استشاط رئيس الوزراء التركي العلماني مسعود يلماظ غضباً حين أعلن المستشار الألماني هلموت كول، في أيلول (سبتمبر) 1997، أن «الجماعة الأوروبية هي ناد مسيحي»: كان إغلاق الأوروبيين أبوابهم أمام الأتراك متزامناً مع صعود الإسلاميين في بلاد الأناضول وتراجع العلمانيين الأتاتوركيين، حتى وصل الأمر إلى الذروة مع فوز حزب «العدالة والتنمية» في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) 2002. ترافق صعود حزب رجب طيب أردوغان مع اكتمال استدارة الأتراك جنوباً وشرقاً نحو القفقاس وآسيا الوسطى السوفياتية السابقة وهو ما عبر عنه الرئيس التركي السابق توركوت أوزال حين أعلن عام 1993 قبيل وفاته بقليل عن السعي إلى «بناء عالم تركي يمتد من بحر أيجه إلى تركستان الصينية» باتجاه «العالم العثماني القديم»، بعد أن مارست الأتاتوركية القطيعة مع هذا العالم، وقد كانت دمشق، منذ زيارة الرئيس السوري إلى أنقرة في الشهر الأول من عام 2004، البوابة التي نفذ منها الأتراك و»نزعتهم العثمانية الجديدة» إلى العالم العربي، تماماً كما كان فقدان الأتراك ل «شام شريف» في خريف 1918 بداية العصر الأتاتوركي ونهاية العثماني. في تلك الفترة، كانت الولاياتالمتحدة في خضم حقبة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر)، تخوض حرباً عالمية ضد ما تسميه «الإرهاب الإسلامي»، وقد أتت إلى المنطقة بجيوشها من أجل «تجفيف ينابيع اللهب» الذي كان وصل إلى برجي نيويورك ومبنى البنتاغون، ولم يكن الأتراك (بخلاف رغبة أردوغان الذي تمرد عليه يومها نصف نواب حزبه لينضموا في تصويت البرلمان للنواب الأتاتوركيين) متعاونين مع واشنطن حين رفض البرلمان التركي فتح جبهة شمالية قبيل ثلاثة أسابيع من يوم 19 آذار (مارس) 2003 الذي شهد بدء الغزو الأميركي للعراق. شكل هذا سحابة صيف بين واشنطنوأنقرة، لم تصل إلى تعكير علاقة متينة، ليست مبنية فقط على روابط (الناتو)، وإنما على رؤية استراتيجية أميركية ترى في أنقرة حاجزاً أمام الروس والإيرانيين لملء الفراغ الجديد في القفقاس وآسيا الوسطى السوفياتية السابقة، ثم تتطور هذه الرؤية الأميركية مع فشل واشنطن في أفغانستان والعراق أمام تنظيمي «طالبان» و«القاعدة»، ما دفعها إلى تلمس «نموذج إسلامي اعتدالي» كان أردوغان مثاله المتبلور في نقطة تتجاوز للنموذج الإخواني القديم (كما يمكن رؤيته منذ حسن البنا وحتى المعلم القديم لأردوغان ممثلاً في السيد نجم الدين أرباكان قبيل انشقاق الأول عن حزب الثاني في عام 2001 وبحثه عن نموذج إسلامي يقترب من نموذج الأحزاب الديموقراطية المسيحية) وفي الوقت نفسه يشكل بديلاً إسلامياً عن ابن لادن والظواهري (وحليفاً لواشنطن أيضاً). تعزز هذا عند واشنطن مع بروز القوة الإيرانية، إثر سقوط العراق وما ولده من فراغ إقليمي، حين تمددت طهران ليس فقط في بلاد الرافدين في مرحلة ما بعد صدام حسين، وإنما أتاح لها سقوط «البوابة الشرقية» مد نفوذها في المنطقة الممتدة من كابول وحتى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط: منذ عام 2007 توضح اعتماد واشنطن على أنقرة ليس فقط لتشكيل كابح إقليمي لطهران، وإنما أيضاً باتجاه تشكيل «مخفر أمامي أميركي» في المنطقة بعد تناقص وزن إسرائيل عند واشنطن في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (ازداد هذا مع تجربة حرب تموز(يوليو) 2006 مع لبنان) وكذلك بعد فشل أميركا في تجربتها العسكرية المباشرة في عراق 2003 ومحاولتها عبر بلاد الرافدين «إعادة صوغ المنطقة» وفقاً لتعبير وزير الخارجية الأميركية كولن باول عشية غزو العراق. لم يترجم هذا عسكرياً على الصعيد الإقليمي خلال السنوات الأربع الماضية، وإنما سياسياً عبر دور إقليمي لعبته أنقرة في «الملف العراقي» و (المفاوضات السورية - الإسرائيلية غير المباشرة في النصف الثاني من عام 2008) وفي «القضية الفلسطينية»، لم تتجاوز فيه أنقرة الخطوط الحمر الأميركية، وعندما فعلت ذلك في 17 أيار (مايو) 2010، عندما رعت مع البرازيل اتفاقاً في طهران حول الملف النووي الإيراني، استغلت إسرائيل هذا «الفاول» لكي تضرب غريمتها تركيا عبر حادثة سفن المساعدات لغزة، وهو ما لم يزحزح مكانة أنقرة عند واشنطن، خصوصاً عندما فهم أردوغان الرسالة وعاد للتناغم مع واشنطن. هنا، وعند تحركات الشارع العربي خلال هذا العام، ظهر مقدار التناغم الأميركي- التركي، خصوصاً بعد مؤشرات، ظهرت في الأيام العشرة الأخيرة من عهد الرئيس حسني مبارك، على مصالحة بين واشنطن والتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين بعد خصام وقطيعة ومجابهة منذ انتهاء الحرب الباردة، ظهرت ترجماتها أولاً حين كان أردوغان الزعيم الأجنبي الأول الذي طالب تلفزيونياً الرئيس المصري بالتنحي قبل أن يقوم أوباما بذلك، ثم ظهرت ترجمتها مصرياً عبر اتجاه القاهرة إلى نموذج أنقرة بين العسكر والإسلاميين تحت الخيمة الأميركية. وفي ليبيا، وإن بعد تردد قصير، لعبت أنقرة دوراً محورياً في التحركات العسكرية - السياسية ل «الناتو»، قبل أن يظهر تلزيم واشنطن «الملف السوري» إلى أنقرة (وإن مع محاولة فرنسية لمنافسة الأتراك)، وهو ما بانت ملامحه حين استضافت إحدى المنظمات القريبة من حزب أردوغان في إسطنبول المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية في 2 نيسان (أبريل) 2011، ثم رعت أوساط قريبة من هذا الحزب مؤتمرين في إسطنبول (24 نيسان) وأنطاليا (1-2 حزيران/ يونيو) كان واضحاً الحضور القوي للإسلاميين السوريين فيهما، بالتزامن مع تصريحات لأردوغان اعتبر فيها أن «الشأن السوري قريب من أن يكون شأناً تركياً داخلياً»، مع مؤشرات إلى سعي أنقرة إلى معادلة في دمشق بين النظام السوري والإسلاميين كالتي هي في مرحلة (ما بعد 11 فبراير 2011) في القاهرة ما بين «المجلس العسكري» و«الإخوان المسلمين». * كاتب سوري.