ليس صدفةً عابرة تذكر مشهد ثقب الطائرة الانتحارية للمنطقة الحساسة في"كبد"برج التجارة العالمي، وذلك عند رؤية الفيديو الشهير ل"أبو صقار"، المقاتل في تشكيل معارض سوري مسلح، مقحماً يده في جوف قتيل"الجيش السوري النظامي"، لينتزع كبده. لعل الاختلاف الأكثر سطوعاً بين المشهدين، بالإضافة إلى التاريخ والسياق والوضعية والمسببات هو أداة التنفيذ، التي يبدو أنها تصطبغ بماهية جوهر الهدف، المخترق هنا يقتحم المخترق بأدواته! فالطائرة الأميركية أداة اختراق فائقة الحداثة وعالية التقنية، بل هي إحدى ركائز الاعتزاز الوطني في الهوية الأميركية الحديثة، واليد العارية أداة بدائية غريزية أهلية لا تختلف عن أدوات الجهة المستهدفة، وأحد الدعائم العميقة لسيطرتها. إلا أن المشترك المشرق والمفصلي بين المشهدين هو تمرد الهامش على المركز، الهامش العالم الثالثي وقد ضاق ذرعاً بسطوة رأس المال اللامرئية والناعمة والمتدرجة، والهامش السوري للتشخيص الدقيق: الريف السني العربي الخاضع للإسكات والتشويش المديد من قبل قبضة تسلطية فئوية، صارخةً وفظة وآنية. وكما سالت التحليلات الوفيرة في المشهد الأول، مجسدةً كامل المشكلة في عدمية أساسية وأزلية يضمرها نص الإسلام السني، كنص مولد للعنف متعال على التاريخ والزمن والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع، فإن التحليلات أزهقت بعبث في المشهد الثاني أيضاً، لتخصيص العدمية في تلك البيئات الغامضة والبعيدة، بيئة"أبو صقار"، وبأن تصرفه ليست له علاقة أبداً بالعوامل الضاغطة والظروف الواقعية، بل ثمة ذات إرهابية غامضة تأكل الأكباد، بعد تطبيق آلي وميكانيكي ومباشر لنص مؤدلج، وستبقى تلك الذات تعيش على الأكباد إلى الأبد، والعلاج بحسب تلك التحليلات اجتثاث هذه الذات مع بيئاتها بالكامل! إذاً نحن أمام نقد يحتمي بأفكار فوقية مجردة، نقد تبسيطي مريح قافز فوق العلاقات المركبة في الواقع العياني، إلى جانب غياب نقد يقيم وزناً للتفاعلات في قاع الواقع. أي أننا أمام"نقد كوني"متعال على الواقع، يحجب"النقد المندغم"الخارج من رحم الواقع. هذه النظرة العنصرية الجوهرانية اللاتاريخية إلى الظواهر الاجتماعية، وهي في العمق تفشي عدمية معرفية متشائمة، لا تختلف عن العدمية المقصودة، تشترك فيها عدة تيارات سياسية وفكرية، أبرزها رهط لا بأس به من مثقفي"الحداثة"بتفكير أقلوي"علماني"الظاهر أهلي الباطن. هنا يندرج اليسار العالمي والعربي بنسبة معقولة كاليسار التونسي مثلاً، واليسار العربي الممانع بغالبيته العظمى، مراكز الاستشراق الغربية، وفي الأخير النوى الأمنية الحديدية للأنظمة المافيوزية آصف شوكت وجميل حسن، ولعل الطريف في الأمر أن هذه التيارات تدعي التناقض التام في ما بينها!. لا شك في أن العدمية السورية الإسلامية المقاتلة في سورية، تسند نفسها ثقافياً على نص إسلامي تأسس لحظة البعث الأولى، ولعل النص الإسلامي بالتحديد يضمر ميزات تجذب العدم، لا تتوافر بنفس الجرعة في نصوص أيدلوجية أخرى، كإنكار الوجود الخارجي، وسحب الثقة من العالم، وتحقير الذات الإنسانية المدنسة للأبد لصالح ما هو أعلى وأكثر قداسة. ولكن هذا