أنا من جيلٍ = ثقافيٍّ وسياسيٍّ تصحُّ تَسميَتُهُ بجيل 5 حزيران يونيو. والنسبةُ في التسمية إلى حدثِ الهزيمة الذي وَقعَ على الرؤوس والنفوس- في تلك الأيام الستة النَّكْباء من تاريخنا المعاصر- وَقْعَ الصَّدمةِ الموجِعة. الصغارُ من أبناء هذا الجيل كانوا مراهقين أو دون سنّ المراهقة- وأنا منهم- والكبارُ مَا تَجَاوزوا سنّ العشرين في معظمهم . لكنهم جميعاً، كباراً وصغاراً، شبُّوا وتدرَّجَ وعيهُم السياسيّ في حقبة الهزيمة، وَوَصَمتْهُم هذه بما ظلَّ في العميق من نفوسهم محفوراً كالوشم شاهداً ومذكّراً. ولقد شاءت ظروف التاريخ- وهزيمةُ يونيو من تلك الظروف- أن يسْلُكَ هذا الجِيل مسلكاً في السياسة والثقافة وضَعَهُ في موقع أقصى اليسار في المجتمع والحياة السياسية. ورضِيَ هو بهذا الموقع وارتضاه، وخَالَهُ- في لحظةٍ من يوتوبيا استبدَّتْ به - الموقعَ الذي يَجُبُّ ما قبْلَهُ ويبتدئُ به التاريخ! حين يتحدث عن الهزيمة أبناءُ هذا الجِيل - مِمَّن خرجوا إلى الدنيا في سنوات الأربعينات والخمسينات- فهم يتحدثون بالتَّبِعَةِ عن ظروف ميلادهم السياسيّ والثقافي وما شابَ ذاك الميلاد من أوْجُهِ الْتِباسٍ وتعقيد، وقد يفسّرون - أوْلا يفسّرون- عثرات مسِيرِهم في اللاحق من السنوات السبعينيات والثمانينيات بما قضى ذلك النمطُ الصّعب من الميلاد بأن يكونوا عليه بعد أن يسيحُوا في أرض السياسة حاملين معهم مواريثهم. وحين يقرأون حقبة الهزيمة اليوم، وقد أكملت أربعينيتَها بحساب السنين، فإنما يقرأون تاريخَهم السياسيّ والثقافيّ ويضعون حصيلته في ميزان التقدير. لا جَرَمَ إذن أن يكون التفكير في الهزيمة تفكيراً في الجِيل الذي أنجبتْهُ وخرجَ من رحمها، وفي ما قدًّمَهُ للمجتمع والوطن والأمّة وهو يجذّف ضدّ تيار الحقائق التي أطلقتْها الهزيمةُ منذ ذلك الحين ومازالت على أوضاعنا تنهمرُ من دون انقطاع من بعد أن فَرّخَتْ هزائمَ أصْغَرَ وأكبر. وُلدَ الوعيُ السياسيُّ لهذا الجيل في لحظةٍ تاريخية عنيفة فأتى على مثالها وعياً عنيفاً. وليس القصد أنه تشكَّلَ كوعيٍ يُؤمِنُ بالعنف كوسيلةٍ في العمل السياسي فحسب، بل القَصْدُ أنه بات جانحاً إلى التعبير عن نفسهِ والأفكار في صورٍ وأشكالٍ من الغُلُوِّ المسكون بنزعةٍ إطلاقية وإيمانية تُشبِهُ في الحِدَّةِ والانغلاق أيةَ نزعةٍ إيمانية تُكوّنُها سلطُة النصوصِ المقدّسة في النفوس.ولقد أنْتَجَ خطابَ رفضٍ، وما كان لخطابه إلاّ أن يكون كذلك في لحظةِ الانشاء، وهل كانت اللحظةُ تلك إلاّ لتَحْمل على مثل ذلك الرفض؟ لكنه، وتحت وطأةِ عقيدةٍ نقدية راديكاليةٍ جامحة، أَوْغَلَ في الرفض إلى حدود العَدَمية فتحوَّل الرفض من سلوكٍ نقديّ مشروع إلى ايديولوجيا رفضوية. وهذه ايديولوجيا تفتقر إلى الحسِّ التاريخيّ والواقعيّ حيث تُحِلُّ الرغبةَ مَحَلَّ الواقع وتميل إلى المفاصلة والقطيعة ولا تُلْقِي بالاً إلى الاستمرارية والتراكم. إنها الايديولوجيا التي يؤسِّسها مبدأ الرغبة لا مبدأ الواقع إِنِ استعرنا مفاهيم التحليل النفسي. وهي لذلك السبب مسكونةٌ برؤية معيارية إلى الأشياء: إلى السياسة والمجتمع والتاريخ والذات"تفكّر بمنطق الواجب لا بمنطق