كتاب"المجاز في اللغة والقرآن الكريم"للدكتور عبد العظيم المطعني، يعد من أهم الكتب التي عالجت أطول معركة احتدم حولها الجدل بين القدماء والمحدثين. يقول المؤلف:"بدأت فكرة هذا الكتاب عندما ألقيتُ محاضرة في نادي مكة الأدبي عام 1995م بعنوان"المجاز عند الإمام ابن تيمية وتلاميذه بين الإنكار والإقرار"، فكان لها أكبر الأثر في الفكر الأكاديمي والديني، لدرجة أن مفتي المملكة ?آنذاك- الشيخ ابن باز، سئل عن المجاز والخلاف حوله بعد حديث وسائل الإعلام عن المحاضرة، فقال الشيخ ابن باز:"إن الخلاف بين السلف والخلف حول المجاز خلاف لفظي، فالسلف يسمونه أسلوباً من أساليب اللغة، أمَّا الخلف فيسمونه المجاز". ويمضي ?المطعني- قائلاً:"لقد تتبعتُ الخلاف التاريخي حول قضية المجاز منذ نشأتها، فرصدتُ مراحله، وتطوره عبر الزمن حتى العصر الحديث... وانتهيتُ إلى نتيجة حاسمة مفادها أن قضية إنكار المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم قضية كُتِبتْ لها الشهرة، ولكن لمْ يكتب لها النجاح". حقق هذا الكتاب المراد منه، حيث أخذتْ ظاهرة إنكار المجاز في القرآن المجيد تتراجع شيئاً فشيئاً، وتلتئم حولها وحدة الفكر الإسلامي في كل مكان. ويتساءل المطعني: هل المجاز واقع في اللغة العربية أم غير واقع؟ وإذا كان واقعاً فيها، فهل يجوز وقوعه في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي عليه السلام؟ وأجاب: لقد اختلفتْ وجهات النظر حول هذه القضية على ثلاث شعب: ففريق يقول بوقوعه في اللغة وفي القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة، وفريق يرى أنه غير واقع لا في اللغة ولا في القرآن ولا في الأحاديث، وفريق آخر يذهب إلى نفيه عن القرآن وعن الأحاديث لكن يثبته في اللغة. ويرى المطعني أن القول بنفيه عن اللغة والقرآن والأحاديث هو جملة منسوبة إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني، وإلى أبي علي الفارسي من العلماء الرواد. أمَّا نفيه عن القرآن بخاصة، فهو منسوب إلى داود الظاهري ?إمام مذهب الظاهرية- وإلى ابنه أبي بكر. أمَّا القول بوقوعه في اللغة وفي القرآن وفي الأحاديث، فلا ينسب إلى أفراد، وإنما هو مذهب الجمهور، أوْ مذهب العامة، والكثرة الكاثرة التي لا تحصى عدداً من علماء الأمة في كل فروع البحث والتأليف. وقد تبارى الفريقان، مُجوِّزو المجاز ومانعوه، وكل منهما يدفع ما يراه الآخر، فتمخّضت عن مجادلاتهم مصنفات في إنكار المجاز وضعها المانعون، كمنذر بن سعيد البلوطي، الذي وضع رسالة في إنكار المجاز، ومصنفات مضادّة لبعض المجوّزين في الرد على منكري المجاز، مثل أبي الفيد مؤرّج السدوسي، والحسن بن جعفر... وغيرهما ممن وضع رسالات في الرد على منكري المجاز. ولعلَّ منشأ الخلاف هو البحث في أسماء الله وصفاته، فقد وردتْ في القرآن نصوص يُوهِم ظاهرُها المشابَهَةَ بالحوادث، مثل: إثبات اليد، والوجه، والعين، والمعيَّة، والقرب، والمجيء، والاستواء لله سبحانه وتعالى. أما الحديث الشريف، فوردتْ فيه أيضاً نسبةُ القَدَم، والإصبع، والصورة، والنزول، والضحك، والكف لله سبحانه، مع أن في القرآن نصاً عاصماً من اعتقاد التشبيه والتجسيم وأي مماثلة، وهو قوله تعالى"ليس كمثله شيء"[الشورى: 11]. وعلى ضوء هذا، أجرى فريق من العلماء هذه الأمور على ظواهرها، وأبقاها على مدلولاتها، لأنَّ الله وصف بها نفسه، وكذلك رسوله الكريم، ولا يستطيع أحدٌ أن يصف اللهَ بأفضل مما وصفه به رسوله الأمين، الذي لا ينطق عن الهوى، وهو أعرف الخلق بالله