بالنسبة إلى برتراند راسل كان «لايبنتز من أبدع عقول البشرية، ولكنه لم يكن كإنسان جديراً جداً بالإعجاب. صحيح أنه كان يتمتع بكل السجايا التي يجب أن يتمتع بها موظف ممتاز. فقد كان شغّيلاً، قنوعاً، صبوراً، ومستقيماً من الناحية المالية. لكنه كان يفتقر كل الافتقار إلى السجايا الفلسفية الرفيعة التي يمكن أن تلحظ لدى سبينوزا مثلاً». أما بالنسبة إلى كارل ياسبرز فإن «لايبنتز شمولي مثل أرسطو، أغنى من جميع فلاسفة القرن السابع عشر مضموناً واختراعاً. لا يعرف النصب، ذكي دوماً، ولكن الميتافيزيقا التي ابتدعها تفتقر إلى نفحة من الإنسانية لتسري في أوصالها كلها». يقيناً أن راسل حين تحدّث عن لايبنتز، كان يستعرض في ذهنه كل حياة هذا الذي يرى فيه كثيرون اعظم فيلسوف ألماني حتى ظهور كانط، بينما كان ما يجول في ذهن ياسبرز، إذ يأخذ على لايبنتز هذا المأخذ (افتقار ميتافيزيقا)، كتاب «المونادولوجيا» الذي كان آخر ما وضعه لايبنتز قبل موته، وفيه قدّم ربما خلاصة تفكيره طوال عقود طويلة، وخلاصة اشتغاله على الفلسفة والأخلاق والسياسة: خلاصة حياة. فلئن اتسم هذا الكتاب الميتافيزيقي الخالص بسمة التقشّف، ولئن اعتبر خلاصة حياة مؤلفه، كيف يمكن بعد القول عنه إن مؤلفه كان أغنى من جميع فلاسفة زمنه؟ إن في هذا تناقضاً في النظر إلى هذا الفيلسوف الكبير، سوف يسم كل الكتابات التي تناولت حياته وعمله على أية حال. والحقيقة أن كتاب «المونادولوجيا» يكاد وحده أن يكون كافياً للكشف عن فلسفة لايبنتز وحياته، وكذلك تناقضاته، والحقيقة أن في وسعنا أن نؤكد هنا ومن خارج نصّ الكتاب الذي نحن في صدده أن التناقض لم يعمّ فكر لايبنتز فقط، بل عم حياته كلها أيضاً فلقد كانت وفق معظم الذين كتبوا عنه - بصرف النظر عما قد يمكن أن نستنتجه بأنفسنا انطلاقاً من قراءة معمّقة لكتابه «الختامي» الأساسيّ الذي يشغل موضوعنا هنا -، حياة شديدة التقلب، اختلط فيها الطموح السياسي بالنزاع مع الكنيسة، وإقبال المفكر على الفلسفة العلمية بنزوعه إلى الفلسفة الأخلاقية، وبرغبته في نسف منظومات كل من سبقه من فلاسفة، ناهيك بتجواله الدائم بين البلدان واللغات. غير أن أية قراءة متأنية ودقيقة لكتاب «المونادولوجيا» على ضوء سيرة حياة مؤلفه ومساره الفكري والعملي، قد تكون كافية لاكتشاف المبررات الفلسفية الحقيقية التي وقفت دائماً وراء دوافع هذا المفكر. ولعل برتراند راسل، في تحليله هذا الكتاب، وإن بإيجاز، في الفصل الشيق الذي كرسه لصاحبه في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» كان أفضل من قدّم المفاتيح الممكّنة من فهم لايبنتز ككل. يبدأ راسل بالقول إن لايبنتز «أسّس فلسفته، مثل ديكارت وسبينوزا، على فكرة الجوهر، لكنه يختلف اختلافاً جذرياً عنهما بصدد العلاقة بين الذهن والمادة، وبصدد عدد الجواهر» وهذا ما يفصّله لايبنتز في كتابه «المونادولوجيا»، حيث يسير على غرار الذريّين اليونانيين القدامى (ديمقريطس وأبيقور وغيرهما)، ليقول إن نقطة انطلاق الميتافيزيقا تكمن في مفهوم «المونادا» أي المتناهي في الصغر، الوحدة التي لا تتجزأ، الذرة، أي الجوهر البسيط غير المركّب. لكنه لا يعني هنا «الذرة الفيزيائية» المادية، بل مركز الطاقة المزوّد بعنصري التلقي والاشتهاء. وفي هذا المعنى يرى لايبنتز أن الجوهر البسيط هذا، لا يولد ولا يموت، ولا يتبدل إلا من ذاته. ويرى لايبنتز في هذا جذر الفردية الأولية، تلك الفردية التي لا تتبدل إلا بفعل قدرتها على تلقي إشارات الوجود الكونية ولما كان كل جوهر بسيط يحمل في داخله، كمياً، مجموع ما في