في السادس من أيلول (سبتمبر) 1964، وبعد أقل من عام على اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، وفيما العالم كله يبدو ذاهلاً ليس فقط أمام عملية الاغتيال نفسها، بل خصوصاً أمام غرابة التحقيقات والتقارير الجنائية، نشر فيلسوف كبير، - بل واحد من كبار الفلاسفة في ذلك الزمن - دراسة لم تثر، في الحقيقة، انتباهاً كبيراً. ذلك أن فحوى ما جاء في تلك الدراسة كان مماثلاً لكلام كثير كان يطرح في ذلك الحين. وكان يطرح، بصورة خاصة، على شكل أسئلة واحتجاجات واعتراضات على استنتاجات رسمية أميركية طاولت الجريمة لتبدو غير مقنعة لأحد. الحسّ الشعبي، الأميركي والأوروبي بصورة عامة، كان يميل الى رفض معظم الطروحات الرسمية، وكان كل شخص وكل مجموعة يدليان باقتراحات وتكهنات بحيث ضاع كل شيء في كل شيء وبدت الأمور متشابهة الى درجة لا يمكن معها كلام فيلسوف أن يبدو مميزاً وجديراً باهتمام خاص. ومن هنا مرّ النص مرور الكرام على أهميته. ولعل الجانب الأكثر من هذه الأهمية هو الأسلوب الذي تعاطى به كاتب النص، الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل مع الموضوع. فالحال أن قراءة هذا النص الذي أربى عمره الآن على الأربعين سنة، ترينا كيف ان مثقفاً كبيراً ومسنّاً في ذلك الحين (92 سنة) خرج من برج الفكر الفلسفي العاجي، حين رأى أمامه عملية اغتيال بغيضة، وكثيراً من الافتراء والكذب الرسمي يحيط بها، ليدخل المعمعة بتواضع الكاتب البسيط المكتفي بطرح الأسئلة، وذكاء المحقق العدلي الذي يتوخى الدفع في اتجاه الحقيقة، وإنسانية المواطن العادي الذي شعر أن ليس في وسعه، أو من حقه، السكوت عن المطالبة بالوصول الى الحقيقة، تحت اية ذريعة من الذرائع. طبعاً، على رغم تسييس برتراند راسل أسئلته الاحتجاجية، لا نراه يسيّس القضية كلها لمجرد التسييس المستخدم سلاحاً أيديولوجياً في معركة ما، بل يسيّسه لأنه يعرف، ويعرف الناس كلهم معه، أن الجريمة سياسية أولاً وأخيراً... ومن هنا، فإن كل الأسئلة الجنائية التي يطرحها في نصه، تهدف الى توجيه أصابع الاتهام السياسية، ليس فقط الى الجريمة، بل كذلك - خصوصاً - الى المناورات والألاعيب التي دارت من حول الجريمة ومن حول التقارير والتحقيقات الرسمية التي حاولت أن تفرض عليها تفسيرات وتبريرات كاذبة. ومن هنا، حتى وإن كان برتراند راسل قد تعمّد أن تكون الأسئلة في نصه أكثر عدداً بكثير من الأجوبة، أو تعمّد ألا يصل الى استنتاجات مباشرة، فإن النص كله يمكن اعتباره نصاً سياسياً بامتياز، ونموذجاً رائعاً لتدخل المثقف في الحياة العامة، تدخلاً يذكّر بتقاليد رائعة شهدت، منذ زمن بعيد مثقفين كباراً لا يتوانون عن استخدام فكرهم وقلمهم للدفاع عما يرونه حقاً وعدلاً... وهي تقاليد وصلت الى ذروتها مع أناس من وزن إميل زولا، ثم جان - بول سارتر وميشال فوكو وغيرهم، ما يفترض أن التقاليد فرنسية - ليأتي راسل ويعمم هذه التقاليد، وإن في شكل أقل تنظيراً وأكثر ميدانية. في نصه هذا، يستعرض برتراند راسل، منذ البداية النص الرسمي الأميركي المتعلق بالاستنتاجات التي أوصلت اليها تقارير المحققين، ولا سيما لجنة وارن، بعد شهور من العمل والجهد. وهو يستهل كلامه بالتأكيد أن الرواية الرسمية الأميركية بدت حافلة بالتناقضات الى درجة أنها صيغت وأُعيدت صياغتها ما لا يقل عن ثلاث مرات... وراسل، إذ يستعرض هذا في فقرات مباشرة وحاسمة، يطرح، وقبل أن يصل الى أسئلته الستة عشر الشهيرة، عدداً كبيراً من التساؤلات المقلقة، ومنها مثلاً سؤال حول السبب في أن كل أعضاء لجنة وارن هم قوم مرتبطون بالحكومة الأميركية؟ ومنها أيضاً سؤال محيّر يقول: إذا كانت الحكومة الأميركية واثقة كل الثقة بالقضية التي عبرت عنها، لماذا تراها أجرت كل تحقيقاتها وسط قدر هائل من السرية؟ مهما يكن، فإن هذا النوع من الأسئلة يبقى سياسياً. أما الأسئلة الستة عشر التي يجرى الحديث عنها منذ عنوان الدراسة، فإنها تبدو ميدانية أكثر. ولعل «أطرفها» ذاك الذي يورده راسل بعد أن يفسر لنا كيف أن لجنة وارن حددت ستة ملفات (أو عناوين) أرادت من خلالها أن تجري تحقيقها، وهي: 1) ما الذي فعله أوزوالد، مطلق النار على كينيدي وفق الرواية الرسمية، يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963؟ 