الممكن، وتَكِلُ للذات، للإدارة، دوراً عجائبياً وخرافيّاً تنوء بحَمْلِه! هكذا أتى عنف ذلك الوعي مزدوجا: عنفاً ضدَّ الواقع وطبائع الأشياء ونواميس التاريخ وعنفاً ضدّ الذاتِ عينِها. وفي مثل هذه الحال، لا يشطحْ الوعيُ قارئاً في الأشياء والواقعات، بل يَذْهَلُ عن الذات نفسِها، ذاتِه، فينكفئ إليها شقيًّا يَجْلِدُها عند منعطفات التأزُّم. ولقد نَجَمَتْ حدِّيَةُ ذلك الوعي العنيف عن موروثٍ ثقافيًّ حَمَلَهُ معهم أبناء جِيل الهزيمة في ارتحالهم إلى ضفاف"الثورة": الثورة على"كل شيء"ما خلا على ذلك الموروث الذي حملوهُ معهم وفيهم كعاهةٍ مستديمة! والموروث الثقافي الذي أعني هو النظرة التقديسية والإيمانية المطلقة إلى الأشياء التي تقول فيها النصوص المقدسة كلمتها العليا فينصاع لِمَقُولِهَا المؤمنون. كانت صلةُ أبناء هذا الجيل =اليساري بالنصوص الفكرية التي كوَّنتْ وعيَهم على مثال أيةِ صلةٍ نَسَجَها الوعيُ الفقهي التقليدي بِمَرَاجِعِهِ. فيها من الإيمانية المُفرطة والتقديس ما يُعطّل كل مَلَكَات الفكر ما خَلاَ"مَلَكة"ا لحفظ والاستظهار والاجترار. كان له -هو أيضا- سلفه الصالح: ماركس وإنغلز ولينين. ولا بأس إن كان معهم بعضُ الشُّرَّاح، فالتَّحْشِيَّةُ والشروح والمختصرات ممَّا يؤخَذُ به عند من زَاوَلَ هذا النمط من العلاقة الاتباعية بالنصوص"المقدسة". ولأن هذه النصوص فوق التاريخ، أو هكذا على الأقل فُهِمَتْ، فَعَلى الوقائع أن تَؤُوبَ إليها فتدخل في أقانيمها المتعالية أو تُسْتَدْعى من طريق الاستدلال التجريبي بها على العِلْم المطلق الذي في صدور السَّلَف. أما أن تُقْرأ النصوص في ضوء الوقائع، فتلك كبيرةٌ من الكبائر التي لا يأتيها إلاَّ مارقٌ تحريفيٌّ! ولقد كانت تلك النظرة السلفية التقديسية لنصوص السلق عند جيل اليسار سبباً في رسوخ تقاليد مَرَضية في ممارسته"الفكرية"وفي"تحليله"للواقع والظاهرات الاجتماعية،وفي القلب منها نزعته الطبقوية وإفراطه الاقتصادوي. كل شيء-في عقيدته الجديدة- مشدود إلى علاقات الصراع الطبقي لا يحيد عنها أو لا تحيد عنه. إنّ أيَّ تفصيل في يوميات الاجتماع والسياسة والثقافة والحياة لا يَقْبَلُ النظر إليه إلاَّ بما هو وجْهٌ صريحٌ أو مُضْمَر من وجوه التجلّي المطلق للمُنازعة الدائمة بين الطبقات. حتى القصيدة لم تُفْلِت من وجبات التحقيق"النقدي"في انحيازاتها الطبقية، وهي إن لم تؤْخذ مفرداتُها بالجُرْم المشهود أحيانا، عُزِيَ استعصاؤها على المساءلة إلى إرادة التخفّي والتًْوْرية التي اعتادتْها الثقافة البورجوازية ستْراً لعورتها الطبقية! لم يتساءل أحدٌ من فقهاء اليسار العربي إن كان في مجتمعاتنا طبقات على مثال تلك التي تتحدث عنها النصوص"كان لابدّ من أن توجد هذه الطبقات ولو كَرِهَ الكافرون. فوجودُها شرطٌ لازبٌ لشرعية الخطاب الناطق باسمها. ولَكَ أن تقول الشيءَ نفسَه في اقتصادويته: كل شيء ينبع من أسباب اقتصادية ويرتدُّ إلى الاقتصاد في نهاية"التحليل". حتى الفكر التقليدي يمتنع عن التعليل إلاّ بما هو تعبير عن استمرار فعل علاقات الإنتاج قبل - الرأسمالية، وكأن الرأسمالية في مجتمعاتنا لا يمكن أن تتعايش مع التقليد وتعيد