كان رجب طيب أردوغان لسبع سنوات سابقة، ونيكولا ساركوزي لمدة أربع سنوات، في موقع آخر مناقض لما أبدياه من مواقف إثر بدء الأزمة السورية، منذ نشوب أحداث درعا الجمعة 18 آذار (مارس) 2011. في تلك السنوات كان رئيس الوزراء التركي هو المفتاح لفك عزلة دمشق بعد الصدام الأميركي – السوري حول العراق المغزو والمحتل، وما أعقب هذا الصدام من تداعيات في لبنان ما بعد القرار 1559 (2أيلول/ سبتمبر2004)، فيما تحولت باريس ساركوزي لكي تكون بوابة العاصمة السورية إلى الغرب الأوروبي من جديد إثر تداعي مشاريع الشراكة السورية – الأوروبية عام 2004 عقب تلاقي الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك مع واشنطن في صنع القرار1559. لا يمكن تفسير هذه التحولات التركية - الفرنسية من دون المناخات الجديدة التي أدى إليها «الربيع العربي»، وبالذات مع فصله المصري (25 يناير) الذي أتى بعد أيام قليلة من انتهاء الفصل الأول التونسي. في تلك الفترة المصرية كان أردوغان أول الزعماء الأجانب الذين طالبوا تلفزيونياً بتنحي الرئيس مبارك، بينما أعطى وزير الخارجية الفرنسي الجديد ألان جوبيه، الذي ذهبت الوزيرة التي سبقته (إليو ماري) ضحية أدائها في الأزمة التونسية، صورة جديدة للسياسة الفرنسية التي كانت، منذ دعمها لانقلاب عسكر الجزائر في11 كانون الثاني (يناير) ضد المسار الانتخابي البرلماني الذي كان يعطي الاسلاميين الفوز في الجولة الأولى، من أكبر المساندين لأنظمة هي في الضفة الأخرى للديموقراطية، مثل تلك التي لبن علي وحسني مبارك والتي كانت تقمع الحريات تحت شعار محاربة الاسلاميين. ظهرت سياسة باريس الجديدة في ليبيا ما بعد ثورة 17 شباط (فبراير) ضد القذافي حين كانت باريس هي القوة الدافعة لتدخل حلف الأطلسي قبل أن تتولى الطائرات الفرنسية في منتصف آذار (مارس) قصف أرتال قوات القذافي التي كانت تتهيأ لاقتحام بنغازي. في مرحلة ما بعد سقوط باب العزيزية في 23 آب (أغسطس)، تكشف اتفاق وقعه، منذ آذار، (المجلس الانتقالي الليبي) مع شركة توتال الفرنسية يعطيها حصة الثلث من النفط الليبي. خلال أشهر مابعد حسني مبارك، ظهر أن مصر، وبرضا أميركي، تتجه، ولو بتعثر، نحو شيء شبيه بنموذج أردوغان في أنقرة الأتاتوركية، هو حصيلة تعايش ثالوث (الاسلاميون - العسكر - الإدارة)، وهو ما ظهر أيضاً في تونس مع الانتخابات، وكذلك يبدو أن ليبيا واليمن تسلكان نحو ذلك النموذج التركي. هذه المعطيات الأميركية الجديدة هي التي جعلت زيارة أردوغان للقاهرة وطرابلس الغرب وتونس في الخريف الماضي وكأنها استعادة، ولكن معنوية، للزمن الذي كانت فيه تلك المدن العربية الثلاث تدور في فلك اسطنبول. كانت هذه التحولات التركية - الفرنسية متبلورة ومكتملة حين بدأت الأزمة السورية في 18 آذار 2011: منذ نيسان (بريل)، كان كلام أردوغان عن «القضية السورية باعتبارها شأناً تركياً داخلياً» ايذاناً بطي صفحة 2004-2010 بين أنقرةودمشق، لتظهر سلسلة من المؤتمرات لمعارضين سوريين، يغلب عليهم اللون الاسلامي، بدءاً من ذلك الشهر في مدن تركية عدة، بالتزامن مع اتجاه «جماعة الاخوان المسلمين السوريين» إلى إقامة مقرها القيادي في اسطنبول. بالتوازي مع هذا، كانت مداخلات أردوغان في الشأن السوري تحوي الكثير من الأبوية وتميل إلى رسم خرائط طريق، ويقال أنه من نيسان (إبريل) وحتى زيارة وزير الخارجية التركي لدمشق في بداية آب، كانت المساعي التركية منصبة ومتركزة من أجل إقامة حكومة يشارك فيها «الاخوان المسلمون» بنسبة الثلث مع البعث، وهو ما رفضته السلطة السورية. في تلك الأشهر الأربعة مالت السياسة التركية إلى التصلب والتشدد