سبحانه وتعالى، وأعلمهم بما يجب له من كمالات وما يُنزَّه عنه من نقائص. أجل، أقرّوا هذه العقيدة على ما هي عليه، من غير تأويل ولا تمثيل ولا تعطيل، وهناك فريق توقَّف ولمْ يقل في ذلك شيئاً، وهذان يُعرفان بأنهما مذهب السلف. وهناك آخرون وقفوا موقفاً آخر، فأوّلوا كلَّ ما أوهم ظاهرُه تمثيلاً أوْ تجسيماً، فأوّلوا اليد بالقدرة والقوة والنعمة، والإصبع بالأثر، والوجه بالذات، والاستواء على العرش بالهيمنة، والمجيء بمجيء الأمر، والنزول والقرب والمعية باستجابة الدعاء ومنح النفحات وقرب العلم ومعيته والنصر والتأييد. ولكل من الفريقين أدلة يعتمد عليها، ولكن تجب الإشارة هنا إلى أن من السلف من شارك المؤوِّلين في تأويلهم، بلْ إن المطعني بيَّنَ في دراسته أن بعض المواضع والنصوص أجمع السلف والخلف على صرفها عن ظاهرها وتأويلها بمعانٍ مجازية. وإذا كان الاتجاه الأول عُرِفَ بأنه مذهب السلف، فالاتجاه الثاني الذي آثر التوقف منسوب أيضاً إلى السلف"وهو مذهب الآحاد، فإنَّ مذهب الصرف والتأويل أوْ التفسير المجازي لبعض الأسماء والصفات الإلهية عُرِفَ بأنه مذهب الخلف، وهو مذهب جمهور الأمة. وهكذا، أخذ المجاز ينمو ويزدهر بمرور الأيام، وتعترك حوله الأذهان في ظلال العقيدة والتوحيد. على أن المتابع لسير النزاع بين الفريقين، يرى أن الخلاف بينهما كان هادئاً طوال القرون الأولى، حتى جاء النصف الثاني من القرن السابع والربع الأول من القرن الثامن، فاتجه إلى الشدة والعنف، وكانت الشدة من جانب المنكرين وحدهم، إذ برز الإمام ابن تيمية 661- 728ه، فتبنى مذهب السلف، وتصدى لأقاويل كثير من الفِرق، وكان مما أدلى فيه بدلوه موضوع المجاز، فاختار مذهب المنع والإنكار، وكتب فصلاً في كتابه"الإيمان"أنكر فيه المجاز، وحشد فيه من الأدلة النقلية والعقلية والواقعية الكثير، وشدد النكير على مجوِّزيه، فرماهم بالكذب حيناً، وبالجهل حيناً آخر. وكان السبب المباشر لهذه الحملة القاسية، أن فريقاً من العلماء قال إن الإيمان هو التصديق القلبي، أمَّا الأعمال فلا تدخل في الإيمان حقيقة، وإنما تدخل فيه مجازاً، حتى جاء ابن تيمية فرأى أن الإيمان هو التصديق والعمل معاً، ولكيْ يصح له ما أراد، أجهد نفسه وعقله في إنكار المجاز بهذه الصورة. ومن بعده حمل لواء المنع تلميذه ابن القيم، فكان أقسى وأعنف من شيخه، يشهد على هذا اسم كتابه الذي ضمَّنه الرد على مجوّزي المجاز، فقد سمّاه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة"، كما سمَّى المجاز ب"الطاغوت"، وبذل طاقة ذهنية هائلة ليتوصل إلى إنكار المجاز، من خلال اثنين وخمسين وجهاً. على أننا إذا وجهنا أنظارنا باتجاه علماء الأمة، فالنحاة واللغويون والأدباء والنقاد والإعجازيون والبلاغيون والمفسرون والمحدِّثون والأصوليون والفقهاء، كل هؤلاء لهم مسلك آخر، ومنهج آخر أطلقوا عليه العمل بالمجاز كل في دائرة اختصاصه. والملاحظ أن قوماً لا يُحصَوْن عدداً من علماء المسلمين، منذ القرن الثاني الهجري إلى عصر ابن تيمية وما بعد عصره، استثمروا المجاز في أعمالهم الفكرية والعلمية، فكشفوا عن سر جمال اللغة من جهة المجاز لغةً وعقلاً، وخاضوا معارك خطيرة جداً كان المجاز واحداً من أسلحتهم التي لا تُفلّ، ومواردهم التي لا تجف ولا تنضب. بينما الذين قالوا بالمنع وذهبوا إلى أن القول بالمجاز بدعة، لا يتجاوز عددهم أصابع اليديْن، كما أنهم جميعاً، بمن فيهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لم يقدِّموا أي أدلة على صحة رأيهم بالمنع.+