تفصل عشرة أعوام بين تأسيس الملك قورش للدولة المركزية في بلاد فارس وبين سقوط مدينة بابل في عام 539 قبل الميلاد بيد الفرس، ثم بلاد الشام العام التالي، وبعدهما مصر عام 525، فيما انقضت سبعة عقود من الزمن بين بدايات الدولة الحثية في آسيا الصغرى وبين معاهدة عام1280 ق م التي تقاسم فيها الحثيون والمصريون سورية الطبيعية، كما أن سقوط آسيا الصغرى بيد الإسكندر المقدوني (331 ق م) قد أدى ليس فقط إلى إنهاء السيطرة الفارسية على الشام ومصر والعراق وإنما أيضاً إلى اجتياحه بلاد فارس وصولاً الى نهر السند، وهو ما لم يستطعه الرومان الذين كان إسقاطهم (بعد السيطرة على اليونان وآسيا الصغرى) عام 64 ق م لسورية، ثم مصر (31 ق م)، ليس مؤدياً لتكرار ما فعله الإسكندر، وإنما إلى وقوفهم عند نهر الفرات. أدى هذا المسار التاريخي إلى علاقة (هي شبيهة بعلاقة الأواني المستطرقة) بين الهلال الخصيب وجواريه الشمالي والشرقي: لم يكن العصر الإسلامي استثناء حيث قادت معركتا اليرموك (636 م) والقادسية بالعام التالي إلى سقوط بلاد فارس بيد المسلمين إثر معركة نهاوند (641 م) وإلى حصار القسطنطينية (673- 678 )، كما أن نهاية الدولة الأموية عام750 ميلادية قد أتت عبر حركة كانت قوة دفعها نابعة من الشرق الفارسي، فيما كان سقوط القسطنطينية بيد الصليبيين عام 1097 مؤدياً لشيء مماثل في بلاد الشام بالعامين التاليين، وكان اجتياح التتار لبغداد عام 1258مسبوقاً بسقوط بلاد فارس ومتبوعاً ببلاد الشام قبل أن يوقفهم المماليك، الحاكمون في مصر، في معركة عين جالوت بعد عامين من سقوط بغداد. هنا، إذا كان الصليبيون والتتار قد استغلوا حالة ضعف موجودة في منطقتي آسيا الصغرى وفارس، سمحت لهما بأن يستخدموهما ممرين، فإن حالة الربع الأول من القرن السادس عشر قد أظهرت نشوء وضع جديد، متمثلاً في دولتين قويتين في تلك المنطقتين، هما العثمانية والصفوية، بالترافق مع حالة ضعف وتفكك القوة في المنطقة الممتدة بين بغداد والقاهرة: كانت معركة جالديران عام 1514، وانتصار السلطان سليم الأول فيها على إسماعيل الصفوي، مؤدياً ليس فقط إلى سقوط مدينة تبريز بالعام التالي بيديه وإنما أيضاً بلاد الشام (1516) ومصر (1517) وبعدهما العراق عام 1534 أثناء عهد ابنه سليمان القانوني. قادت نتائج معركة جالديران إلى تشكيل مشهد كامل المنطقة لمئات السنين اللاحقة حتى بدأ الفصل الغربي وغزوه للمنطقة بين عامي 1798 و1918 وما قاد إليه من نجاح لندن وباريس في إعادة صياغة مشهد منطقة الشرق الأوسط، بما فيه فارس وآسيا الصغرى، بحيث أصبحت أنقرة وريثاً صغيراً لاسطنبول تيمم وجهها نحو الغرب بدلاً من الجنوب، فيما بلاد فارس في حالة اضطراب وضعف حتى قررت واشنطن (التي حلَت محل بريطانيا هناك منذ الانقلاب على محمد مصدق في آب (أغسطس/ 1953) إعطاء شاه إيران دور «شرطي المنطقة» منذ أوائل عقد السبعينات لملء حالة فراغ القوة الناتج عن الانسحاب البريطاني من منطقة شرق السويس. أيضاً، إن حالة فراغ القوة بعموم المنطقة، الناتج من الضعف الحاصل في قوتي لندن وباريس منذ عام 1945، والحيز الذي وفرَه للقوى المحلية صراع القطبين الجديدين للعالم على المنطقة، قد أتاحا المجال لبروز قوة حركة القومية العربية، بفرعيها الناصري والبعثي، في المنطقة الممتدة بين القاهرة وبغداد مروراً بدمشق. لم تنجح الحركة القومية العربية في إدخال العرب في (نادي الأمم القوية) ولم تفلح في موضوعي (فلسطين) و (الوحدة العربية). هذا أنشأ فراغاً في القوة حاولت الحركة الإسلامية ملئه في الشارع العربي. أيضاً، إن هذا الفراغ قد امتد ليشمل الفضاء الإقليمي العربي، هربت القاهرة من استحقاقاته باتجاه (كامب دافيد)، فيما حافظت دمشق على قوتها من خلال إنشاء توازن بين موسكووواشنطن منذ عام 1976 وبعد سقوط السوفيات، عبر أدوار إقليمية تكيَفت فيها مع عالم (القطب الواحد للعالم) الذي تصادمت معه في مرحلة ما بعد احتلاله للعراق عبر محاولته تحجيم دورها الإقليمي منذ القرار 1559 (2 أيلول/ سبتمبر 2004) حتى أجبرته بدءاً من نهاية 2006 على الاعتراف مجدداً بدورها الإقليمي المتعدد الأبعاد، بينما استمر صدام حسين فوق الماء لأنه لعب دوراً صادَاً للقوة الإيرانية الصاعدة بعد استلام الخميني للسلطة في طهران 1979 والذي أراد ملء فراغ القوة الحاصل عند العرب لمصلحة إيران، وهو ما تلاقى فيه الغرب (والسوفيات الى حد ما) مع بغداد، قبل أن تتصادم واشنطنوطهران، بعد تحالفها الوقتي أثناء غزو واحتلال العراق عام 2003، بحكم محاولة العاصمة الأميركية «إعادة صياغة الشرق الأوسط»، ومقاومة طهران، التي كانت الرابح الأكبر من سقوط بغداد، لهذه المحاولة الأميركية بعد أن أصبحت ايران ليس فقط الأقوى بين العديد من القوى الخارجية الفاعلة في الداخل العراقي وإنما أيضاً قوة إقليمية، وبحكم ما جرى في «البوابة الشرقية للعرب» منذ يوم 9 نيسان (إبريل) 2003، هي الأكبر ما مكَنها من أن تكون لاعباً مؤثراً جداً في بيروت وغزة وصعدة. الآن، ومع تعثر المشروع الأميركي، الذي يدنو من حافة الفشل، يقترب مشهد منطقة الشرق الأوسط من أن يكون قريباً من مشهد عام 1514 لما كانت اسطنبول وأصفهان هما الأقوى بالمنطقة، إثر لجوء واشنطن إلى تعويم الدور التركي بدءاً من عام 2007 ودخول أنقرة بقوة وعبر رضى أميركي في كل ملفات المنطقة الكبرى، من دون أن يحجب هذا واقع أن الصراع الأميركي - الإيراني هو المحرِك الرئيس للتطورات الإقليمية: كيف سيتصرف العرب حيال هذا المشهد، ونتائجه المحتملة؟ * كاتب سوري