والضغط على دمشق. بالتوازي مع هذا وخلال الأشهر نفسها. التحول الفرنسي وبدءاً من الشهر الخامس من العام أبدت العاصمة الفرنسية تصلباً وتشدداً تجاه السلطة السورية، سبقت فيهما مواقف واشنطنولندن حيث لم يتجاوز الرئيس أوباما، وكذلك دايفيد كامرون، حدود الدعوة للإصلاحات، ثم التغيير، ولكن بقيادة الرئيس السوري، فيما كان وزير الخارجية الفرنسي أول من وصل للسقف الأعلى من خلال حديثه منذ 5 تموز (يوليو) عن «أن الوضع اجتاز نقطة اللاعودة، وأصبحت قدرة الرئيس السوري على اجراء اصلاحات اليوم منعدمة في ضوء ما حدث». هنا، كانت محصلة هذا التصلب التركي – الفرنسي متجسدة في احتضانهما المشترك ل «المجلس الوطني السوري» الذي كان قيامه في 2 تشرين الأول (أكتوبر) مبنياً على فرضية الاتجاه إلى تكرار سوري» ما «للمجلس الليبي وما رافق قيامه بعد أسابيع من تدخل ل (الناتو)، وقد ذكر أحد قياديه، وهو سمير نشار، بماذا «كان سيحل بمدينة بنغازي لو لم يتحرك الحلف الأطلسي؟» (جريدة «الحياة»، 4 تشرين الأول 2011)، وهو رئيس الأمانة العامة ل «اعلان دمشق» الذي يميل ليبراليوه المنضوون في(المجلس)، هم وبرهان غليون، للدوران في الفلك الفرنسي، فيما يميل اسلاميوه إلى وضع بيضهم في السلة التركية، إلى حدود وصلت بالمراقب العام لجماعة الإخوان رياض الشقفة في تشرين الثاني (نوفمبر) للمطالبة ومن اسطنبول ب «تدخل عسكري تركي». لم تكن لندن في تلك الضفة التركية - الفرنسية، وهي التي قال وزير خارجيتها لوفد سوري معارض، في تشرين الثاني، أن «لا تكرار للسيناريو الليبي في سورية»، وهو على ما يبدو كان موقف واشنطن أيضاً: هذا يطرح اشكالية هذا التصلب التركي - الفرنسي حيال الأزمة، والذي بدأت غيوم التوترالمتراكمة بين باريس وأنقرة، بسبب الموضوع الأرمني، تنعكس على أجواء «المجلس الوطني السوري»، وهو ما جعل رئيسه ضعيفاً أمام الاسلاميين في مؤتمر تونس وفي أيام عدة أعقبت توقيع ورقة اتفاق 30 كانون الأول مع «هيئة التنسيق». أول عناصر هذه الاشكالية أن هذا التصلب يأتي من الدولتين المستعمرتين السابقتين لسورية، وليس من غيرهما. ثاني عناصرها، هي وظيفية هذا التصلب عند كل من أنقرة وباريس، التي يبدو أنها عند الأتراك سعي إلى موازنة النفوذ الايراني في العراق من خلال الوصول عبر مجريات الأزمة السورية إلى جعل وضع زعيم «جماعة الإخوان المسلمين السوريين» في دمشق شبيهاً بوضعية نوري المالكي زعيم «حزب الدعوة» في بغداد. حلم تاريخي ولكي تكون دمشق أيضاً مفتاحية في جعل النموذج التركي نموذجاً للمنطقة، كما كانت معركة مرج دابق التي انتصر فيها السلطان سليم عام 1516 المدخل إلى عموم المنطقة العربية وأوصلت الدولة العثمانية إلى حدود الإمبراطورية. عند الفرنسيين، الذين أبدوا الكثير من الحمية في الأزمة الليبية، يظهر أن عقدة فقدان النفوذ الفرنسي في جزائر ما بعد 1999 لمصلحة الأميركيين لم يتم تسكينها ولملمة جراحها من خلال المكاسب الفرنسية في ليبيا مابعد القذافي، وإنما هناك سعي الى أن يكون ذلك عبر مكاسب في منطقة شرق المتوسط، بعد أن كانت عقود شركة «توتال» مع صدام حسين في أواسط التسعينات، فيما يخص حقل مجنون النفطي العملاق في شرق مدينة العمارة، هي أحد الأسباب الكبرى لموقف جاك شيراك الرافض مشاريع جورج بوش الإبن في غزو العراق، ثم كان التوافق بينهما على القرار1559، في قمة النورماندي في 6 حزيران (يونيو) 2004، بداية لانتهاء شهر عسل الرئيس شيراك مع الحكم السوري، وبداية لتفكيره، في أشهر مابعد اغتيال الرئيس الحريري، في «تغيير» يجري في دمشق وفقاً لكتاب فنسان نوزي: «في سر الرؤساء» الصادر في باريس عام 2010.