2) ما هي خلفية روبي، - قاتل أوزوالد -؟ 3) ما الذي كان أوزوالد يفعله في صفوف البحرية الأميركية ثم في الاتحاد السوفياتي؟ 4) كيف قتل روبي أوزوالد؟ 5) ما هي خلفية أوزوالد؟ 6) وما هي الجهود التي بذلت لحماية الرئيس يوم 22 تشرين الثاني؟ إن راسل بعدما يستعرض هذه العناوين الستة يتساءل: إذاً... لماذا لم تحدد لجنة وارن عنواناً لملف يتعلق بمن قتل الرئيس كينيدي تحديداً؟ بعد هذا يستعرض راسل بقية أسئلته ومنها: «لماذا تخلى كثر من الليبراليين عن مسؤوليتهم للجنة رفضوا هم أنفسهم دراسة ظروف تشكيلها؟». وفي شكل أكثر ميدانية يتساءل راسل: لماذا ترى لاحقت السلطات أشخاصاً كثراً بصفتهم مشكوكاً في أن من شأنهم أن يقتلوا الرئيس، لكنها لم ترصد دخول أوزوالد الى مبنى مستودع الكتب، مع ما يقال من أنه كان يحمل بندقية لا يقل طولها عن ثلاثة أقدام؟ وبعد هذا يتساءل راسل: لماذا بدلت طريق الرئيس في الدقيقة الأخيرة حتى يمر أمام مكان عمل أوزوالد؟ وبعد ذلك: لماذا جرى تغيير في التقرير الطبي المتعلق بموت كينيدي؟ وفي هذا الإطار نفسه يتساءل راسل: ما هو كنه اليقين الذي أدى الى الافتراض بأن كينيدي قد طاولته الرصاصة من ورائه؟ وبعد هذا يأتي سؤال جديد يتعلق بحصول رجال ال «أف بي آي»، على فيلم صوّرته سيدة لما حصل بين مستودع الكتب ومكان سيارة الرئيس لحظة إطلاق النار. هنا يتساءل راسل: لماذا رفض ال «أف بي آي» نشر ما يمكن أن يعتبر أصدق دليل قاطع في هذه القضية؟ (ويعني به هذا الفيلم). وهنا، إذ يستعرض برتراند راسل ما سمّاه تواطؤ الصحافة الأميركية حول هذه القضية، مورداً نماذج قاطعة من دلائل ذلك التواطؤ، يتساءل كيف حدث أن ملايين من الأشخاص قد ضللوا بترهات صحافية من هذا النوع؟ وإذ يعود راسل الى أسئلته القضائية يتساءل عن السبب الذي جعل اختبار البارافين يُبَدَّل قبل أن تعلنه السلطات... وهكذا يمضي برتراند راسل قدماً في طرح هذا النوع من الأسئلة، التي - في الحقيقة - لم يجبه عنها أحد، ما سيجعل من هذا الفيلسوف الإنكليزي الكبير رائداً في مجال المطالبة الدائمة بإعادة النظر في كل ما صدر رسمياً عن السلطات الأميركية حول هذا الموضوع. ولا شك في أن بعض كبار المتسائلين المشككين لاحقاً، مثل السينمائي أوليفر ستون في فيلمه الشهير «جي. أف. كي»، ساروا على منواله في طرح أسئلتهم. بل من الواضح أن ستون قد قرأ نص راسل هذا بعناية. طبعاً ليس همنا ها هنا الحديث عن البعد الجنائي أو التحقيقي في نص برتراند راسل (الذي يختتمه صاحبه بدعوة كل المثقفين الأحرار الى الانضمام إليه والى لجنة شكلت في بريطانيا وفي عضويتها كبار المفكرين والفنانين الإنكليز في ذلك الحين)، بل ما يهمنا هو التركيز على صوابية تصرف مفكر يقترب من عامه المئة، أمام ما أحس أنه كذب وظلم، وحتى من دون أن يكون على الإطلاق من مؤيدي سياسة جون كينيدي قبل ذلك. ما حرك راسل هو حب الحقيقة. وهو بهذا أعطى درساً لمثقفي العالم كله من الذين، عن جبن أو عن ترفع، يعتبرون ان مثل هذا التدخل ليس من شأنهم، أو يسكتون عن جريمة لأن ضحيتها ليس من فريقهم! وبرتراند راسل (1872 - 1970) لم يكن مثل هذا التدخل جديداً عليه، هو الذي وسط مشاغله الفلسفية التي كانت تصل غالباً الى حدود البحث التقني الذي يستنفد عادة وقت أي مفكر، كان يجد أن من واجبه الأخلاقي مجابهة كل ظلم وكل حرب وكل اعتداء، سواء طاول أفراداً أو شعوباً. ومن هنا نراه، حين قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ب «العدوان الثلاثي» على مصر، يهاجم سياسة بلاده الخرقاء مدافعاً عن حق المصريين. وكذلك نراه يؤسس تلك الهيئة الحقوقية الإنسانية الرفيعة التي حملت اسم «محكمة برتراند راسل» لمحاكمة أعداء السلام ومجرمي الحرب. والحقيقة أن هذا كله إنما ينسجم مع فكره الفلسفي الإنساني نفسه. ولا بد لمن يقرأ أياً من كتبه الكثيرة التي وضعها طوال حياته (وتشغل الفلسفة معظم صفحاتها، مع وجود مكان للسياسة والأخلاق فيها)، من أن يلاحظ ذلك. [email protected]