في خضم أجواء التوتر والقلق التي سادت في أعقاب الأزمة الاقتصادية، ليس التركيز على الوجه الآخر لهذه الاضطرابات سهلاً. لكن في الأسابيع القليلة الماضية، سُجل تراجع في نظام التصنيف الائتماني في بريطانيا، وطُرحت سياسات مصرفية أوروبية جديدة، واقتُرح وضع سقف لرواتب موظفي المصارف، وأطلقت عملية لدعم إجراء استفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. فهل ستتمكّن لندن من الصمود في وجه الرياح الداخلية والخارجية التي تهبّ عليها؟ بقيت جاذبية لندن الراسخة وبقي سحرها على حالهما منذ مئات السنين. وصعب طبعاً التغلب على ألف سنة من الحضارات المتعاقبة والتطور التدريجي الذي عرفته المملكة. ومع ذلك، شهدت لندن نهضة شاملة في السنوات الأخيرة، بعدما كانت لأكثر من 40 سنة تعاني تراجعاً اقتصادياً ونمواً سكانياً سلبياً ومجالات مهملة بسبب تصفية الصناعات. لكن اليوم، تسجل البلاد نمواً سكانياً ملحوظاً، وشيئاً فشيئاً ترسّخت البنية التحتية، ورُمّمت المباني التاريخية بمعظمها وأعيد استخدامها، وباتت مواقع داخل المدينة، مثل هوكستون وبريكستون، لم تكن منذ 20 عاماً لتستقطب السكان أو العمال، اليوم عصريةً ومزدهرة. الإحصاءات تؤكد سرّ اجتذاب لندن للاستثمارات الأجنبية، ففي 2012، ضُخّت في قطاع العقارات التجارية وحده استثمارات بقيمة 8.8 بليون جنيه إسترليني، هي الأعلى منذ 2007. ولا يزال المستثمرون في الخارج يسيطرون على الطلب العقاري، إذ شكّلت مشترياتهم 75 في المئة من إجمالي حركة الشراء في 2012 على رغم خسارة سندات بريطانيا التصنيف الممتاز AAA. وتُعتبر لندن الملاذ الآمن لأن المستثمرين فيها يدركون جميعهم أن القوانين تحفظ عقاراتهم في مطلق الظروف السياسية وأن حقوق الملكية العقارية محمية، إذ تُعتبر لندن من أهم المدن الآمنة والمستقرة عالمياً عدا عن البيئة المناسبة لتطوير ثروات المستثمرين. ودفعت الاضطرابات الاقتصادية والسياسية حول العالم الأثرياء ورجال الأعمال على حدّ سواء إلى حماية أموالهم وتحويلها إلى بريطانيا. وعزّزت هذه الحال مكانة لندنوبريطانيا باعتبارهما حصن الاستقرار والثبات. وسادت النقاشات حول دور المصارف، واستُئصلت بعض الأخطاء في النظام المالي لزيادة ثقة المستثمرين الأجانب أكثر في النظام المصرفي في لندن. ولو كانت لندن بلداً قائماً بذاته، لصُنّفت من بين الاقتصادات العالمية ال 20 الأولى، متقدّمة بقليل على السويد، فموقعها الجغرافي بين القوى الاقتصادية الغربية العظمى والقوى العظمى الناشئة في آسيا، يتيح لها دوراً أبرز في استقطاب الاستثمارات. وفي قطاع الأعمال، تُعتبر لندن عاصمة عالمية للقانون والتأمين، وتتمتع بأنظمة قانونية تستخدمها الشركات العالمية لتنظيم عقودها وحلّ خلافاتها. ولا تزال هذه المدينة تنمو أيضاً. فوفق تقديرات هيئة لندن الكبرى، ستحتاج لندن في 2031 إلى 750 ألف منزل إضافي وستضم مليون شخص إضافيين. لكن الطريق ملأى بالصعوبات حتماً، فالوضع الاقتصادي في البلد يعني أن الأموال العامة المتوافرة قليلة جداً ولا تكفي لتوسيع الخدمات أو البنية التحتية، وستبرز الحاجة إلى أشكال تمويل جديدة لموجة الاستثمارات المقبلة. وسيكون على بريطانيا أيضاً تثبيت علاقتها بالاتحاد الأوروبي والمشاركة في المفاوضات الأوروبية بنبرة رصينة وهادئة، ناهيك عن تشجيع أصحاب المواهب العالمية المتنقلة وأصحاب الأعمال على المجيء إلى بريطانيا. وعلى الحكومة المركزية أن تقرّ بأن حاجات لندن مختلفة كلياً عن حاجات سائر مدن بريطانيا، وأن تخصص لها موازنة أكبر تعزز ثقة المستثمرين بإيداع أموالهم بها. رجل أعمال - بيروت