في خطبة يوم الجمعة 4 شباط (فبراير) 2011 أعلن السيد علي خامنئي أن «الثورة المصرية هي استمرار للثورة الإيرانية»، وذلك قبل أسبوع من تنحي الرئيس حسني مبارك. لم يستمر هذا الخط الإيراني في النظر إلى حراكات الشارع العربي طويلاً، ليس فقط لأن هذا الحراك قد امتد إلى حلفاء، كما في سورية منذ يوم الجمعة 18 آذار (مارس) في درعا ثم في مدن ومناطق سورية عدة، بل لأن طهران أدركت سريعاً أن واشنطن لم تكرر أمام الحراكات العربية، على الأقل منذ الأسبوع الأخير السابق لسقوط الرئيس المصري، ما فعلته في طهران 1978 - 1979 حين وقفت مع الشاه حتى النهاية، وإنما استطاعت أن تركب موجة التغيير العربي من خلال إنشاء مثلث جديد اتضحت معالمه أولاً في القاهرة، وبعدها في تونس ما بعد 14 كانون الثاني (يناير)، بين المؤسسة العسكرية والإدارة والإسلاميين، ثم خلال سبعة أشهر يمنية مضطربة تعثرت عملية تشكيله في صنعاء، وهو يتشكل الآن ويأخذ قوامه في طرابلس الغرب ما بعد القذافي. أدركت طهران أن هذه الدينامية عند واشنطن، التي توازي تكيفاً شهدناه عند الأميركيين عقب سقوط حلفائهم العسكريين السابقين في أميركا اللاتينية والفيليبين وكوريا الجنوبية، قد أدت إلى بداية النهاية للمد الإيراني الذي أخذ أبعاده الكبرى بين عامي 2006 و2010 من خلال حكومة عراقية يرأسها موالون لطهران (أيار/ مايو 2006) وعملية إطاحة نفوذ حركة فتح في قطاع غزة (حزيران/ يونيو 2007) ثم عملية 7 أيار 2008 في بيروت التي أدت إلى اتفاق الدوحة وصولاً إلى منع أياد علاوي وقائمته الفائزة بالمركز الأول في انتخابات برلمان 7 آذار 2010 من تولي رئاسة الحكومة، وإنشاء توازنات أجبرت واشنطن في خريف 2010 على القبول بمرشح طهران نوري المالكي. ربما كانت العملية التي قادها حزب الله بداية عام 2011 لإطاحة حكومة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري خاتمةً لهذا المد الإيراني، وقد حصل في اليوم نفسه تكليف نجيب ميقاتي تأليف الحكومة اللبنانية مع بداية الثورة المصرية في 25 كانون الثاني، ومن المؤكد أن المرشد الإيراني في خطبة الجمعة تلك لم يكن متلمساً بعد لآليات «الربيع العربي» في تغيير المعادلات الإقليمية. وخلال الأشهر الستة الماضية أصبحت طهران في وضع جَزر من حيث قوتها الإقليمية، بخلاف حالة المد الإيراني في سنوات المنتصف الثاني للعقد الماضي، التي شهدت مداً إيرانياً زلزل كيان المنطقة، الممتدة بين كابول والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، ووصل إلى المنامة وصعدة جنوبها. وكانت نقطة انطلاق هذا المد الإقليمي وقوته الدافعة هي استطاعة طهران السيطرة السياسية، وعبر قوى عراقية محلية موالية لها، على العراق المحتل عسكرياً من الولاياتالمتحدة. أثناء سنوات 2006 - 2010 جرى تعويم الدور التركي من جانب واشنطن لموازاة المد الإيراني أو مواجهته. ولم تنجح أنقرة في ذلك آنذاك. خلال ثمانية أشهر من حراك شرق أوسط ما بعد 11 شباط 2011 (يوم تنحي الرئيس المصري) أصبح واضحاً دخول أنقرة (أو بالأحرى اسطنبول أردوغان وليس أنقرة الأتاتوركية) في حالة مد إقليمي، وبرعاية واشنطن، مستفيدة من الديناميات الداخلية لحراكات الشارع العربي التي أدت إلى بداية تعميم النموذج التركي، الذي يقوم على ثالوث الجيش والإدارة والإسلاميين، بدءاً من القاهرة. وما زيارة أردوغان الأخيرة مصرَ وليبيا وتونس سوى تكريس للزعامة التركية، من خلال ذلك النموذج، للمنطقة وتحت رعاية واشنطن. ويبدو أن تشكيل مجلس اسطنبول في 2 تشرين الأول (أكتوبر)، الذي تتزعمه جماعة الإخوان المسلمين في سورية، هو في إطار هذه «العثمانية الجديدة» التي يريد من خلالها أردوغان قلب المعادلة الإقليمية برمتها من خلال فرض نظام سوري موالٍ للأتراك عبر الإسلاميين، تماماً كما جرى في بغداد لمصلحة طهران عبر القوى الإسلامية الشيعية العراقية، وذلك بعد فشل ستة أشهر من الضغط التركي على السلطة السورية لفرض مشاركة «ما» مع الإسلاميين السوريين. تدرك طهران أن نجاح هذا في دمشق سيؤدي ليس فقط إلى فقدان مكاسبها في العراق، كما جرى بالتتابع بين معركة مرج دابق (1516) التي أدى فيها سقوط الشام بيد سليم الأول ليس فقط إلى سقوط الحجاز ومصر في السنة التالية وإنما كذلك لسقوط العراق في أيدي العثمانيين عام 1534، وإنما كذلك وأولاً إلى نجاح ما فشلت فيه «الثورة الخضراء» في طهران 2009. وهذا قد يأخذ ترتيباً عكسياً، ولكن يؤدي إلى نتائج ليست لمصلحة بلاد فارس، كما حصل عقب معركة جالديران عام 1514 التي هزم فيها إسماعيل الصفوي أمام السلطان العثماني سليم الأول والتي فتحت الطريق أمام العثمانيين إلى الجنوب عبر مرج دابق. * كاتب سوري