إنتاجه، أو كأن التقليد لا يقبل النظر إليه في تاريخه الثقافي والاجتماعي الخاص من دون الشدّ بخناقه وجرِّهِ عنوةً إلى ميدان الاقتصاد لإقامة الحجَّة عليه! غير أن أمَّ المفارقات في وعي هذا الجيل من اليسار أنه إذْ يستميت في التزامه حرفية النصوص"المقدسة"التي تُؤَثِثُ وعيَه، وفي تطبيق وصفات"التغيير"ولو لفظاً التي جربتْها حركاتٌ ثورية حديثة ومعاصرة جهَّزتْ أيَّامُها وبطولاتُها مخيالَه، لا يجد غضاضة أحياناً في تعطيل مقولة العوامل الموضوعية التي تصنع لحظة الأزمة الثورية وفي استسهال الاستعاضة عنها بالعوامل الذاتية، فتكون النتيجة أن تنقلب اللعبة عنده انقلاباً كاملاً فتتغير حدودُها ومفرداتُها: من علم الثورة إلى فنّ الثورة. هكذا قَضَى الفقه السياسي لليسار بتحوُّل الارادوية إلى عقيدة سياسية، وهكذا أصبحت عملية التغيير الثوري بسيطة مبسَّطة جدّاً بحيث لا تحتاج إلى أكثر من الأمر الإرادوي المُطلَق: كُنْ فيكون، لكنه لم يكن! ولقد ظل هذا الوعيُ عنيفا وحدّيًّا وإيمانيا تقديسيا وإرادويا حتى لدى من خرجوا من حَوْمَةِ اليسار فكريًّا وسياسيًّا فوجدوا ضالَّتهم في الحركة الإسلامية أو في"الظلال الوارفة"لليبرالية في عصرها المحافظ الجديد. كلما قرأتَ لأحدٍ من المثقفين الرُّحَّل اليساريين سابقاً وهو يتنقل بين موقع فكريّ وآخر ويستبدل هذا بذاك كما يستبدل قمصانه، تجدُهُ عنيفاً حدّيًّا وإيمانيًّا إطلاقيا أينما حَلَّ وانتجع! وفي كل موقع فكريّ هو على حقّ وغيرُهُ على باطل. إنها ثقافة"الفرقة الناجية"يحملها معه في الحلّ والترحال، تسْكُنُه وتعيث فيه إمساكاً، لا يغيّر منها ما قرأهُ لماركس ولينين أو لروسو وتوكفيل أو للغزالي والتابعين. فهؤلاء في وعيه قشور وهي فيه الثقافة العميقة التي لا تهزُّها النصوص السانحة الطوارئ. *** كان وعي هذا الجِيل على موعدٍ مع حدث هزيمة 1967، أي على موعدٍ مع تاريخ ميلاده، كي يختبر نفسَه. لم يكترث كثيراً لمعنى أن تكون الهزيمةُ هزيمةً لمجتمعاتٍ وأمّة في المقام الأول قبل أن تكون هزيمةَ دولٍ أو جيوش. فما كان يُريحُهُ مثل هذا التعيين، كان يكفيه أن يقول إنها هزيمةُ نظامٍ سياسيٍّ الناصري وما شاكَلَهُ، وهزيمةُ طبقةٍ اجتماعية الطبقة الوسطى، وهزيمةُ مشروع سياسيّ المشروع القومي، وهزيمةُ أسلوبٍ في القتال الحرب النظامية، حتى يستقيم مشروعُه الجديد. ومشروعُهُ هذا زَعَمَ أن للنصر شروطاً لا سبيل إلى الازورار عنها: قيام أنظمة ثورية تسيطر فيها طليعة بروليتارية، وانتصار المشروع الاشتراكي، وإطلاق الحرب الشعبية طويلة الأمد. إنه مشروع جاهز، جرَّبَهُ الثوريون قبلنا، وما علينا إلاَّ"أن نضرب بأيدينا"- كما يقول ابن رشد-إلى تجاربهم فنأخذهُ ونلتمس له تطبيقا. أمّا هل تتسع الأوضاع العربية لميلاد مثل هذا المشروع ولتحقيق فقراته كُلاًًّ أو أبعاضاً، فذلك مما ليس في نطاق مشمولات التفكير لأن البَوْح به اعتراضٌ بورجوازيٌّ صغير على هذا المشروع الثوري أوشيءٌ بهذه المثابة. ومن ذا الذي يجرؤ حينها على التساؤل عمَّا إذا كانت لدينا طبقة بروليتارية ثورية، بل طبقة عمَّالية أصلاً في مجتمعٍ زراعي! أو عن إمكانية قيادة تنظيمات اليسار