيرة وسهلها الواسع. ثم ان انتظار أيام المهرجان أمر لا يليق بمن كانت مداخيل سهلهم، في السنوات الخوالي، تصل إلى أرقام هائلة خرافية. الناس الذين يشتغلون بما لا يليق يبعثون على الأسى والإبتسام معاً. الرجل الذي أقام كشكاً لبيع المرطبات وزع حوله كراسي وحجارة مرصوفة سيقضي أكثر وقته منتظراً الزبائن الذين قد يأتون لتأمل "حجر الحبلى"، وهي صخرة ضخمة شرع بقصبها الرومان وحال سبب ما دون إكمالهم مهمتهم. هذه من أنواع المهن التي لا تليق، لا لأنها لن تدرّ مالاً بل لدلالتها على أن صاحبها قبل بها قبول زارع الأفيون بزراعة البطاطا، وهو لن يجني منها ربحاً فوق ذلك. ما يليق أكثر، بعد حلول الفقر، محاربته بالعصيان. هذا مسلك يتفق مع نظرة سابقة إلى النفس ومع روح المغامرة التي لم ينقض عليها زمن طويل. في الفقر ضعف لكن في العصيان قوة يحبها البعلبكيون. القوة التي ضربتها ظروف السنوات الأخيرة ومستجداتها ستظل تبحث عن أشكال ظهور لها. من أجل مكافحة الفقر، ومناصرة العصيان ضده، تشكل مجلس أعيان ضمّ بعض رؤوس العشائر ووجهائها وأغنيائها ربما. الفقر، إذ يتجمع له مناصرون، سرعان ما يتحول إلى هوية يُنتسب إليها ولا يبقى حالاً إجتماعية تنبغي معالجتها بتخفيف آثارها. هكذا يبدو الإلتفاف حول صبحي الطفيلي التفافاً لا حول شعار الفقر والجوع الذي رفعه فقط بل أيضاً حول أشياء كثيرة أخرى منها زوال الدور وتعرض الناس لتناهب المصالح وتركهم والتضحية بهم من قبل من نصروهم مرة لحاجتهم إليهم. كما انه التفاف موجه ضد دفع الناس ليشتغلوا بما لا يليق وقبول أنفسهم في صورة هم، بحسب ما درجوا عليه، أكثر المحتقرين لها. تبدو الضربة التي توجهت للشيخ صبحي الطفيلي كأنها صفعة أخرى أصابت القوة البعلبكية أو البقاعية. قال صديقنا البعلبكي ان المهم ليس الشيخ صبحي نفسه بل المناخ الذي لن يزول بزوال داعيته أو بإبعاده أو ربما بتوقيفه. إنها صفعة أصابت البعلبكيين فصاروا يقولون من بعدها ان الوضع المحتدم المتأزم في المنطقة ارتاح الآن. كما صاروا يقولون أيضاً، بعد خسارة تجربة القوة، انهم محرومون ومهملون، بتلك النبرة التي شاعت في السابق بين سواهم من الناس. وفي أثناء ذلك، أو في ما بعد ذلك، تنتظر المنطقة أن يجد لها أبناؤها دوراً لا يبدون الآن أنهم اهتدوا إلى بداياته. إنها الآن خالية معانية من الفراغ والبطالة. التنقيب عن الآثار الذي اشتركت في امتهانه أكثر العائلات أوقف الآن، والمخدرات ذهبت، بحسب محدثنا، إلى تركيا وسواها، وسياح القلعة لا يأتون إلا مارّة عابرين، أما السهل الذي كان مرة أهراء روما فمثل أهله ومزارعيه، يعزّ عليه أن يشتغل بالزراعات القليلة العائد والبطيئة بطئاً لا يجاري حمية الناس ونخوتهم.