العدمي الكامن، من المستحيل أن يظهر من دون وجود عوامل واقعية وموضوعية سياسية واقتصادية ومذهبية واجتماعية ونفسية. ومن التبسيط الكبير الجزم بأن النص قابل لبث العدم في أي زمان ومكان، بمعزل عن المحيط والبيئة، وهذه المصادرة الاستباقية تجاه فعل النص وليس رد فعله لا تختلف عن نظرة أصحاب النص نفسه إليه!. كنص لا يتأثر بشكل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك اللحظة التاريخية. أي أنه فوق الزمان وخارج المكان. الواقع المهشم يستنطق العدمي في النص، والعدمي في النص غير قادر من تلقاء ذاته على تهشيم واقع سليم. صفوة القول إن العنف الطائفي الثأري للنظام السوري، الذي يأخذ الحيثيات الأهلية في الاعتبار، والمكثف منذ سنتين تجاه بيئات اجتماعية مختارة من دون غيرها، هو العامل الحاسم الأول في توفير البيئة الخصبة لتركيب أي نص عدمي على تلك البيئات. والحال فإن كثيراً من تحليلات المتابعين للوضعية السورية الراهنة، تنضح بالندم واللوم، وهو لوم للذات على"سرقة الثورة"من"مدنيتها"و"سلميتها"، وبأن المجتمع السوري كان مجتمعاً مدنياً مكتمل الملامح، وقامت قوى خارجية بإدخال السلاح بكميات وفيرة، بالإضافة إلى نظام ذي ذكاء مطلق ومقدرة كلية، استحدث لنا جماعات إرهابية لا نعرف من أين؟!. ومن دون التقليل من أهمية الخارج في عسكرة الواقع السوري، وخبرة النظام الأسدي اللعب في عتمة تنظيمات القاعدة، إلا أن تمحصاً دقيقاً في بنية الواقع السوري قبيل انطلاق الثورة الاجتماعية- السياسية، يكشف أنه من الخطأ معرفياً وواقعياً وتاريخياً الحديث عن مجتمع مدني منجز ومكتمل الصفات، لأن أغلب المدن الموجودة في سورية كانت قرى ريفية لم تتحول إلى مدن بفعاليتها الذاتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بمعنى آخر حصول حركة تطور صناعي وثقافي في القاع الأهلي تسبب في تحلل العلاقات الاجتماعية الأولية، وفتح المجال لحيز اجتماعي تبنى فيه العلاقات على أساس الشراكة الاقتصادية والتوافق السياسي، بل إن أغلب القرى تحولت إلى مدن بفعل سلطوي خارجي قسري وليس بتطور تاريخي تدريجي. فرأس المال السلطوي والأبنية التابعة للطغمة الحاكمة وبعض الإسمنت المسلح، غير كاف لتمدن حقيقي وفعال، وإلا فما تفسير أن العرف الأهلي العشائري ما زال موجوداً في قانون الدولة الوضعي؟، وأن العلاقات الأهلية ما زالت تلعب دوراً تأثيرياً فاعلاً في أغلب مناطق سورية؟ فما الذي نتوقعه من حراك متنه هذا الريف السني العربي المهمش، ويتعرض إلى هذا العنف المهول، بل إن العسكرة التامة قد تأخرت قليلاً، وكابرت تلك البيئات وعضت على جرحها كثيراً، مجاملة للتفكير السائد وأقصد هنا"المدني"منه بالتحديد. عسكرة الواقع السوري هو سياق واقعي وتاريخي طبيعي موافق تماماً لتلاقي عدة شروط أهمها بالترتيب، طبيعة المجتمع السوري قبيل تفجر الثورة السورية، العنف المهول النوعي للنظام الفئوي وعلاقته غير العادلة مع المكونات الخامة، السكوت الدولي والانسداد السياسي. الأداء السياسي الرث والركيك للمعارضة السورية والتدخلات الإقليمية الطائفية. "أبو صقار"عرض لا أصل، نتيجة وليس سبباً. * كاتب سوري