الماركسي- اللينيني لعملية تغيير ثوري وهي تكاد تكون معزولة في أوساط الطلبة وفئات من البورجوازية الصغيرة! ومن كان يقوى على طرح السؤال في ما إذا كان قيام الاشتراكية أمراً ممكنا في مجتمعٍ يعاني من النقص الحادّ في الرأسمالية نفسِها، أو في ما إذا كان من الجائز إطلاق حرب شعبية طويلة الأمد في صحراء سيناء المكشوفة على غير ما فعل ثوار الصين وثوار الفيتنام وثوار كوبا في الجبال والأدغال! كان السؤال ممنوعاً على المريدين، أما الخصوم، فلهم أن يسألوا ما شاؤوا، لكن اليسار غير مستعد للإصغاء إلى من يشكِّك في علم الحقائق المطلقة! وحين اندلعت حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، وتحقَّق فيها ذلك النّصر العسكريّ النسبي، لم يكن النظام قد أصبح ثوريًّا، ولا البروليتاريا صعدت إلى السلطة، ولا الاشتراكية قامت، ولا الجيوش خاضت حرب تحرير شعبية، لكن اليسار لم يكن مستعداً لوضع أفكاره المجرَّدة ومُطْلقاته الإيمانية موضع تساؤلٍ ومراجعة لأن في ذلك مُسَاوَمة مع الواقع"غير مبدئية"يأباه لنفسه! من المؤسف أن رصيداً فكريًّا نقديًّا هائلاً من المراجعات أو من الأطروحات التأسيسية الرصينة، قدّمتْهُ حينذاك كتابات عبد الله العروي وياسين الحافظ وإلياس مرقص، كان تحت تصرُّف اليسار كي يعيد قراءة ما جرى في تلك الأيام النكباء بوصفه حصيلة حالٍ من التأخر والفَوَات التاريخي للمجتمع العربي، وحصيلة تردّد التقدميين في الأخذ بأسباب التقدم التأسيسية الحداثة الفكرية وتحقيق الثورة الثقافية، وليس مجرّد مسؤولية نخبةٍ في السلطة فحسب. كان تحت تصرّفه مشروع فكريّ جديد لمقاومة الهزيمة من مدخل التفكير في إعادة بناء عمرانٍ ثقافي، سياسي، اجتماعي... حديث، لكن اليسار- إلاّ من رحمَ ربُّك - أدْمَن إدماناً فكرة شَيْطَنةِ السلطة والدولة وتقديس المجتمع والشعب وحسبانه الرَّحِم التي تحمل البديل الثوري الجاهز. الدولة موطن الفساد"أما المجتمع، فمغلوب على أمره، ولو خُلِّيَ بين الناس وبين مصيرهم من دون تدخُّل النخب الحاكمة،لاستقامتْ الأمور. ولم تستقم، انقلبتْ عكساً: فكلما غابتِ الدولة أو اضمحلت، خرجتِ العصبيات من أغمادها يُقاتل بعضُهَا بعضا، فابتعدنا عن فرضية الطبقات أكثر فأكثر ! لم تكن مشكلتنا- مثلما اعتقد اليسار- في أن الدولة قوية، بل كانت، ومازالت، في أنها ضعيفة أو لم تقُم لها قائمة بالمعنى الحديث. قوية بشرعيتها الوطنية والدستورية لا بأسنانها وأظافرها. وتلكم مسألة أخرى. *** لم يوفّر اليسار مفردةً قاسية لم يستعملها في نقد النظام الناصري والأنظمة الوطنية التي من نوعه. ذهب عبد الناصر ونظامُه ومشروعُه ولم يفعل هذا الجِيل اليساري شيئاً. لم ينجز ثورته ولا أتى بنظامه ولا بمشروع ينفع الناس.ظل يتفرَّج على الطفيليين وهم يراكمون الثروات غير المشروعة، وهم يَحْكُمُون ويتوارثون الحكم، وهم يقودوننا إلى الهزائم والصُّلح المُذل...، واكتفى بالإدانة في أحسن أحواله، أما قسمٌ عريضٌ منه، فآثر التوبةَ عن ماضيه والأَوْبَةَ إلى مَن كانوا في عِداد الأعداء والخصوم. ولقد آن لهذا الجيل أن يحاكِم تاريخه بنفسه. وتلك طريقةٌ أخرى لإعادة قراءة الهزيمة. * كاتب وجامعي مغربي.