الكون، فإن وعي الجوهر بقوانينه الخاصة، إنما هو الوعي بقوانين الكون. ويرى لايبنتز أن كل جوهر فرد يعكس الكون، «لا لأن الكون يؤثّر فيه، بل لأن الله قد وهبه طبيعة تنتج هذه النتيجة»، إذ ثمة «تناغم قائم مسبقاً» بين التغيّرات في جوهر فرد واحد والتغيرات في آخر، وهي تغيّرات تولد مما يشبه التفاعل. ويفسر راسل هذا بأن ذلك التفاعل «كما هو واضح، امتداد لمثل الساعتين اللتين تدقان في اللحظة نفسها، لأن كلاً منهما تحفظ الوقت بدقة. ولدى لايبنتز عدد لا متناه من الساعات، نظمها الخالق كلها لتدق في اللحظة نفسها، لا لأن كلاً منها يؤثر في الأخرى، بل لأن كلاً منها في حد ذاته عبارة عن ميكانيزم دقيق دقة كاملة». ويشرح راسل بأن «الجواهر المفردة تشكّل سلماً تراتبياً يعلو فيه بعضها على البعض الآخر، عبر درجة الوضوح والتميز اللذين تعكس بهما العالم» و«الجسم الإنساني نفسه، يتألف من جواهر مفردة، كل منها نفس وكل منها خالد، ولكن هناك جوهراً فرداً واحداً مسيطراً، هو ما يسمى نفس الإنسان الذي يشكل جزءاً من بدنه (...) والتغيرات في الجسم البشري تحدث بفعل الجوهر الفرد المسيطر: فحين تتحرك ذراعي فإن الغرض الذي تخدمه الحركة هو في الجوهر الفرد المسيطر، أعني ذهني، لا في الجواهر الفردة التي تؤلف، ذراعي». إن لايبنتز، في انطلاقه من هذه الحقائق البسيطة، التي فيها تمتزج معارفه العلمية بمدركاته الفلسفية، بنزوع فكره إلى الميتافيزيقا، يصل إلى تقديم أدلة حاسمة على وجود الله بوصفه جوهر الجواهر، ومن ثم يفسر تميّز الإنسان في الكون، حيث انه الوحيد الذي لديه عقل هو جوهر الروح التي هي بدورها جوهر النفس. ومن الواضح هنا أن تحليل لايبنتز لمسألة الجواهر وتراتبيتها هذه يفضي، كما يشير عبدالرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية إلى «تقرير وجود إدراكات صغيرة إلى جانب الإدراكات الكبيرة»، وتبعا لذلك يضع لايبنتز ترتيباً تصاعدياً للمونادات (الواحدات) أي الجواهر، من أدناها إلى أعلاها. فالواحدات الدنيا مجرد قوى نشطة تنفد وتموت، على نحو غامض ويربطها بدوي بما نسميه المواد اللاعضوية. وأعلى منها الجواهر الخاصة بالنبات، وأعلى من هذه تلك الخاصة بالحيوان، وهكذا حتى الوصول إلى الجوهر الفرد الأعلى، الذي هو أعلى درجة قبل الوصول إلى جوهر الجواهر. عندما وضع لايبنتز كتاب «المونادولوجيا» بالفرنسية في العام 1714 من أجل أوجين أمير سافواي، كان في الثامنة والستين من عمره. وكان لا يزال أمامه عامان قبل رحيله الذي أنهى حياته الغريبة وأفكاره الطموحة، التي جعلته يتقرب إلى أصحاب القرار السياسي، مرة في فرنسا لإقناع لويس الرابع عشر بغزو مصر للقضاء على الدولة العثمانية، ومرة في روسيا لإقناع بطرس الكبير باتباع خطة تنظيم مدينته وسياسته، ومرة ثالثة في محاولة لإقناع شارل الثاني عشر بغزو الصين لتمدينها(!). ومهما يكن من الأمر فإن لايبنتز المولود العام 1646 في لايبزغ والراحل العام 1716 في هانوفر، لم يصرف حياته كلها في السياسة، إذ انه كان عالماً وفيلسوفاً ولاهوتياً ومهندساً ورياضياً. وقد خلّف، إلى حياته المتقلبة، عشرات الكتب المهمة ومنها، إلى «المونادولوجيا»، «في فن التركيب» و«منهج جديد لحل مشكلات القانون» و«طبيعة الاعتراف رداً على الملحدين» و«مقال في الميتافيزيقا» و«في إصلاح الفلسفة الأولى ومعنى الجوهر» و«محاولات جديدة في الفهم البشري» ، الذي يعتبر من اشهر كتبه واكثرها شعبية خصوصاً أن لغته أتت اكثر بساطة من لغة كتبه الباقية حتى وإن كانت بشكل عام لغة بالغة الصعوبة والتركيبة. [email protected]